كان نصفي الآخر أقرب مما تصورت

قرأتُ قبل سنوات عديدة أنّ للروح توأمًا، أي أنّ لكلّ إنسان شخص يُناسبُه تمامًا إذ أنّه نصفه الآخر. لَم أُعطِ الأمر أهميّة لأنّني اعتبَرتُ هذا الكلام مجرّد خيال أو تمنٍّ، فكيف لذلك أن يكون صحيحًا؟ لكن ما حصَلَ لي لاحقًا أثبتَ لي أنّ هناك فعلاً توأمًا لِروحنا وكلّ ما علينا فعله هو العثور عليه.

قضيتُ حياتي بالإهتمام بالآخرين، أعني بوالدَيَّ رحمهما الله وأخوَتي الصغار. لَم أشعر بالوقت يمرّ، فالزمَن لا ينتظرُ أحدًا بل يُكملُ طريقه بِصمت وعناد، لِدرجة أنّنا نخاله قد توقّف بين الحين والآخر. وهكذا لاحظتُ أنّ شعري بدأ يبيَضُّ عن الجانبَين وأنّ خطوطًا رفيعة جاءَت تستقرّ على وجهي.

كان جسدي مُتعبًا مِن كثرة الأشغال المنزليّة، بعد أن تركتُ الدراسة وأيّ أمَل لِدخول مُعترَك العمَل. فمرَض أبي ومِن ثمّ أمّي فرَضا عليّ التضحيّة مِن أجل باقي العائلة. لَم أتذمّر يومًا بل بقيتُ أحمدُ ربّي على نعَمه حتى لو كانت بسيطة. تزوّجَ أخوَتي وفرِحتُ بهم ولهم وكأنّ الحبّ والزواج أمران لا علاقة لي بهما. فكيف آسفُ على ما لَم أذقه؟

لكن حين غادَر كلّ مَن حولي البيت، شعرتُ بِوحدة قاتلة وأدركتُ حينها أنّني الوحيدة التي لَم تعِش حياتها. ضحكتُ بِمرارة، فلَم يُجبرني أحد على القيام بتلك التضحيات، لِذا لَم ألُم سوى نفسي.

الغريب في الأمر، هو أنّني لَم أفكّر بالحبّ إلا حين بلغتُ الخمسين مِن عمري، فصِرتُ أذرفُ الدمع كلّما رأيتُ مشهدًا رومانسيًّا على التلفاز، وأشعرُ بغصّة لأنّني لَم ألتقِ فعليًا بأيّ رجل بل لطالما اعتبرتُ الرجال أشخاصًا لا هويّة جنسيّة لهم.

عدتُ طبعًا وطردتُ تلك الأفكار مِن رأسي لاستحالة حدوثها، فكان يكفي أن أنظر إلى نفسي في المرآة لأفهم أنّ لا أمل لي بأن يُلاحظني رجل. هدرتُ حياتي وتعلّقتُ بالشعور بالفخر كَوني أعطَيتُ كلّ ما أملكُ لِغيري. أليس هذا ما يُلقنّونَنا إيّاه؟ أن نُضحّي مِن أجل أهلنا؟ أكرِم أباك وأمّك وساعد الضعفاء...

لكنّ الحبّ كان بالقرب منّي ولَم أدرِك ذلك. ولو تكبّدتُ عناء النظر فقط لكنتُ وجدتُه قبل عشر سنوات. لكنّني كنتُ مشغولة بِغيري لِدرجة نكران الذات.

 


لقد كان نصفي الآخر يعيشُ في المبنى نفسه! أجل، وفي الطابق الرابع بالتحديد. لَم أعلَم بِوجود عصام لأنّني، وبكلّ بساطة، لَم أخرج مِن البيت لِسنوات طويلة إلا في مُناسبات نادرة كالأفراح أو الأتراح. باقي الوقت كان أخوَتي هم الذين يهتمّون بِجلب الحاجيّات. هل فعلوا ذلك لإراحتي أم لأنّني لَم يكن يجدر بي تَرك مهامي ورؤية العالم الخارجيّ كي لا يُغريني شيء ويزرعُ أفكارًا في رأسي؟

كنتُ قد سمعتُ أنّ أرملاً جاءَ ليسكنُ في المبنى، لكنّ ذلك حدث منذ وقت طويل ولَم أعِر الأمر أهميّة ولَم تقَع عيناي عليه بتاتًا... حتى ذلك اليوم.

كنتُ قد بدأتُ أشعرُ بالوحدة والخمول، وقرّرتُ أخيرًا أنّ عليّ الخروج لِمُمارسة رياضة المشي. فكّرتُ أيضًا بالمرور بالسوبر ماركت لِجلب ما أريدُه بدلاً مِن أن أطلبَ توصيل الأغراض إلى البيت. وذلك القرار جاء بعد تفكير عميق وتشجيع لِنفسي، فقد كانت تلك خطوة هامّة بالنسبة لي. إحترتُ ماذا أرتدي، فلَم أكن حتى ذلك الوقت مُهتمّة بِملابسي، لأنّني لَم أكن بِحاجة إلى الإهتمام بِمظهري. حين صرتُ جاهزة، أخذتُ نفَسًا عميقًا وفتحتُ الباب الذي كان يطلّ، مِن دون أن أدري، على باقي حياتي.

