كنَّتي المهووسة

يوم جاءَت كنَّتي غنوة للعَيش معي وفؤاد إبني الأصغر، فرِحَ قلبي لأنّني لطالما تمنَّيتُ أن تكون لي إبنة. إضافة إلى ذلك، هي كانت لطيفة وتحبُّ مازن كثيرًا. صحيح أنّها كانت كسولة بعض الشيء، إلا أنّني كنتُ نشيطة كفاية للإهتمام بالبيت مِن دون مُساعدتها. كلّ ما أرَدتُه، هو أن يكون مازن سعيدًا وأن يأتي لي بأحفاد لِتملأ أصواتهم المنزل. كنتُ أعشقُ الأولاد، وكَم سعِدتُ عندما أنجبَت غنوة ثلاثة اطفال، وسألتُ نفسي إن كان هناك مِن شيء آخر تمنَّيتُه، والجواب كان لا.

لكنّ القدر لَم يشأ أن أنعَم طويلاً بِسعادتي، فأخَذَ منّي مازن، حارقًا قلبي إلى الأبد، فما مِن شيء أصعب مِن فقدان ولَد. وغرقتُ بكآبة لَم يستطع أحد انتشالي منها، حتى هؤلاء الصغار الجميلين الذين حاولوا ترفيهي بأغانيهم ودلَعهم.

فترة حزن كنّتي كانت قصيرة للغاية، وردَدتُ الأمر إلى حاجتها لأن تبدو قويّة أمام أطفالها. لكنّ غنوة كانت مِن تلك النساء اللواتي تنسينَ بسهولة وتنوينَ مُتابعة حياتهنّ حتى لو لزِمَ الأمر أن تدسنَ على ذكرى موتاهنّ. فبدأَت غنوة بإظهار أنوثتها، أي بالتبرّج ولباس الألوان الزّاهيّة، في وقت كان مِن المُفترَض بها إلتزام الحداد. لَم أقل شيئًا خاصّة بعدما قالَت لي كنّتي: "الحزن في القلب وليس في الملابس". ولأنّني لَم أكن غبيّة، شعَرتُ أنّها تبحثُ عن دفء رجل، ولو بِنظراته لها. لكنّني لَم أسأل نفسي كيف لأحد أن يراها إن لَم تُبارح المنزل، فلَم يخطر ببالي قط أنّ غنوة تُريدُ إبني الثاني فؤاد.

أوّل مرّة لاحظتُ فيها نوايا كنّتي تجاه فؤاد، كانت ذات أمسية حين كنّا مُجتمعين حول مائدة الطعام. كانت غنوة مُرتديةً فستانًا قصيرًا وواضعة أحمر شفاه أصفُه بالجريء. وبدأَت كنّتي بالإهتمام بِشكل خاص بإبني، واضعةً في طبقه أطيَب القطع وأكبرها، قائلةً له بِنظرة حنونة: "كُل يا فؤاد، فأنتَ رجل قويّ البنية وعليكَ أن تتغذّى جيّدًا." أمّا هو، فقد احمّر وجهه وأنا غيّرتُ الحديث. للحقيقة، كان المشهد مُحرجًا للغاية وأمِلتُ ألا ينتبِه الأولاد إلى شيء، لكنّهم كانوا لا يزالون صغارًا على هكذا أمور. لَم أقل شيئًا لكنَّتي، فقد تكون تلك الحادثة مُنفردة وليس أكثر.

 


لكنّ غنوة صارَت تُبدي نشاطًا غير مسبوقًا بِتنظيف البيت، خاصّة غرفة فؤاد حيث كانت تمضي وقتًا طويلاً، ربمّا على أمل أن يدخل إليها ويتسنّى لها التحدّث معه على انفراد. إضافة إلى ذلك، بدأَت تطهو ما يُحبُّه إبني حصريًّا، وتقولُ له كَم هي حريصة على أن يأكل مِن يدَيها. أعلمُ أنّ في بعض الأحيان تقومُ العائلات بتزويج أخ الفقيد لأرملته لإبقائها ضمن نطاق العائلة والحفاظ على الأولاد، إلا أنّ طريقة غنوة بِجذب فؤاد كانت رخيصة للغاية. مِن جهّة أخرى، لَم يرغب بها إبني بتاتًا. علِمتُ ذلك مِن فمه مُباشرةً حين قال لي:

 

ـ أرأيتِ يا أمّي كيف أنّ زوجة أخي تنظرُ إليّ وتتحدّثُ معي؟!؟ إنّ ذلك الأمر مرفوض تمامًا بالنسبة لي وأشمئزُّ منها كثيرًا. أليس لدَيها أيّ حياء؟ فهي لَم تحزن حتى على المرحوم أخي بل بدأ إغراؤها لي قبل أن يبرد مكانه! إفعَلي شيئًا بهذا الخصوص، أرجوكِ!

