كان إبني يسعى لقتلي!

صحيح أنّني لَم أكن الزوج أو الأب المثاليّ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ عليّ أن أموت! فذلك الوغد الذي إسمه إبني قرَّرَ محوي مِن قائمة الأحياء وتباهى بما ينوي فعله. كنتُ أعلم أنّ أمّه هي التي حرّضَته عليّ، فالبغض والطمَع اللذان ملآ قلبها تجاهي لَم يكن لهما حدود. هل أنا مُذنبٌ لهذه الدرجة؟ سأتركُكم تحكمون بأنفسكم فهذه قصّتي:

لقد وُلِدتُ لعائلة فقيرة مؤلّفة مِن عدد لا يُحصى مِن الأولاد، وتُركنا لمصيرنا إذ كان علينا تدبير نفسنا للحصول على لقمة العَيش. وأعترفُ أنّنا استعملنا أساليب مُلتوية لذلك، ونما في داخلنا، وإلى حدّ كبير، حبّ البقاء. لعَنتُ ألف مرّة والدَيّ على جلبي إلى الدنيا، وسألتُ نفسي كيف لهما أن يكونا بلا ضمير إلى هذا الحدّ.

مرَّت السنوات ولَم أدخُل المدرسة أو أيّة مؤسّسة تعليميّة، لنقص المال وانشغالي بالحفاظ على بطن مليء، على عكس أخوَتي الذين انخرطوا شيئًا فشيئًا في المجتمع. وحدي بقيتُ أجدُ العِلم مضيَعة للوقت طالما النتيجة هي سواء، لأنّني كنتُ أعيشُ بطريقة أفضل منهم، إذ أنّني صرتُ آكل وأشرَب وألبس ممّا هو مُخصّص لمَن هم مِن الطبقة الأعلى منّا. كيف فعلتُ ذلك؟ بفضل أناس مشبوهين لدَيهم أعمال مشبوهة ودَخل أيضًا مشبوه. ولَم يُوبّخني أحد على ما كنتُ أفعله.

صرتُ بالخامسة والعشرين مِن عمري وسكنتُ لوحدي في شقّة ظريفة، وحان الوقت لأجد لنفسي زوجة وأبتعد عن الفتيات الرخيصات اللواتي يبِعنَ جسدهنّ لي مُقابل المال. لكن كيف لي أن أجِدَ مَن يرضى بي بعد أن تلطّخَت سمعتي في المنطقة بأسرها؟ عندها رحتُ بعيدًا أبحثُ عن عروس أقصُّ لها ولأهلها قصصًا شريفة عنّي ليرضوا بي. وجدتُ سهام، صبيّة جميلة وعاقلة، وهي وقعَت في حبّي مِن دون أن أبذل جهدًا كبيرًا. كلّ ما كان عليّ فعله هو ممارسة اغراء واقناع تعلمّتُهما عبر السنوات، وبعد فترة قصيرة إحتفلتُ بعقد قراني. لَم يحضُر ذويّ زفافي لسبب بسيط وهو أنّني لَم أدعُ أيًّا منهم، فكيف لي أن أٌخاطِر بأن يكشِفَ أحدهم حقيقتي أمام عروستي وأهلها؟

 


قد يظنُّ البعض أنّني قرّرتُ حينها أن أستقيم، لكن لِما أفعَل؟ فقد كانت حياتي كما رسمتُها ولا حاجة لي لأُبدِّلَ شيئًا فيها.

أحبَّتني سهام، ولوهلة حسبتُ أنّ حياتي اكتملَت، وطلبتُ منها ولدًا وبعد سنة صارَت حاملاً. في تلك الأثناء، تابعتُ أعمالي المشبوهة إلى حين أُلقيَ القبض عليّ بعد أن وشى أحدهم بي. جرَت المُحاكمة بسرعة وأُلقيَ بي وراء القضبان.

تفاجأَت زوجتي كثيرًا عند معرفتها نوع عمَلي. فحتى ذلك الوقت لَم أدَعها تشعر بما أقومُ به، بل بقيتُ أدّعي أنّ لي شركة إستيراد وتصدير ناجحة.

عاتبَتني سهام كثيرًا يوم زارَتني في السجن، إلا أنّها ارتاحَت لدى معرفتها بأنّ لا شيء سينقصُها هي والجنين الذي كان سيولدَ بعد أشهر، ووعدتُها بأنّ أمورًا كثيرة ستتغيّر لدى خروجي الذي كان مُقرّرًا بعد أربع سنوات. كانت تلك الزيارة الوحيدة التي قامَت بها زوجتي لي، إذ أنّها صارَت تتفادى رؤيتي وكرّسَت وقتها لإبننا. لَم تصِلني حتى صورة لولدي، الأمر الذي أحزنَني إلى درجة لَم أتصوّرها مُمكنة. بقيَ صديق لي يرسلُ لها المال نيابة عنّي كما وعدتُها. فبالرغم مِن كلّ سيّئاتي، كنتُ دائمًا أوفي بوعودي.

