كان هذا ذنب أمي الكبير

كنتُ في العاشرة مِن عمري حين وصلت فريدة إلى بيتنا. كان الوقت متأخّرًا وكنّا مجتمعين حول المائدة، وسمعنا خبطًا قويًّا على الباب. نظَرنا إلى بعضنا وسألَت أمّي والدي إن كان ينتظر أحدًا فأجابَها:

 

ـ لا... أرجو ألا يكون خبرًا سيّئًا.

 

ووضعت أمّي يدها على قلبها وقام رجل البيت ليرى من كان على الباب. وعندما فتح الباب، وجدنا فريدة واقفة أمامنا وحقيبة في يدها وكدمات على وجهها وذراعيها. ركضنا جميعنا لإدخالها، وأخبرَتنا أنّها هربت مِن بيتها بعدما قرّرت أن تضع أخيرًا حدًّا لتعديّات زوجها السكّير والعنيف.

ونشّفنا دموعها، وأعطيناها ما تأكله وحضّرت والدتي لها سريراً في غرفتنا.

 

وبينما كانت ضيفتنا تتحضّر للنوم، جلس أبي مهموماً يُفكّر بما عليه فعله لحماية التي إلتجأت إليه. فالجدير بالذكر أنّ والدي كان مِن الرجال القلائل الذين يعتبرون قدوة للآخرين، فقد كان نزيهاً ومحبّاً ومؤمنًا، ولا أتذكّر أنّه تشاجر يوماً مع أمّي أو رفَعَ صوته علينا. ولما يفعل؟ فقد كنّا أولاداً هادئين ومجتهدين ووالدتي زوجة مثاليّة. وطريقة عيشنا هذه هي التي جلبت لنا إحترام البلدة بأسرها.

 

أمّا فريدة فكانت إبنة إبن عمّ والدي، وحين أرادَت الزّواج نبّهَها أبي مِن عريسها، ولكنّها ظنَّت كالعديد مِن النساء أنّ بإمكانها تغيير طباع رجل يشرب ويهين أمّه وأخواته. قال لها حينها:

 

ـ يا إبنتي... هذا الشخص لا يحترم النساء ولن تكوني الإستثناء... أعرفه جيّداً، وحاولتُ التكلّم معه مرارًا بشأن سلوكه ولكن بدون نتيجة... أنتِ صبيّة صغيرة ولن تقوي عليه.

 

ولكنّها تزوّجَت ونَدِمَت.

لماذا يا ترى لا نسمع مِن الذين لدَيهم خبرة أكثر منّا بالحياة؟ بقيَ الأمر لغزاً حتى كبرتُ بعض الشيء واكتشفتُ سنّ المراهقة والرّغبة القويّة في إثبات شخصيّتي وإرادتي.

ولكنّني لم أقترف أغلاطاً كبيرة لأنّني كنتُ قد تلقَّيتُ تربية صالحة ومتينًة.

 

وفي الصباح عندما استيقظت فريدة، تكلّم أبي معها مطوّلاً وراء باب المطبخ المقفل. وعندما خرجا قال لنا:

 

ـ ستبقى فريدة معنا حتى تُحل أمورها.

 


ونَظَرَ إلى أمّي وأضاف:

 

ـ هذا إذا ستّ البيت كانت موافقة، فكما تعلمون رأي أمّكم بأهميّة رأيي.

 

وبالطبع وافقَت أمّي، وفرحنا لوجود تلك الصبّية الجميلة واللطيفة معنا لأنّنا كنّا نحبّها ونحب استقبال الضيوف.

وحاوَلَ إخوة فريدة إستردادها لإرجاعها عند زوجها وإراحة بالهم، ولكنّ أبي رفَضَ رفضًا قاطعًا لأنّه يعلم أنّ يومًا سيأتي ويقتل ذلك الزوج فريدة خاصة بعدما أهانته بهروبها.

وعشنا كلنّا بفرح، وعادَت البسمة إلى وجه فريدة وبدأَت تتأمّل بالحياة مجدّدًا. وكلّما كنتُ أسمع ضحكتها، كنتُ أنظر إلى أبي بفخر وأدعو له بطول العمر.

