كنت أملك موهبة الرؤية

أحياناً نولَد مع قدرات غربية تمكنّنا مِن الشعور بالأحداث وبالناس. البعض يسميّها إستبصار أمّا أنا فأفضّل مفهوم الحاسّة السادسة لأنّه علميّ أكثر ويبعد صاحبه عن التسميات السحريّة. وكنتُ إحدى هؤلاء الناس ولطالما تحليّتُ بقدرة التمييز بين الذي يجب فعله أو تجنبّه ليس بفضل المنطق بل نتيجة صُوَر تأتي أليّ وكأنّها عرض سريع لِفيلم صامت. والصعب في الأمر هو تفسير هذه الصوَر والخروج بإجابة أو موقف أو قرار. ولَزِمني وقت طويل جدّاً لمعرفة معنى تلك"الرسائل" ولأنّ هذه الموهبة نادرة جدّاً بدأ كل مَن يعرفني بإستشارتي وبالرغم مِن أنّني لم أقبل يوماً بأيّ مال أو هديّة عمِلتُ جهدي لمساعدة الآخرين قدر المستطاع طبعاً. وأُذيعَ الخبر وحاول البعض إلصاق تهمة الشعوذة عليّ وأنّني أتعامل مع أرواح شرّيرة ولكنّني قاومتُ هذه الحملة المعيبة كلّما سمحَت لي الفرصة.

وعندما كبرتُ قليلاً وأصبحتُ في سنّ الرشد قرّرتُ ترك بلدتي والإبتعاد عن أجواء باتَت لا تطاق وذهبتُ مع إبنة عمّي للسكن عند أقارب لنا في المدينة. فهناك لا تعرف الناس بعضها وكان بأمكاني بدء حياة جديدة وأتفرّغ لِدراسة علم المجتمع. وكنتُ قد إخترتُ هذا الإختصاص حبّاً بإكتشاف إختلاف المجتمعات والناس عن بعضها وجذور الذي يمسك الأفراد ببعضها. وكان قراري صائباً إن كان مِن حيث مكان سكني أو دراستي فكانت سنوات سعيدة إلى درجة أنّني بدأتُ أفقد قسماً كبيراً مِن قدراتي الخاصة. فلم أعد أرى صوراً كلما تعرّفتُ إلى أحد أو ذهبتُ إلى مكان ما أو حدثّ أمامي شيئاً. وككل فتاة وقعتُ بالغرام وقرّرتُ الإرتباط بِغسّان شاب مهذّب وكفوء إلتقَيتُ به عندما ذهبتُ مع قريبتي لإجراء إحصاء في إحدى الشركات. وعندما أرادَني أن أتعرّف إلى ذويه لبستُ أفضل ما عندي وذهبتُ معه إلى منزله.

 


ولكن عندما رأيتُ أبوَيه عادَت الرؤية لي بلحظة واحدة فتتابَعَت الصوَر في رأسي دون أن أستطيع التركيز على أيّ منها لأنّني لم أكن أتوقّع حدوث ذلك ولأنّني كنتُ في حالة إرباك بسبب مقابلتي للذين سيصبحون عائلتي الثانية. ولم أعد قادرة على التكلّم ووقفتُ أحدّق بهؤلاء الناس محاولة إسترجاع ما رأيتُه. وكانت النتيجة إستغراب عام ونظرات مليئة بالتساؤلات. وعندما أدركتُ ما كنتُ أفعله إبتسمتُ وتحججتُ بأنّني أحاول إيجاد ملامح مشتركة بينهما وبين إبنهما ما زاد مِن فتورة الجوّ.

وجلستُ أتحدّث مع الجميع وكأنّ شيئاً لم يحصل لأنسيهم أنّني قد أكون غريبة الأطوار. ونجحتُ بذلك فأخَبَرني غسّان في المساء أنّ والدَيه أحبّاني كثيراً ولم يأتِ على ذكر شيء آخر. ولكنّني لم أكن مرتاحة لما حصل لأنّني كنتُ أعرف نفسي جيّداً وإستنتجتُ أنّ سبب رجوع الصوَر هو أنّ شيئاً مهمّاً حَدَث أو يحدث أو سيحدث مع أهل حبيبي. والسؤال المهمّ كان إن كان عليّ البحث عن الأجوبة أو ترك الأمور تزول لوحدها.

ولكنّني لم أكن أسيطر على حاستي السادسة وعندما جاء أهل غسان لزيارتنا في البيت عادَت الرؤية كما في أوّل مرّة. وإنتابَني الهمّ لأنّني لم أقل للذي سيصبح زوجي عن موهبتي خوفاً مِن أن أرعبه وأبعده عنّي فكيف لي أن أخبره بالذي أشعر به كلّما رأيتُ أبوَيه؟ وكيف كنتُ سأتحمّل أن يحصل لي ذلك بعد أن يصبحا حمويّ وأراهما دائماً؟ لِذا قررتُ أن أركّز على تلك الصوَر لأفسّرها آملة أن تختفي بعد ذلك.

فخابرتُ أمّ غسّان وقلتُ لها أنّني أودّ شرب الشاي عندها ففرِحَت كثيراً وإستقبلَتني بالبسمة والكلمة الطيّبة. وكنتُ ومنذ دخولي منزلها في ذلك اليوم قد بدأتُ أرى الصوَر وعمِلتُ على تخزينها في رأسي كما كنتُ أفعل في الماضي لأحلّلها لاحقاً وأجدَ الرابط الموجود بينها وبين الواقع.