أُفرِجَ عنّي بعد ثلاث سنوات بفضل سلوكي الحسن، إذ أنّني، إلى جانب عدَم إفتعالي المشاكل في السجن، كنتُ مسؤولاً عن قسم الأشغال اليدويّة وأُديرُه بجدارة. عند خروجي لَم أجِدَ سهام أو إبني بانتظاري، لِذا رحتُ بنفسي إلى البيت حيث كان الإستقبال باردًا خاصّة مِن قِبَل ولدَي الذي لَم يكن قد رآني ولو مرّة واحدة. وفي تلك اللحظة، أدركتُ أنّ ما كنتُ أعمله قد أعطى ثماره السامّة وأنّ عليّ إيجاد الطريق المُستقيم لأستعيد حبّ واحترام عائلتي الصغيرة. لِذا قلتُ لسهام في الليلة نفسها:

 

ـ أنا آسف لأنّني كذبتُ عليكِ وغشَشتُكِ يا حبيبتي وأُجبِرتِ على الولادة وتربية إبننا لوحدكِ... لا يجدرُ بأيّة زوجة أن تمرّ بالذي مرَرتِ به أنتِ... أعدُكِ بأن أُغيّر مساري. سترَين... تعلّمتُ الكثير في مشغل السجن، وسأبحثُ عن عمل عند ميكانيكيّ أو نجّار وستكون لنا عيشة كريمة.

 

ـ ماذا؟!؟ ما هذا الكلام؟!؟ تُريدُني أن أعيش في القلّة بعد كلّ الذي حصَلَ لي؟ لا يا أستاذ، أنتَ مُخطئ! لا بل أُريدُ المزيد! لدَينا ولد عليه أن يتعلّم في أفضل مدرسة وأن يحظى بأفخر ما يكون! أنتَ مدين لنا بالكثير! ستُعاود ما كنتَ تفعله، لكن هذه المرّة عليكَ أن تحترس، فإن ضبطتكَ الشرطة مُجدّدًا، سآخذ إبننا بعيدًا ولن ترانا بعد ذلك. أفهمتَ؟!؟

 

لَم تكن سهام تمزَح فكان مِن الواضح أنّها بغاية الجدّيّة وتفاجأتُ كثيرًا بما قالَته. هل يُعقَل أن تكون زوجتي أسوأ منّي؟ أين كانت تُخبّئ هذا الكم مِن الطمَع؟

وهكذا عدتُ إلى أعمالي الإعتياديّة وعادَت زوجتي تصرفُ المال على نفسها وإبننا. لكن شيئًا كان قد انكسَر بيننا إذ رأى كلّ منّا الآخر على حقيقته البشعة.

كبُرَ ولدُنا ليصير إنسانًا كسولاً ومُدلّعًا ووقحًا وأسفتُ لِما وصل إليه. ولَم تعُد سهام تُعيرُ أهميّة لي أو له، بل فقط لنفسها إذ أنّها جمعَت حولها أسوأ النساء وصِرنَ تذهبنَ إلى بيت إحداهنّ للعب المَيسَر بشكل شبه يوميّ وتخسرُ مبالغ عليّ أنا دفعها نيابة عنها.

أرادَت سهام أن آخذ إبننا ليعمل معي فرفضتُ بقوّة، فكيف لأب أن يجرّ إبنه إلى عالم كعالمي؟ حاولتُ أن أشرَحَ لها أنّ ما يدور في عائلتنا ليس مُناسبًا لشاب مثل إبننا، إلا أنّها نظرَت إليّ بتعجّب وضحكَت بتهكّم. سكتُّ لكنّني بقيتُ على موقفي.

جمعتُ الكثير مِن المال بسبب أعمالي، وزادَ طمَع سهام التي غضَّت النظر عن علاقة غراميّة أقمتُها مع إنسانة طيّبة أحبَبتُها لأنّها حقًّا تستحقّ كلّ ما هو جيّد.

 


فكّرتُ بتطليق سهام والزواج مِن المرأة التي أعطَتني الحنان وشجّعَتني على ترك أعمالي، مؤكّدةً لي أنّها تقبل بالعَيش ببساطة معي، إلا أنّ زوجتي الأفعى هدّدَتني بإرسالي إلى السجن إن طلّقتُها أو تزوّجتُ مِن غيرها، ليس بدافع الحبّ أو الغيرة بل لأنّها لَم تشأ تقاسم ما لدَيّ مع أحد. بقيتُ على حالي مع حبيبتي إلى حين أجد طريقة للتخلّص مِن التي مَنعَتني مِن الإستقامة. فالحبّ والحنان يفعلان المعجزات في القلوب مهما بلَغَ سوادها، الأمر الذي لَم أتخيَّله مُمكنًا.