ولكنّ الناس بطبيعتهم سيّئون ويُحبّون تشويه سمعة غيرهم، خاصّة إذا كان أفضل منهم. فبدأَت تنتشر الأقاويل حول وجود حسناء بمنزل من يعتبِر نفسه أنزه رجل في البلدة. ولأنّ ما مِن شيء يبقى مستورًا مطوّلاً، وصلت تلك الأخبار إلى أذنَي أمّي التي عمِلَت جهدها على عدم الإكتراث لها ولكنّ غيرتها تحرّكَت بعدما أدركَت مدى جمال ضيفتها.

 

أمّا أبي فلم ينظر إليها يوماً إلا كابنته وأشهد بذلك. على كلّ الأحوال حتى لو كنتُ صغيرة آنذاك ولم يكن باستطاعتي التمييز جيّداً، فلم يأتِ يوم تواجَدَ هو وفريدة لوحدهما أو خَرَجَت هذه الأخيرة مِن البيت بدون رفقة أحدنا.

 

وبالرّغم مِن ذلك، سكن الشك رأس أمّي التي أخَذَت تراقب ما يدور مِن حولها عن كثب. فباتَت تفسّر الأمور على طريقتها. فإذا ضحِكَ أبي مع فريدة، كانت تصرخ بهما وتأمرهما بالسكوت بحجّة ما، وإذا سألَ والدي عن قريبتنا ردَّت عليه والدتي:

 

ـ ولِما تسأل؟ هل يهمّكَ أمرها؟

 

ولأنّ أبي لم يكن غبيًّا، لاحَظَ غيرة أمّي وحاوَلَ اطمئنانها بشتّى الطرق، شارحًا لها أنّه يحب فريدة حب أبٍ لابنته وليس أكثر.

والذي ساهَمَ في تعزيز شعور أمّي، كانت التلميحات التي سمِعَتها مِن أقاربها ومعارفها وزوّارها: "هي حقًّا جميلة... إحترسي منها حبيبتي!".

وبدأ أهلي يتشاجران، ووجدنا الأمر جدّ غريب. وخافَت أختي الصغيرة أن يتطلّقا، ولكنّني أكّدتُ لها أنّها مرحلة عابرة بالرغم مِن معرفتي بالذي يدور مِن الأحاديث. على كلّ حال، لم تحاول أمّي حتى خَفت صوتها حين كانت توبّخ أبي بشأن فريدة التي شعَرَت بالإحراج والذنب، لكنّها لم تجرؤ على التدخّل خوفًا مِن أن تزيد مِن غضب أمّي.

 

وذهَبَ التناغم مِن عائلتنا ولم يعد. هل كان يومًا حقًا موجودًا أم أنّ الأمر كان منذ البدء كذبة كبيرة؟

ولم تعد أمّي تعامل ضيفتنا برفق أو محبّة، بل بدأَت تسيء إليها بالكلام وتتذمّر مِن وجودها.

 


حزنتُ كثيرًا وخجلتُ مِن الذي يحدث، لأنّنا لم نتربّى هكذا. ورأيتُ كلّ المبادئ تختفي أمام عَينَيّ ولم أعد أعلم الصحّ مِن الخطأ.

ولحدّة التشنّج، كان لا بدّ أن تحصل مصيبة كبيرة، ولو عَلِمَ أحدنا ما سيحصل لاحقًا، أنا متأكّدة من أنّنا كنّا كلنّا فعلنا ما بوسعنا لتجنّبه وأوّلنا أمّي. ولكنّها كانت مشغولة بإزاحة غريمتها مِن طريقها ليرتاح بالها وتستعيد حياتها الهادئة. وما حَدَث في ذلك اليوم سَرَّع الأمور وغيّر مجراها إلى الأبد.

