لست مخنثاً!

منذ صِغري وأنا أتمتّعُ بِذوق رفيع ومعرفة بمزج الألوان والقماش، وخافَ مُحيطي أن أتحوّلَ إلى شبه رجل حين أكبر. لَم يفهموا أنّني وُلِدتُ فنانًا وكنتُ سأبرعُ بتصميم الأزياء ويلمعُ إسمي عاليًا.

أمّا أكبَر مُعرقلي مسيرتي الفنّيّة فكان أبي، وهو نظَرَ يومًا بازدراء إلى إحدى الرّسمات التي جلبتُها له بفخر وقال لي:

 

ـ ما هذا؟ هل هكذا تُمضي وقتكَ يا بُنَيّ؟ ترسمُ فساتين نسائيّة؟!؟ إلعَب بالسيّارات أو القطارات أو الكرة!

 

ـ لكن يا أبي...

 

ـ الحقّ كلّه يقَع على أمّكَ! لقد أفرطَت بدلعكَ، الأمر الذي سيُجرّدكَ مِن رجوليّتكَ... أمنعُكَ مِن رسم أمورًا كهذه... أتفهمُني؟ أنتَ صبيّ ولستَ بنتًا! أغرب عن وجهي!

 

ركضتُ أبكي عند أمّي التي هزَّت رأسها بِصمت عندما أخبرتُها عن ردّة فعل والدي، وهمسَت في أذني:

 

ـ لا تقلَق يا حبيبي... لن يمنعَكَ أحدٌ مِن تحقيق ذاتكَ، سأسهر على الأمر بنفسي. أنتَ فنّانٌ، وقد تجدُ العراقيل في طريقكَ، لكن إيّاكَ أن تستسلم! منذ اليوم ستكفّ عن رسم العارضات أمام أباكَ أو أيّ أحد، وحدي سأكون مَن يراها.

 

كنتُ في الخامسة مِن عمري ولَم أفهمُ غضب أبي، لكنّني فهمتُ حبّ أمّي لي، فلولاها لما أطلقتُ العنان لفنّي ومُخيّلتي وفُتِحَت أمامي أبواب النجاح.

ركّزتُ على علمي والرياضة البدنيّة، مِن أجل أبي الذي خالَ أنّه أصلَحَ إبنه الذي كان ذاهبًا حتمًا إلى التخنّث، وكان ينفخُ صدره كلّما أطلَعَ الناس على نتائجي المدرسيّة أو إنجازاتي في كُرّة السلّة. كنتُ بنظره أهلاً لِحمل إسمه الذي يتّسم برجوليّة واضحة.

 


باقي الوقت كنتُ أبقى في غرفتي حيث أرسمُ وأرسمُ... وكانت والدتي تطلبُ منّي نوعًا معيّنًا مِن الفساتين مِن حيث اللون والشكل والمناسبة. للحقيقة، كانت أمّي بالنسبة لي مثال عارضات الأزياء التي أرسمها، ووعدتُها بأن أُنجزَ لها أوّل فستان حقيقيّ بيَدَيَّ. وهذا ما فعلتُه بعد سنوات حين بدأتُ أقصُّ القماش وأخيطُه.

كنّا نذهب وأمّي إلى بائع القماش، أنا أختار سرًّا ما أُريدُه وهي تدّعي أنّه لها، ونعودُ إلى البيت لنتناقش في الموديل والزينة التي تليقُ بالفستان. لا بدّ أنّني ورثتُ مِن تلك المرأة العظيمة ذوقي وتصوّري وخيالي، وكنتُ أشعرُ أنّها تحقّقُ أحد أحلامها مِن خلالي.

لَم أكبر لأصير مُخنّثًا كما تنبّأ أبي لي، فقد كنتُ مُنشدًّا للصبايا كأيّ شابّ عاديّ وأُغرمتُ بابنة جيراننا وقبّلتُها على فمها سرًّا، وارتاح قلبي بعد أن أدركتُ أنّني أستطيع الوقوف أمام العالم بأسره وأوكّد له رجوليّتي. لكنّ المُجتمع ليس بحاجة إلى أدلّة للحكم على الناس، فالأقاويل تكون غالبًا مجّانيّة ومؤلمة، وهو درس تعلّمتُه على حسابي خلال مسيرتي الفنّيّة.

فبعد سنين مِن الإختباء، قرّرتُ بالرغم مِن تحذيرات والدتي، أن أُخرِجَ تصاميمي إلى العلَن. كنتُ آنذاك في آخر سنة لي بإدارة الأعمال، اختصاص اختارَه لي أبي لأستلم أعماله معه ومِن بعده.

فلقد دخلتُ مُسابقة أجراها دارٌ لتصميم الأزياء بحثًا عن مواهب جديدة. إتّبعتُ التعليمات كلّها ونصيحة أمّي بأن أُعطي كلّ ما لدَيّ، فتلك كانت فرصة ذهبيّة لا يجب الإخفاق بها. وهكذا رسمتُ مجموعة ملابس نسائيّة لمناسبات عديدة توّجتُها بفستان رائع للعرائس. وبدأ الإنتظار. في تلك الأثناء كنتُ قد دخلتُ شركة والدي وبدأتُ أتمرّس بأعماله التي لَم تكن تهمّني بتاتًا، فبالي كان مأخوذًا بالكامل بتصميم الأزياء. إلى جانب ذلك، كنتُ قد سئمتُ مِن الإختباء وكأنّني أفعلُ شيئًا مُعيبًا في وقت كنتُ فخورًا بنفسي.