مشيتُ قليلاً في الأحياء المُجاورة ولَم أكن مُرتاحة للأمر. تفادَيتُ النظَر إلى المارّة بِداعي الخجَل ثمّ دخلتُ السوبر ماركت. تلذّذتُ بالنظر إلى المُنتجات العديدة الموضوعة على الرفوف وملأتُ سلّتي بِفرَح. عند وصولي إلى الصندوق وقفَ ورائي رجل في العقد الخامس مِن حياته وألقى التحيّة عليّ بتهذيب. إستدرتُ نحوه وردَدتُ له سلامه سائلةً نفسي عن دوافعه، ثمّ أخذتُ أكياسي وأتّجهتُ إلى البيت.

لكنّ ذلك الرجل مشى ورائي طوال الطريق، الأمر الذي أثارَ شكوكي. أقنَعتُ نفسي بأنّها صدفة بحتة، إلا أنّه بقيَ ورائي إلى أن وصلتُ المبنى. عندها انتابَني خوفٌ شديد، وندِمتُ أن أكون قد خرجتُ مِن مسكني حيث كنتُ بأمان.

تصوّرتُ أنّ الذي لحِقَ بي سينشلُني أو يعتدي عليّ، ولذلك نظرتُ مِن حولي ولَم أجد أحدًا بإمكانه انقاذي منه. عندها توقّفتُ فجأةً وصرختُ بالرجل:

 

ـ ماذا تُريدُ منّي؟ هل تُريدُ مالاً؟!؟ خذ كلّ ما لدَيّ وارحَل! لستُ غنيّة بل أعيشُ مِن الذي يُعطونَه لي أخوَتي!

 

وقفَ الرجل ينظرُ إليّ بِدهشة، بينما كنت أفتحُ حقيبة يدي وأُخرِجُ منها بعض المال. مدَدتُ له كلّ ما كان لدَيّ طالبةً منه تركي بِسلام. ضحِكَ الرجل عاليًا وقال:

 

ـ لا، شكرًا سيّدتي. كلّ ما في الأمر أنّني عائدٌ إلى بيتي. فأنا أسكنُ في الدور الرابع وإسمي عصام. لقد رأيتُكِ مِن قبل، مرّة أو اثنتَين... تعيشين في الطابق الثاني، أليس كذلك؟

 

إحمرَّ وجهي وتمتمتُ: "نعم".

أردتُ الإعتذار، إلا أنّني فضّلتُ الإسراع بِدخول المبنى مِن كثرة خجَلي، وصعدتُ السلالم كي لا أضطرُّ لِركوب المصعد مع جاري. وصلتُ الشقّة وأقفلتُ الباب بِسرعة، وجلستُ على الأريكة أفكّرُ بالضرَر الذي ألحقَته بي عُزلتي. لَم يتسنَّ لي التفكير مطوّلاً، لأنّني سمعتُ الباب يُقرَع. نظرتُ مِن الثقب ورأيتُ عصام. سألتُه عمّا يُريدُه فصَرَخَ لي:

 

- إفتحي أيتّها الجارة الخوّافة! لقد نسيتِ أحد أكياسكِ على الرصيف وها أنا أُعيدُه لكِ! هيّا إفتحي!

 

كنتُ قد تصرّفتُ بِسخافة مرّتَين مع الشخص نفسه ففتحتُ له مُعتذرة. عندها فقط رأيتُ ملامحه جيّدًا فوجدتُه وسيمًا، الأمر الذي جلَبَ الإحمرار إلى وجهي. أعطاني عصام كيسي ثمّ قال لي:

 

- أستحقّ كوبًا مِن الشاي، أليس كذلك؟ هذا أقَلّ ما يُمكنكِ فعله مِن أجلي

 


كان على حقّ، لِذا دعوتُه للدخول وأجلستُه في الصالون لأحضّر الشاي. تمنَّيتُ لو أستطيع البقاء في المطبخ وعدَم الخروج إلى الصالون، لأنّني كنتُ أجهل كيف أتصرّفُ مع ضيفي. إلا أنّه لحِقَ بي إلى المطبخ بعدما طال انتظاره وقال:

 

ـ لما لا نشربُ الشاي هنا؟

 

جلَسنا إلى طاولة المطبخ، وسادَ صمتُ طويلٌ كسرَه عصام بِسرده ظروف قدومه إلى المبنى. أخبرَني عن زوجته التي عانَت مِن مرض حال دون إنجابهم الأولاد وأدّى إلى وفاتها. لَم أخبره شيئًا عنّي فماذا أقولُ له؟ أنّني صرتُ كالحيوان البرّي لا أعرفُ كيف أتعامل مع الناس؟ إلا أنّه كان يعلمُ ظروف حياتي مِن الذي سمِعه مِن باقي الجيران. وقَبل رحيل عصام ورجوعه إلى بيته قال لي:

 

ـ تشرّفتُ بمعرفتكِ يا آنسة وداد.

