يوم واحد قَبل عقد قِراني، نُقِلتُ إلى المشفى وبالتحديد إلى قسم الطوارئ، بعد أن انتفَخَ لساني وحَلقي بسبب نوبة حساسيّة حادّة. كنتُ جالِسة وأهلي قِبل ذلك عند حماتي المستقبليّة لتناول العشاء في بيتها إحتفالًا بالزواج القادِم حين شعرتُ بالعوارض. كنتُ قد مرَرتُ بالتجربة نفسها حين كنتُ صغيرة لدى تناولي مأكولات بحريّة، ومنذ ذلك اليوم، أنتبِهُ كثيرًا لِما آكُله، وأُعلِمُ الجميع عن حساسيّتي لأتفادى ما قد يُنهي حياتي.
مِن حسن حظّي أنّ كان لدَيّ قلَمي الخاصّ الذي أغرِسه في فخذي والذي لا يُبارِحُ حقيبة يدي، لِذا إستطاعَ الأطباء مُعالجتي بسرعة. تمّ تأجيل عقد القِران طبعًا إلى حين أتعافى كلّيًّا.
وما أدهشَني الأكثر كان أنّ العشاء لَم يكن يتضمّن أيّ مكوّن بحريّ، بل الدجاج والخضار، فلَم أفهَم ما حلَّ بي. هل يُعقَل أن أكون أيضًا حسّاسة على الدجاج؟!
في الأيّام التي تلَت، زرتُ الأخصّائيّ الذي أجرى لي فحوصات دقيقة، تبيَّنَ منها أنّني لا أُعاني مِن أيّ حساسيّة للوجبة التي أكَلتُها عند حماتي. إطمأنَّ بالي مِن هذه الناحيّة، لكنّ الأسئلة بقيَت تدورُ في رأسي مِن دون أجوِبة. خطيبي حازم هو الآخَر حاوَلَ حلّ ذلك اللغز، لكن مِن دون جدوى. إلّا أنّه صارَ يخافُ كثيرًا عليّ بعد أن رأى بعَينَيه ما يحصل لي عندما تأتي الأزمة، وكيف أنّ بإمكاني أن أموت بلحظة! طمأنتُه وعُدنا نُخطِّط لحياتنا المُستقبليّة، وتحديد موعد جديد لِربط حياتنا وتأسيس عائلة جميلة سويًّا.
أمّا مِن ناحية حماتي، فهي لَم تبدُ لي مهمومة مِن الذي حصَلَ لي في بيتها، بل اكتفَت بالقول: "ها أنتِ بألف خير... لو تكفّين فقط عن إشغال بال ابني عليكِ! أم أنّكِ تُحبّين الدراما؟!؟". كنتُ أعلَم أنّها لا تُحبُّني كثيرًا، بل كفاية لتقبّل وجودي في حياة حازم، فهي تجِدُ أنّني آخذُ مساحة كبيرة، مساحة كانت لها سابقًا. فالجدير بالذكر أنّ خطيبي هو ابنُها الوحيد وسنَدها، بعد أن ماتَ زوجها منذ أكثر مِن عشرين سنة. فهي وابنها عاشا وتدبّرا أمرهما لوحدهما... قَبل مجيئي. سمِعتُ مِرارًا منها تلميحات عديدة مليئة بالعدائيّة أحزنَتني كثيرًا، لكنّ خطيبي عرِفَ دائمًا كيف يُنسيني فظاظة أمّه بوعوده المُطَمئنة.
أعلَم أنّ القارئ قد استنتَجَ أنّ لحماتي دخلًا بنَوبتي، ويتساءَل لِما لَم أشكّ بها على الفور، لكنّ فظاعة هذا العمَل لَم يخطُر ببالي أبدًا. ربّما وثِقتُ بطيبة النفس البشريّة أكثر مِن اللازم، أو أنّ عقلي الباطنيّ رفَضَ تلك الفرَضيّة ليُجنِّبَني ما هو فوق التصوّر، إلّا أنّني بدأتُ أرى أمورًا كانت محجوبة عن نظَري قَبل ذلك، وأهمّها تأثير أمّه على حازم، الأمر الذي ردَدتُه في بادئ الأمر إلى حبّ جميل ومُتبادَل بين أمّ وابنها.