 

للحقيقة إرتاحَ قلبي بعد معرفة رأيه بغنوة لأنّه كان مثل رأيي تمامًا، وبدأتُ أفكّرُ بطريقة لتهدئة روع كنّتي وإقناعها بالإبتعاد عن فؤاد.

لكن حصَلَ أن وقعتُ عن السلالم في اليوم التالي وكسرتُ رجلي في أماكن عديدة، الأمر الذي أعطى كنّتي تفوّقًا عليّ. فبتُّ غير قادرة على التحرّك بعدما أُجرِيَت لي عملية دقيقة، وهي قامَت بالأعمال المنزليّة كلّها عنّي. وحين طلبتُ رؤيتها في غرفتي قلتُ لها:

 

ـ يا غنوة، لقد لاحظتُ إهتمامكِ المُفرط بِفؤاد، وأرى أنّه مِن الأفضل لو تكفّي عمّا تفعلينَه لأنّ ذلك لا يليقُ بكِ وبنا.

 

ـ وما الضرَر لو تزوّجتُ منه؟ فهو عمّ أولادي وسيكون لطيفًا معهم.

 

ـ المشكلة هي أنّه لا يُريدُكِ.

 

ـ بل المشكلة هي أنتِ! لولاكِ لأعرَبَ لي عن حبّه، فهو لا يريدُ إغضابكِ.

 

ـ لا أحد باستطاعته إرغام غيره على حبّه، وفؤاد لا يُحبُّكِ ولن يُحبَّكِ. عليكِ مواجهة هذا الواقع والقبول به. إن كنتِ تشعُرين بالوحدة وتُريدين رجلاً في حياتكِ، فهناك الكثيرون غير فؤاد.

 

ـ لا أريدُ سواه وسأحصلُ عليه... شئتِ أم أبيتِ!

 

ومنذ ذلك الحديث، صارَت غنوة تتركُ أولادها في البيت وتخرجُ طوال النهار مِن دون تنظيفه أو تحضير الطعام لِتعود في الليل، عالمة أنّني غير قادرة على التحرّك مِن السرير. وعمَّت الفوضى المنزل، وبدأ أحفادي بالتشاجر ما بينهم وتخريب المكان، وعشنا بين الثياب المُتّسخة والأطباق غير المغسولة والطعام الجاهز لِفترة أسبوعَين. جاءَ لي فؤاد بسيّدة لتنظّف البيت، إلا أنّ البيت كان يعودُ كما كان بعد ساعات قليلة بِسبب الأولاد.

 


ثمّ عادَت غنوة إلى غرفتي لِتسألني:

 

ـ أيُعجبُكِ ما يحصلُ لكِ يا حماتي؟ هل بدَّلتِ رأيكِ أم بعد؟ هل تريدين معرفة ما يُمكنُني فعله أكثر مِن ذلك؟

 

ـ فؤاد لا يُريدُكِ يا غنوة! متى ستستوعبين ذلك؟!؟

 

ـ سيُريدُني رغمًا عنه... وعنكِ.

 

وفي المساء نفسه، تعالى صوت فؤاد وسمعتُه يصرخُ بغنوة: "كَم أنّكِ رخيصة!" وركضَ إلى غرفتي ليُخبرُني أنّها دخلَت عليه عارية تمامًا وهو اشمأزّ منها وأبعدَها عنه بكلّ قواه. إحترتُ لأمري، فكان مِن الواضح أنّ كنّتي مريضة نفسيًّا ولن يردعَها شيء. لِذا طلبتُ مِن إبني فؤاد تركَ المنزل والعَيش لفترة مِن الوقت عند أخي، ريثما أجدُ طريقة مع كنّتي.