 

ـ أنا آسفة جدًّا على تصرّفي يا أستاذ عصام.

 

ـ عصام، ناديني عصام وسأُناديكِ وداد، إن لَم يكن لدَيكِ مانع طبعًا.

 

ـ حسنًا... عصام.

 

ـ أنا أمشي كلّ يوم في الصباح الباكر قبل الذهاب إلى العمل. لِما لا تأتين معي؟

 

ـ لا أدري إن...

 

ـ أنا إنسان خلوق، ثقي بذلك. كلّ ما في الأمر أنّنا سنمشي قليلاً ثمّ يعودُ كلّ منّا إلى أشغاله.

 

ـ حسنًا.

 

لَم أنَم جيّدًا تلك الليلة لأنّ ما حدَث لي زعزَعَ نمَط حياتي... إلى جانب تفكيري بوسامة عصام. خطَرَ طبعًا ببالي أن أعتذر عن المشي معه في الصباح، لكنّني عدَلتُ عن ذلك كي لا يسخرَ منّي.

كان مشوارنا أخفّ وطأة ممّا تصوّرتُ، فلَم يُكلّمني عصام كثيرًا بل اكتفى بالمشي بِصمت كي لا يُخيفني. مشينا في اليوم الذي تلا وكلّ يوم بعد ذلك وبدأتُ أعتادُ على وجوده.

بعد فترة، صرتُ وعصام نتبادل وصفات الطعام ونتبارى مَن ينجحُ أكثر في تنفيذها ونأكلُها سويًّا في مطبخي. كنتُ سعيدة لكن بِحذر، فلَم أكن مُعتادة على تلك السعادة وخفتُ أن أفقدَها وأعود إلى وحدتي. لَم أخبِر أحدًا عن عصام إذ خجلتُ مِن أن يكون لامرأة بسنّي صديق.

على مرّ الأيّام، وجدتُ أنّ بيني وبين عصام أمورًا مُشتركة عديدة. فكان الأمر وكأنّه يقرأ أفكاري إذ أنّنا كنّا مُتّفقَين على كلّ شيء ولَم يحصل أن تضاربَت آراءنا. كبُرَ إعجابي به حتى تحوّلَ إلى حبّ. كتمتُ شعوري لأنّني لَم أعرِف إن كان جاري يُشاطرُني ذلك الاحساس فتجنّبتُ خَيبة قد تؤذيني كثيرًا. الأمر الذي حيّرَني بِعصام هو أنّه بقيَ يتصرّفُ معي كصديق وليس أكثر، فقد يكون قد وجَدَ فيّ رفيقة وحسب.

بعد سنة، دقّ جاري بابي وباقة ورد في يده. تفاجأتُ للأمر فقال لي:

 

ـ هذه الورود لكِ... بِمناسبة عيدنا.

 

ـ عيدنا؟

 

ـ أجل، منذ سنة، أي مثل هذا اليوم، إتّهمتِني بِمحاولة سرقتكِ.

 

ضحكنا كثيرًا لتلك الحادثة ثمّ نظرَ إليّ عصام وأضافَ:

 

ـ ومنذ سنة تغيّرَت حياتي فلَم أكن لأفكّر بأنّ قلبي سيدقُّ ثانية... وداد، كلّ ما أفكّرُ به هو ربط حياتي بِحياتكِ... إلى الأبد. هل تقبلين بي زوجًا لكِ؟

 

شعرتُ وكأنّ قلبي قد توقّفَ عن الخفقان للحظة، ولَم أعُد قادرة على الكلام أو حتى الوقوف، فجلستُ على الأريكة بعد أن امتلأت عينايَ بالدموع. خافَ عصام أن تكون ردّة فعلي تعني الرفض، فأسرَعَ بالقول: "قد تكوني بِحاجة إلى المزيد مِن الوقت للإجابة على سؤالي."

إلا أنّني أمسكتُ بِيَده وقلتُ له بِصوت خافت: "لا...فلقد أضعتُ الكثير مِن الوقت حتى الآن". وسكتُّ للحظات ثمّ أضفتُ: "أجل يا عصام، أقبلُ بكَ زوجًا لي... أجل، أجل!".

ولأوّل مرّة في حياتي عرفتُ كيف تكون القبلة، وفهمتُ كيف تكون الحياة والحبّ والأمل. كان رجل حياتي يعيشُ في المبنى نفسه وكان القدر قد قرَّرَ أن نلتقي منذ البدء.

لقد أضعتُ سنينًا مِن حياتي، في حين كان بإمكاني أن أهتمّ بنفسي وبِغيري في الوقت ذاته، وليس وضع حياتي وأنوثتي جانبًا. لستُ آسفة على شيء بعدما وجدتُ عصام، لكن ماذا لو لَم أخرج في ذلك اليوم؟ ماذا لو قرَّرَ عصام الإنتقال مِن شقّته قبل أن نلتقي؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button