أطلَعتُ والدتي على مخاوفي بشأن ما قد أُعاني منه بعد الزواج، لكنّها طمأنَتني قائلة:
ـ يا حبيبتي، مِن المعلوم أنّ الزوج يتَبع زوجته بعد فترة، خاصّة بعدما يؤسِّس عائلة معها، لا عليكِ.
ـ أرجو ذلك يا ماما.
ـ لكن عليكِ أن تحترمي تلك العلاقة القائمة، وألّا تُحاولي إبعاد حازم عن أمّه، فالله لا يقبَل بذلك!
ـ طبعًا، طبعًا، فهذا ليس مِن شيَمي! لكن ماذا لو تدخّلَت حماتي المُستقبليّة في حياتنا الزوجيّة أكثر مِمّا ينبغي؟
ـ عندها تُصارحين زوجكِ وتجِدان حلًّا يُرضي الجميع.
أيّة حلول تكلَّمَت أمّي عنها، في حين شعرتُ أنّ حازم يُرجئ موعد عقد قِراننا مرّة تلوَ الأخرى؟ سكتُّ أمام الحجَج التي قدّمَها لي، لكن في آخِر المطاف، فاتحتُه قائلة:
ـ ما بكَ يا حازم؟ ألّا تُريدُ الزواج منّي؟
ـ بلى... بلى، طبعًا.
ـ لِماذا التأجيل إذُا؟ لقد تعافَيتُ منذ فترة وأنا جاهِزة. هل أنتَ جاهِز أيضًا؟
ـ أحبُّكِ كثيرًا لكن...
ـ لكن ماذا؟!؟
ـ أحِبّ أمّي أيضًا كثيرًا.
ـ وما المانِع بأنّ تُحبّنا نحن الاثنتَين معًا؟
ـ أنتِ لا تفهمين.
ـ إذًا حاوِل أن تُفهِمني!
ـ إنّها المرأة الوحيدة في حياتي... أعني كانت.
ـ هل أنتَ مُتأكِّد مِن أنّها كانت المرأة الوحيدة في حياتكَ، أم أنّها لا تزال؟!؟
ـ لن تُدرِكي تمامًا مدى التضحيات التي هي قامَت بها مِن أجلي بعد أن ماتَ أبي.
ـ تضحيات تقومُ بها كلّ أمّ جديرة بهذا الاسم!
ـ أنا مُدين لها.
ـ ماذا تعني بكلامكَ؟
ـ وهي لا تُريدُكِ.
ـ الآن بدأتُ أفهم... هي خيّرَتكَ بيني وبينها.
ـ أجل.
ـ ومَن اختَرتَ؟
ـ لن تكون لدَيّ سوى أمّ واحدة، أمّا...
ـ ... أمّا بإمكانكَ إيجاد حبيبة وزوجة أخرى.
ـ أجل.
ـ حسنًا... لقد فهِمتُ الرسالة جيّدًا.
ـ أُحبّكِ، صدّقيني.
ـ لكن ليس كفاية.
ـ ربّما.
فسَخنا الخطوبة وبكيتُ ليس على حازم بحدّ ذاته، بل على الأحلام التي بنَيتُها والوقت الذي أضَعتُه، والكلام الجارِح الذي سمعتُه وتحمّلتُه مِن أمّ حازم. إن كان هو يُريدُ إرضاء أمّه على حساب حبّنا، فلن أستطيع منعه مِن ذلك، لكن أن يخطُبني ويترُكني، فذلك كان أكثر مِمّا إستطعتُ تحمّله.
مرَّ الوقت اللازم لأبدأ بنسيان خطيبي السابق، لأنّني كنتُ مُحاطة بأناس يُحبّونَني ساعدوني على تخطّي محنتي. إلّا أنّ حازم بقيَ يتّصل بي بين الحين والآخَر. لَم أجِبه في البدء، ثمّ صرتُ أتبادَل معه كلمات قليلة حتّى أن صارحَني بأنّه لَم ينسِني، بل أنّني لا أزال في عقله وقلبه. ويوماً بعد يوم، إستفاقَ حبّي له وأمِلتُ أن يتغيّر شيئًا ونعيشُ سويًّا بهناء كما كنّا قد خطّطنا. لَم أُخبِر أحدًا بأنّني على تواصل مع حازم، خوفًا مِن التأنيب خاصّة من جانِب أمّي التي فعلَت جهدها لِمواساتي. تواعدَنا واتّفقنا أنّ علينا الزواج وبأسرع وقت للتعويض عن الفترة التي أضَعناها، لكنّني سألتُه إن كان مُتأكّدًا بالفعل مِت أنّه يُريدُني بالرغم مِن موقف أمّه منّي، وهو قال:
ـ مئة بالمئة! ولقد تكلّمتُ معها ووضعتُها أمام الأمر الواقع، وهي قبِلَت أخيرًا، مُضيفةً أنّها لا تُريد سوى سعادتي. ولذلك، سآخذُكِ إليها الآن لتتأكّدي بنفسكِ كيف هي تغيّرَت!