بعد أشهر طويلة، جاءَتني نتيجة المُسابقة وفرحتُ للغاية لفوزي بالمرتبة الثانية. بالأحرى طِرتُ مِن الفرح، فكنتُ قد نلتُ تقدير القيّمين على عالم تصميم الأزياء، وهذا دليلٌ قاطعٌ على أنّ تلك هي مسيرتي المهنيّة الحقيقيّة. بكَت أمّي مِن الإعتزاز وعانقَتني مطوّلاً. لكن كانت هناك مُشكلة كبيرة، إذ أنّ تلك الدار عرضَت عليّ السفر إلى إيطاليا ودخول مشغل مُصمّم معروف مقابل راتب مرتفع للغاية ووعد بالنجاح العالميّ لاحقًا. كيف أفرّطُ بهكذا فرصة؟ لكن، مِن جانب آخر، كيف أزفُّ لأبي الخبر في حين هو يعتقَدَ فعلاً أنّني أقلَعتُ عن مسألة الأزياء تلك؟

توّلَت والدتي عبء إخبار زوجها بأنّني سأعتنقُ رسميًّا مهنة تصميم الأزياء وفي بلد آخر، وكان غضبُه شديدًا للغاية. فكنّا قد أخفَينا عنه أشياءً كثيرة وشعَرَ وكأنّه آخر مَن يعلم. إلى جانب ذلك، تبخّرَت أحلامه بأن أحمِلَ الشعلة مِن بعده، لِذا صبَّ كلّ غضبه على أمّي مُحمّلاً إيّاها مسؤوليّة "الخيانة العظمة" كما أسماها، وبدأ يُنكّدُ حياتها على صعيد يوميّ، وتوقّفَ عن التكلّم معي بشكل تام حتى في الشركة أثناء عملي، إذ أنّه كان يُرسلُ لي ما يُريدُه منّي عبر موظّفين آخرين أو رسائل قصيرة.

 


إقترَبَ موعد سفري ورأيتُ فرصة حياتي تفلتُ منّي، لِذا تصرّفَت أمّي لحلّ العائق لكن بطريقة لَم أتوقّعها. راحَت لأبي وقالَت له بكلّ بساطة إنّها ستتركه إن لَم يسمح لي بالسفر. لَم يُصدّقها في البداية، لكنّه أعادَ حساباته حين ذكّرَته بخياناته المُتكّررة لها التي غضَّت النظر عنها مِن أجل الحفاظ على العائلة. لَم يكن أبي يُدركُ أنّ زوجته على علم بتلك الأمور، وقد تهتزّ فجأةً صورته كأب وزوج صالح. تابعَت والدتي بأنّها كانت توّد تركه منذ فترة ولَم تعد ترى حاجة للبقاء بعد أن كبرَ إبنها. كنتُ أسترقُ السمع وتفاجأتُ كثيرًا بمضمون حديثهما، فلطالما اعتقدتُ أنّ والديَّ سعيدان سويًّا ويُشكلان ثنائيًا مثاليًّا. تعالى صوتَيهما ثمّ سادَ سكوت طويل ومُزعج. وبعد حوالي الدقيقة قال أبي لأمّي:

 

ـ ماذا تريدين؟

 

ـ أريدُ أن يُسافرَ إبننا إلى إيطاليا لتحقيق أحلامه، وأن تُباركَ هذه السفرة وتمدّه بكلّ ما تتطلّبُه.

 

ـ كلّ ذلك؟!؟

 

ـ أجل. لقد سئمنا مِن طغيانكَ! ألا تعلم أنّ للناس رأيًا يختلفُ عن رأيكَ وقد يكون أكثر صوابًا؟ لستَ معصومًا عن الخطأ، وكَونكَ رجلاً لا يُعطيكَ الحقّ بمحو الآخرين.

 

ـ ما هذا الكلام البليغ!

 

ـ إهزأ قدر ما تشاء! عليكَ أن تختار: إمّا الإنفصال أو سفَر إبننا!

 

إنتصَرت أمّي على أبي، وطرتُ إلى ايطاليا بعد أن حضَّرَ أبي لي كلّ الأوراق اللازمة، وأعطاني المال الذي سأحتاجُ إليه في أوّل فترة مِن مكوثي في ميلانو.

تعبتُ أكثر مِن غيري بسبب اللغة ومنهج العمل، فلَم أكن مُحترفًا ولَم أتلّقَ أيّ تدريب سابق، لكنّني كنتُ موهوبًا، الأمر الذي جعَلَ منّي مُصمّمًا يُؤخَذ على محمل الجدّ. فلقد مزجتُ بين الذوق والتراث الشرقيّ والأوروبيّ وكانت النتيجة مُذهلة ومُميزة.

أنا اليوم مُصمّم أزياء معروف، أُلبِسُ أشهرَ النساء حول العالم ولدَيَّ زوجة وأولاد. وإن كنتم تسألون أنفسكم عمّا حلّ بوالدي، فأستطيع القول إنّه أبٌ فخورٌ بابنه لأقصى درجة. وكلّما كان بصحبة أحد وظهَرَ إسمي على التلفاز يصرخُ عاليًا: "هذا إبني! أنا الذي شجّعتُه على تصميم الأزياء وبعثتُ به إلى أيطاليا! أنا!"، ويُسكِتُ كلّ الذين يوحون بتلميحاتهم إلى أنّني نصف رجل! وتضحكُ أمّي التي لن أشكرها كفاية، فهي التي آمنَت بي وشجّعَتني وواكبَتني ووقفَت بوجه زوجها والناس، واضعةً زواجها في خطر. لولاها، لكنتُ اليوم أقومُ بعمل لا أحبُّه ولَمرَّت حياتي مِن دون طعم أو لون.

أيّها الأهل، آمنوا بأولادكم ونمّوا قدراتهم ودعوهم يُطلقوا العنان لمواهبهم، ولاتنسوا أبدًا أنّ حياتهم ليست ملكًا لكم بل مُجرّد أمانة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button