 

مرضَت جدّتي، واضطرَّت أمّي للذهاب إليها لتهتم بها كونها الوحيدة بين أولادها القريبة منها، وتركَتنا ليومَين برفقة أبي وفريدة. وأنا متأكّدة من أنّها رحَلَت على مضَض وفي قلبها خوف شديد مِن الذي يُمكن أن يحصل بغيابها. وبالطبع لم يحصل شيء لأنّه لم يكن هناك شيء ليحصل. وعادَت والدتي في مساء اليوم الثاني لتجدنا مجتمعين حول المائدة نضحك ونخبر القصص. وأثارَ ذلك المشهد جنونها، خاصة أنّنا كنّا في الآونة الأخيرة نأكل بصمت بسبب الجوّ الثقيل الذي كان سائدًا في البيت مِن جّراء غيرتها المزعجة.

وقفَت أمامنا وقالَت صارخة:

 

ـ هنيئًا لكم جميعًا! أرى أن غيابي أراحكم!

 

وأمسكَت فريدة بذراعها وقالَت لها:

 

ـ إسمعي أيّتها الفاسقة... ستغادرين بيتي في الصباح الباكر! إستقبلتكِ بذراعين مفتوحتين وكيف شكَرتني؟ بسرقة زوجي منّي؟

 

ـ وإلى أين أذهب؟

 

ـ إذهبي إلى الجحيم!

 

وقامَ والدي مِن مكانه وحاولَ إقناع أمّي بالعدول عن قرارها، ولكنّها هدّدَته بترك المنزل إلى الأبد وأخذنا معها. حينها لم يجد أبي مخرجًا آخرًا وقَبِلَ أن يُعيد فريدة إلى منزل أهلها. بدأنا نبكي ونتوسّل أمنّا ولكنّها بَقيَت مصرّة على قرارها. وفي الصباح رحَلَت فريدة باكية.

أتذكّر أنّ بعد تلك الليلة لم نعد نكلّم أمنّا إلا للضرورة، لتعرف مدى إستيائنا، وأصبح أبي يُؤخّر موعد عودته في المساء ليتجنّب وجودها ويخلد إلى النوم فور انتهاءه مِن تناول العشاء.

وعلِمنا أنّ عائلة فريدة أعادَتها إلى زوجها للتخلّص مِن عبئها عليهم، وكنّا نعلَم أنّ المسكينة عادَت تتلقّى الإهانات والضربات. ولم تدرك أمّي فظاعة ما فَعَلته إلا عندما وصلَنا خبر موت تلك الصبيّة الجميلة والرّقيقة. فكما توقّع أبي، قامَ زوجها بقتلها في إحدى نوبات الغضب التي كانت تنتابه بعد تناوله الكحول.

عندها وقَعَت أمّي أرضًا وغابت عن الوعي. وحين استيقظَت، بدأت بالبكاء ولم تكفّ لأيّام طويلة، ومِن ثم أصبحَت كالشبح تمشي في البيت وتردّد: "أنا قتلتُها... أنا قتلتُها".

وبالرّغم مِن إستيائه الشديد منها، عمِلَ أبي جهده لتطمينها بأنّها ليست المذنبة. ولكنّنا كنّا نعلم أنّ العكس صحيح. وأخذناها عند طبيب مختص أعطاها مهدّئات ومنوّمات ولكنّها لم تعد إلى ما كانت عليه حتى آخر أيّامها.

وملأ الحزن المنزل، ولم نعد نضحك بل سادَ صمت مخيف زرَعَ في قلبنا ذنبًا أبديًّا.

توفيَّ أبي بعد خمس سنوات، ربما لكثرة قهره لإرسال فريدة إلى الموت، وغاصَت أمّي في جنون لا قعر له.

وكأنّ كلّ ذلك لم يكن كافيًا، فالناس نفسهم الذين أطلقوا الإشاعات حول علاقة أبي بفريدة، عادوا وأشاروا بأصابع الإتهام إلينا لإعادة مَن لجأ إلينا إلى جلاّدها.

اليوم نعيش في عزلة تامّة في بيت يسكنه الندم والجنون، ولا أرى مخرجًا قريبًا. فلا يُمكنني ترك أمّي وإخوتي، فإذا قرَّرتُ أن أتزوّج وأبني عائلة كيف لهم أن يُكملوا حياتهم معها مِن دوني؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button