خفتُ في البدء مِن المواجهة، لكنّ حازم كان بالفعل مُتفائلًا، فرافَقتُه إلى والدته التي استقبلَتني وبسمة على وجهها، بسمة لَم أرَها طيلة فترة خطوبتي بحازم. تبادَلنا الأحاديث الخفيفة، ثمّ قدّمَت لي المرأة العصير ودَعتني لتناول الغداء معها وابنها. رفضتُ أوّلًا ثمّ قبِلتُ أمام إصرارها. هي دخلَت المطبخ مُطوّلًا ثمّ خرجَت مع الطعام وجلَسنا إلى المائدة نحن الثلاثة.
بدأ حازم مُربكًا، وقالَ لي فجأةً إنّ لا وقت لدَيّ للبقاء على الغداء لأنّ بال ذويّ قد ينشغِل عليّ ويتساءلون أين أنا، ولا يجوز أن يشكّوا بأنّنا سويًّا مِن دون عِلمهم. إستغرَبتُ الأمر، فكنّا على وشك البدء بالأكل. عندها صرخَت به أمّه:
ـ ما بكَ؟!؟ دَعها تأكل!
ـ لا، يا ماما، أرجوكِ... فأنا أحبُّها!
ـ أقولُ لكَ، دَعها تأكل!!!
ـ لا! لن تأكل!
ثمّ استدارَ نحوي وقالَ:
ـ هيّا بنا نرحَل، الآن!
نظرَت أمّه إليه بِشرّ مُخيف قائلة:
ـ ما بكَ؟ لَم تُمانِع في المرّة الأولى، بل كنتَ مُشارِكًا معي.
ـ أصمُتِي يا ماما، أرجوكِ!
ـ ليس فقط أنّكَ لَم تُمانِع، بل وافَقتَني! ماذا فعلَت لكَ تلك الأفعى لتُغيّر رأيكَ؟!؟
ـ أحبُّها يا ماما، أحبُّها!
سألتُ حازم عمّا تتكلّم أمّه، إلّا أنّها أجابَت عنه:
ـ في تلك المرّة... حين حصَلَت لكِ النَوبة ورحتِ المشفى... كان إبني يعلَم أنّني وضعتُ في طبقكِ مسحوق ثمار البحر بين التوابل كَي لا تنتبهي للمذاق.
نظرتُ إلى حازم مذهولة وصرختُ به:
ـ أنتَ تعلَم أنّ بإمكاني أن أموت اختناقًا! كيف استطعتَ!!!
ـ حسبتُكِ لن تتأثّري كثيرًا، فلَم أُشاهِد أحَدًا مِن قَبل يمُرُّ بهكذا أزمة... ألَم نأخذكِ على الفور إلى المشفى؟ أردتُ فقط تأجيل عقد القِران... أو إلغاءه... فهي لَم تكن موافِقة.
ـ كِدتَ أن تقتلَني! كنتَ خطيبي! كيف تفعل ذلك؟!؟
ـ سامحيني! ها أنا منعتُكِ مِن الأكل اليوم!
ـ أنتما مجنونان! بل مُجرمان! أليست هناك مِن طرق أخرى لفسخ خطوبة؟!؟
قمتُ بسرعة مِن على المائدة وخرجتُ مِن البيت، وبدأتُ أمشي في الشارع وأنا أبكي. كيف لأحَد أن يُخطِّط لأذيّة بهذا الحجم؟ كيف أثِق بالناس بعد ذلك؟
لَم أخبِر أحَدًا عن الأمر حتّى اليوم، فلَم يكن لدَيّ أيّ دليل، وخفتُ ألّا يُصدّقني الناس، بل ابتعدتُ نهائيًّا عن حازم الذي، لحسن حظّي، لَم يُحاوِل التواصل معي بعد ذلك.
حاورتها بولا جهشان