رحَلَ فؤاد أثناء غياب غنوة عن البيت، وعندما عادَت ولَم تجده، إنتابَها غضبٌ لَم أتصوّرها قادرة على إمتلاكه. للصّراحة، خفتُ على نفسي لأنّني شعرتُ أنّها تُريدُ التخلّص منّي، فهي جاءَت إلى غرفتي وصَرَخَت بأعلى صوتها:

 

ـ لن أدعَكِ تفصلين بيننا أيتّها العجوز! أعيدي لي فؤاد وإلا...

 

ونظَرَت إليّ بشرٍّ كبير ومِن ثمّ بدأَت تضحَك عاليًا قائلةً: "أجل، أجل... فكرة رائعة! أجل!"، وخرجَت مِن الغرفة. وتساءَلتُ عمّا كانت تُحضّره لي.

إنتظرتُ حتى أن هدأ البيت ونامَت هي وأولادها، فاتّصلَت بجارتي طالبةً منها المجيء سرًّا لأخذي إلى بيتها. كانت تلك المرأة صديقة قديمة وكنتُ قد وضعتُ عندها نسخة مِن مفتاح البيت في حال أضعناه. وهكذا رحتُ أقضي الليل في البيت المُجاور ناوية البقاء هناك ريثما أجدُ حلاً لِمصيبتي. لكن بعد أقلّ مِن ساعَتين على وصولي بيت جارتي، سمعتُ صوت محرّك سيّارة وأبواب تُغلَق بهدوء. لَم يخطر ببالي شيء بل عُدتُ إلى النوم. وبعد حوالي العشر دقائق، وصلَت إليّ رائحة دخان قويّة. صرختُ لِصديقتي التي ركضَت لترى مِن أين يأتي الدخان... فوجدَتُ بيتي يحترق. وبدأتُ أردّدُ كالمجنونة: "أحفادي! كنّتي! أحفادي! يا إلهي!!!". إتّصلنا بِفوج الإطفاء الذين أتوا بِسرعة فائقة واستطاعوا إنقاذ قسم كبير مِن المنزل... ماعدا غرفتي! لَم يجدوا أثرًا لِغنوة والأولاد الذين فروّا وسط الليل. وكان مِن الواضح أنّ كنّتي أضرمَت النار أمام غرفتي لأموت خنقًا أو حرقًا، وتتخلّص منّي.

حصَلَ تحقيق ووجدوا أنّ الحريق كان مُفتعلاً، ولَم يتطلّب الأمر كثيرًا ليستنتجوا أنّ غنوة هي الفاعلة. وبعد البحث عنها، وجدوها مع الأولاد عند أصدقاء لها في بلدة بعيدة وقادوها للتحقيق. إعترفَت كنّتي بِفعلتها على الفور لِكثرة كرهها لي، بل تباهَت بخّطتها، الأمر الذي أودى بها إلى المصّحة، فكان مِن الواضح أنّها لا تملكُ عقلها بالكامل. وهكذا حصلتُ على حضانة أحفادي وعادَ فؤاد ليُربّيهم معي. وبعد سنتَين، جاءَ إبني بِزوجة هي الأخرى اهتمَّت بالأولاد.

...عشنا سعداء فترة طويلة، إلى حين قالوا لنا إنّ حالة غنوة تحسّنَت كثيرًا وقد يُطلقون سراحها. ولدى سماعي الخبر، خفتُ للغاية، فلَم أكن أؤمِن بهذا الشفاء العاجل.

ولأنّ الله يُحبُّنا كثيرًا، حصَلَ قبل أيّام قليلة مِن الإفراج عنها، أن حاولَت غنوة خنق مريضة أخرى في المصحّة. وبالطبع تأجَّلَ خروجها... إلى موعد غير مُسمّى. وعندما أفكّرُ بالذي كان بإمكان كنّتي أن تفعله بنا لو عادَت، يقشعرُّ بدني وأحمدُ ربّي ألف مرّة.

هل كانت غنوة مريضة عقليًّا منذ البدء، أم أنّ اصرارها على الزواج مِن فؤاد خلَقَ لدَيها هاجسًا تحوَّلَ إلى جنون؟ لا أملكُ الجواب، لكنّني عندما أخلدُ إلى النّوم مساءً، أدعو لكنّتي بالشفاء الحقيقيّ، فهي بالنهاية أمّ أحفادي وهم بحاجة إليها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button