لعنات الحرب

ما أبشع الحروب وتداعياتها... فمِن مكان آمِن، تتحوّل البلدان إلى غابة يستشرس فيها كلّ مَن حَمَلَ في قلبه البغض والأذى والطمع.

ما حَصَلَ لي مِن حوالي أربعين سنة، غيَّرَ حياتي وحياة جميع أفراد أسرتي بشكل جذريّ. وهذه قصّتي...

كانت ليلة ككلّ الليالي وكنّا مجتمعين حول مائدة الطعام حين سمعنا جرَسَ الباب. إستغرَبنا الأمر، فمَن كان ذلك الزائر الذي قصَدَنا حين كانت كلّ الطرقات غير آمنة خاصّة في هكذا وقت متأخّر؟ فتَحتُ الباب، وإذ بي أتفاجأ بأربعة رجال يسألون عن زوجي باسمه. وقبل أن يتسنّى لي أن أجيب، أزاحَني احداهم جانبًا، ودخلوا إلى غرفة الطعام وطلبوا مِن زوجي مرافقتهم. وعَلِمَ زوجي أنّ هؤلاء الناس يُضمرون له الأذى، فحاوَلَ طردهم ولكنّهم أشهروا علينا سلاحهم مهدّدين بقتلي أنا وولدَينا. عندها قَبِلَ زوجي أن يذهب معهم، بالرّغم مِن صراخي وتوسّلاتي. كانت تلك آخر مرّة أراه فيها بحياتي.

وفور طلوع الضوء، بدأتُ أركض يمينًا ويسارًا إلى كلّ مَن كان يُسمّي نفسه مسؤولاً، أكان شرعيًّا أو غير شرعيّ، ولكن جميعهم طلبوا منّي عدم البحث عن زوجي. ما الذنب الذي اقترَفَه ذلك الرجل الطيّب والمحب؟ لم أجد الجواب أبدًا.

ووجَدتُ نفسي لوحدي مِن دون معيل، في أجواء الحرب التي لا ترحم. وبعد أن نفَذَ القليل الذي كنتُ قد وضَعتُه جانبًا، لم يعد أمامي سوى ايجاد عمل. ولأنّني لم أكمل دراستي ولم أعمل يومًا، فقد كان مِن شبه المستحيل أن أجد مورد رزق. كلّ ما كنتُ أجيد فعله كان الطهي وتنظيف المنزل. لِذا أخذتُ أدور على الناس، حتى وجدتُ أخيرًا عائلة ميسورة تريد مَن يهتمّ ببيتها ويسكن عندها بصورة دائمة.

وضَعتُ ولدَيَّ في مؤسّسة داخليّة خَيريّة، واعدة نفسي أن أنتشلهما منها فور تحسّن حالتي.

 


وبدأتُ العمل والحزن في قلبي على ولَدَيَّ وعلى زوجي وعلى نفسي. وكان مِن الجيّد أنّ تلك العائلة كانت مؤلّفة مِن أناس طيّبين، وإلا لا أدري ما كان سيحصل لنا، خاصّة أنّنا صرنا بلا سقف بعدما عجزتُ عن دفع الإيجار وطردَنا المالك.

كنتُ أرى ولدَيَّ مرّة كلّ 15 يوم. كنتُ أجلبهما إلى غرفتي في بيت أرباب عملي، وأفعل جهدي كي لا ينزعج منهما أحد. كنتُ أسجن صغارَيّ في الغرفة، وأمنعهما مِن إحداث أيّ صوت خوفًا مِن أن أفقد عملي ونجد أنفسنا في الشارع. أذكر كيف كنتُ آتي لهما بالفضلات التي كانت بالكاد تكفيهما، ولا أسمح لهما بالذهاب إلى الحمّام أكثر مِن مرّة واحدة أو أثنتَين في النهار، حتى أنّني كنتُ أعطيهما وعاءً ليتبوّلا فيه وأفرغُه بنفسي في الحمّام خلال نوم سكّان البيت.

أعلم أنّ ولدَيَّ عانيا كثيرًا مِن تلك القوانين الصّارمة، ولكنّني كنتُ متأكّدة مِن أنّهما سيفهمان دوافعي لاحقًا. والأهمّ مِن ذلك، هو أنّني لم أبخل عليهما بالحنان والحب، وكنتُ أمتنع عن البكاء أمامهما وأردّد لهما دائمًا: "إنّها مرحلة مؤقّتة... الفرج قريب". ولكنّني لم أكن أبدًا مقتنعة بالذي كنتُ أقوله، فما الذي سيحصل لنا ليُغيّر حالتنا؟

وحَدَث ما لم يكن بالحسبان: قرَّرَت تلك العائلة السّفر إلى فرنسا وطلبَت منّي ربّة عملي أن أرافقهم. كان ذلك يعني أنّ عليّ ترك ولدَيَّ في بلد غير مستقّر أمنيًّا، فأخذتُ أفكّر مليًّا بالموضوع مِن كلّ جوانبه. فإن لم أقبل بذلك العرض، كنتُ سأجد نفسي في أحد شوارع العاصمة وكان ولدَاي سيربيان مِن دون أب وأمّ. أمّا اذا سافرتُ، فكنتُ سأجني الكثير وأعود إلى ولدَيَّ مع ما يُمكّننا مِن العيش بكرامة.