شعَرَت سهام بأنّني أفلِتُ شيئًا فشيئًا مِن قبضتها، فحرّضَت إبنها، وأقولُ إبنها لأنّه لَم يكن يومًا إبنًا لي، على قتلي قبل أن يذهب مالي إلى امرأة أخرى. وبالطبع كنتُ أجهل ما يُحاكُ لي، فكيف لأحد أن يتصوّر أنّ ذلك وارد، إلى أنّ أحد أصدقائي المشبوهين جاءَ إليّ يومًا قائلاً:

 

ـ إحترِس مِن إبنكَ يا صاحبي.

 

ـ أحترسُ منه؟ لَم أفهَم قصدكَ.

 

ـ إنّه ينوي قتلكَ.

 

ـ ها ها ها! ما هذه الدّعابة؟ إبني يُريدُ قتلي؟ هو بالكاد يستطيع التفكير بحدّ ذاته! مِن أين جئتَ بهكذا فكرة سخيفة؟

 

ـ إبنكَ تباهى أمام أحد بأنّه سيُصبحُ ثريًّا قريبًا بعدما يصيرُ يتيم الأب، وأراه مُسدّسًا يُخبّئه في جيبه وشرَحَ له أنّ الأمر سيبدو وكأنّها محاولة سرقة مِن قِبَل مجهول. أنتَ تعلَم أنّ لدَينا آذانًا وأعيُنًا في كلّ مكان. إنّه يُنفّذ أوامر أمّه.

 

صعقَني الخبر لِدرجة أنّني بكيتُ مِن كثرة خَيبتي. أعلَم أنّني قد أكون السبب في عدَم اعتياد إبني عليّ في سنواته الأولى بسبب تواجدي في السجن، إلا أنّني حاولتُ جهدي معه لاحقًا. لكنّ تأثير أمّه السيّئ عليه كان الأقوى. ومنذ ذلك الخبَر المُفزِع، صِرتُ أحترسُ وأتفادى التواجد لوحدي مع ولدَي، وأقضي مُعظم وقتي عند حبيبتي التي أعطَتني الحلّ:

 

ـ إذهب برجلَيكَ إلى الشرطة وسلِّم نفسكَ إليهم، هكذا لن تعود خائفًا مِن أنّ تشي بكَ سهام إن طلّقتَها. ثمّ طلّقها وستُنقذ بذلك حياتكَ، فما النَفع مِن قتلكَ إن هي لَم تعُد قادرة وإبنها على أن يرثاكَ؟

 

ـ أن أُسلّم نفسي يعني قضاء سنوات في السجن.

 

ـ صحيح ذلك.

 

ـ وخسارتكِ.

 

ـ مَن قال ذلك؟

 

ـ ستنتظرين خروجي؟

 

ـ بفارغ الصبر.

 

ـ هل أنتِ جادّة؟ لا تُمازحيني أرجوكِ! فالأمر بغاية الجدّيّة!

 

ـ سأنتظرُكَ حتى لو تطلّبَ الأمر العمر كلّه.

 

ـ هل تحبّيني لهذه الدرجة؟

 

ـ أجل.

 

ـ وكيف لإنسانة مثلكِ أن تحبَّ رجلاً مثلي؟ أنتِ تستحقيّن أفضل منّي بكثير!

 

ـ أحبُّكَ لأنّكَ تُريد أن تستقيم وتتذوّق أخيرًا طعم لقمة العَيش الشريفة التي سأتقاسمها معكَ بكل طيبة قلب. إذهب إلى الشرطة يا حبيبي ولا تخَف.

 

طلّقتُ سهام يوم رحتُ لأسلّمُ نفسي، وتخيّلتُ خَيبتها حين علِمَت أنّها لن تحصل على شيء، حتى فرحة إيذائي. لَم آسف على إبني أبدًا، فهو قادر على العمَل والصّرف على نفسه وأمّه، وأدّعو له بأن يعي ما كادَ أن يفعله، أي قتل أبيه.

بقيَ لي أن أتحمّل فراق حبيبتي لكنّ الأمل يحملُ صاحبه على الصبر. خرجتُ مِن الحبس بعد خمس سنوات وكانت أعظم إمرأة بإنتظاري عند بوّابة السجن. أنا اليوم رجل سعيد، أعمل في مشغلي الصغير ليلاً نهارًا وبحماس، لإطعام زوجتي الحبيبة وإبنتي الصغيرة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button