وحين عدتُ إلى مسكني دخلتُ غرفتي وأخذتُ أرتّب ما رأيتُه وكانت النتيجة مخيفة: مشاهد دماء وأذى تشير بأنّ شيء فظيع سيحدث لي أو لهؤلاء الناس. وزادَت الأمور تعقيداً عندما بدأتُ أرى صوراً وأنا مع غسّان الشيء الذي لم يحصل مِن قبل. لِذا قرّرتُ أن أبتعد عن الذين قد يسبّبون لي مصيبة كبيرة. قد يسأل البعض لماذا لم أصارح حبيبي بالذي يدور في رأسي ولكنّني فضّلتُ السكوت على أن يعتبرني مشعوذة أو أن أقول له أنّه أو أهله يواجهون أو سيسبّيون بأذيّة ما.

وبعد أن إنفصلتُ عن غسّان وقلتُ له أنّني لستُ جاهزة لخوض الحياة الزوجيّة أخذتُ أمتعتي وذهبتُ إلى منزل أهلي لأرتاح قليلاً بعد ما أنهكَتني كل تلك الأحداث. لم أقل لأحد عن سبب تركِ لغسّان وعودتي ولكن أمّي لاحظَت حزني العميق وإرباكي وحاولَت بشتّى الطرق معرفة ما حدثَ لي. وبعد أن إعترفتُ لها بكل شيء نادَت أبي وجلسا أمامي وقالَت والدتي لوالدي:

 


ـ هيّا... قل لها الحقيقة.

 

نظَرَ أليها أبي وأخذَ نفساً عميقاً وقال لي:

 

ـ حبيبتي... هذه "الموهبة" ليست سوى نسج خيالكِ.

 

ـ كيف؟ ما هذا الكلام؟ تعرفان جيّداً أنّني أرى أشياءً وذلك منذ صغري!

 

ـ أجل... ترَين أشياء... ولكنّها ليست حقيقيّة.

 

ـ وكيف تعلمان ذلك؟ هل أنتما داخل رأسي؟

 

ـ إسمعي... عندما كنتِ صغيرة وبسبب عدم وجود طفل آخر في العائلة شعرتِ بوحدة عميقة وبدأتِ تختلقين أموراً لتسليّ نفسكِ ولِتزيلي شعوركِ بالخوف كلّما واجهتِ مشكلة. لا أدري إن كنتِ تذكرين ذلك ولكنّنا أخذناكِ عند طبيب نفسي الذي قال لنا أنّه مِن الأفضل أن نترككِ هكذا وأن نتماشى مع الأمر الذي سيزول لوحده مع الوقت... ولكنّكِ كنتِ فرحة بهكذا موهبة لأنّها أعطَتكِ أهميّة خاصة بين الناس وتمسَّكتِ بها.

 

ـ ولكنّ كل ما كنتُ أراه كان يحدث فعلاً!

 

ـ لا... كنتِ تعطينه التفسير الملائم بعد حدوث الأمور.

 

ـ والناس التي كانت تأتي لإستشارتي؟

 

ـ يعتقد البعض أنّ أموراً غامضة موجودة مِن حولنا.

 

ـ وسكتّما عن ذلك؟

 

ـ لم نعد قادران على التراجع.

 

ـ ولكنّني رأيتُ فعلاً صوَراً كلّما إجتمعتُ بأهل غسّان ولاحقاً به!

 

ـ وقبل ذلك؟ قلتِ لنا أنّكِ لم تعودي ترَين شيئاً منذ ما إنتقلتِ إلى المدينة وحتى عندما أحبَبتِ غسّان.

 

ـ صحيح ذلك ولكن...

 

ـ وعادَت الرؤية عندما تعرّفتِ إلى أهله...

 

ـ أجل...

 

ـ لأنّكِ خفتِ مِن الإرتباط الرسمّي... وأعطيتِ نفسكِ حججاً لتركِ حبيبكِ فلم يعد مقبولاً بالنسبة لكِ أن تستمرّ هذه العلاقة بعد أن رأيتِ صوراً دمويّة... كل ذلك نتيجة خيال فتاة خائفة... عليكِ الوثوق بنفسكِ أكثر وبقدرتكِ على تحليل الأمور والأحداث بطريقة منطقيّة وعقلانيّة وليس مِن خلال معتقدات لا وجود لها... لا تدمّري حياتكِ... إن كنتِ تحبّين غسّان ولكنّكِ لستِ جاهزة للزواج منه فتحدّثي معه وخذي وقتكِ... وإن كان غير مناسباً لكِ فإبحثي عن زوج آخر... نحن آسفان جدّاً لإخفاء الحقيقة عنكِ ولكنّنا إعتقدنا أنّكِ تحسّنتِ.

 

وعانقَني أبي وإنضمَّت له أمّي وبكّينا سويّاً وشعرتُ يتلك اللحظة بالذات أنّني تحرّرتُ مِن اللعنة التي كانت تعيق حياتي.

وبعد أسبوعَين قضيتُها أفكرّ بكل تلك الأمور قرّرتُ العودة إلى العاصمة والتكلّم مع غسان وإخباره بالحقيقة الكاملة. ولأنّه ولِحسن حظّي إنسان عاقل وعقلانيّ فهم وضعي وقبِلَ أن نؤجّل موضوع الزواج إلى حين يزول خوفي مِن الإرتباط.

وبعد سنة أقدمنا على الزواج ومنذ ذلك الحين لم أرَ ولو مرّة واحدة أيّ صورة مِن التي كانت تتراءى لي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button