وهكذا تركتُ ولدَيَّ ورحلتُ إلى باريس بعد أن بكيتُ كلّ دموعي. وما أقنعَني على الرّحيل هو أنّ المؤسّسة الداخليّة كانت موجودة في منطقة آمنة لم تطَلها الحرب، أي أنّ لا خوف مِن أن أخسر فلذتَي كبدي.

وبعد وصولي إلى العاصمة الباريسيّة بقليل، تعرّفتُ إلى جالية بلادي، فقد كان العديد مِن سكان البلد قد غادروا بسبب الوضع الأمنّي، ولكثرتهم خلتُ أنّني موجودة في إحدى مدن وطني.

أخبرتُهم قصّتي فذرفوا الدّموع عند سماعها، ثمّ أعلموني عن الطرق الموجودة لجعل مِن مكوثي في باريس أمرًا شرعيًّا ومستديمًا. وبعد بضعة أشهر، ترَكتُ أرباب عملي بعدما شرحتُ لهم حاجتي إلى تأمين مستقبلي ومستقبل عائلتي، وشكرتُهم على حسن معاملتهم لي وإدخالي إلى فرنسا. لم يغضبوا منّي، بل تمنّوا لي التوفيق وانطلَقتُ إلى حياة مختلفة تمامًا.

 


كان أحد أفراد الجالية قد سجّلني صوَريًّا في شركته، فحصَلتُ على إجازة عمل ورحتُ أنظّف بيوت الناس بالسّاعة، أي أنّني ارتحتُ ماليًّا كثيرًا. لم أنسَ ولدَيَّ طبعًا، فبقيتُ أتصل بهما أسبوعيًّا وأطلعهما على سير أموري وأعدهمها بأنّ الفرج بات قريبًا. لم يكن لدَينا بعد إنترنت لأرى كيف أحوالهما وأمضَيتُ ليال طويلة أتخيّل الأسوأ. ولكن ما كنتُ أحضّره لهما كان يستحق التضحية منّي ومنهما، وأحمد ربّي على أنّ ولدَيَّ كانا ولا يزالا عاقلَين وواقعيَّين، وإلا خسرتهما إلى الأبد.

وبعد بضع سنوات، حصلتُ على الإقامة الدائمة، واستطَعت أخيرًا جلب "قطعَتيَّ الضائعتَين" مِن المال الذي وضعتُه جانبًا. فلم أكن أصرف الكثير، وذلك لأتمكّن مِن دفع تكاليف رحلتهما وشراء الملابس والأحذية لهما، فطقس باريس يختلف عن طقس بلدنا وكان يلزمهما ثياب دافئة.

وحصلتُ على مساعدة الجالية ببعض المصاريف الإضافيّة، وأشكر ربّي لأنّني أنتمي إلى شعب محبّ، على الأقل خارج بلاده، ففي الدّاخل كان يُقاتل ويُدمّر اخاه.

واجتمَعَت عائلتنا الصغيرة مِن جديد ونسيتُ تعَبي وعذابي. نسيتُ كلّ الكلام الجارح والمعاملة القاسية التي تتلقّاها كلّ عاملة تنظيفات. نعم، نسيتُ الجوع والهمّ، ونسيتُ دموعي التي ذرفتُها لبعدي عن ولدَيَّ.

عمِلتُ على أن أنسيهما سنوات المدرسة الداخليّة وشعورهما بالوحدة والخذلان.

ودخلا مدرسة حكوميّة مجّانيّة، وكانا مِن المتفوّقين بالرّغم مِن اختلاف المناهج بين بلدنا وفرنسا، والذي ساعدهم على ذلك كانت تلك المؤسّسة الداخليّة التي كانت تدرّس باللغّة الفرنسيّة.

ولم تمرّ بضع سنوات حتى أن بدأ ابني الكبير بالعمل واستطَعتُ أخيرًا أن أرتاح قليلاً. ولَحِقَ به الثاني ولم أعد بحاجة إلى إنهاك يدَيَّ اللتَين صارتا متجعّدتَين مِن كثرة استعمال المنظفّات، أو ظهري الذي انحنى طويلاً، أو ركبتَيَّ اللتَين ركَعتُ عليهما مرّات لا تُحصى لأنظّف والمّعَ أرضيّات المنازل.

لم أنسَ زوجي ولم يمرّ يوم واحد مِن دون أن أفكّر به. مِن باريس، حاولتُ إيجاده بواسطة منظّمات حقوق الانسان ولكن مِن دون جدوى. كنتُ أعرف في قرارة نفسي أنّه مات، ولكنّني حتى اليوم أتوقّع أن يرنّ هاتفي وأسمع صوته وهو يقول: "لقد عدتُ... كم اشتقتُ إليكم".

ماذا رَبِحَ أولئكَ الذين دمّروا بيوتنا وهجّرونا وقتلونا وخطفونا؟ ماذا استفادوا وهم لم يُغيّروا شيئًا سوى أنّهم تلقّوا لعنات الأمّهات والزوجات والأبناء...هذه اللعنات التي سترافقهم حتى يوم موتهم وأبعد مِن ذلك بعد!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button