قصّة حب

مَن ترعرَعَ في بيت يسود فيه الحب يعلم كيف يُحب، ففاقد الشيء لا يُعطيه. كبرتُ أشاهد بفخر والدَيّ وهما يتبادلان القبل والكلام الجميل ويحلان مشاكلهما بهدوء ونضج.

وعندما توفّيَ والدي فجأة بسكتة قلبيّة، كادَت المسكينة أمّي أن تجنّ. ولكثرة حزنها، لم تعد قادرة على مواصلة عملها، فأصبحنا أنا وأخوَتي مِن دون مدخول.

عندها تدخَّل أخوها في المهجر، وعَرَضَ عليها الإنتقال معنا إلى كندا على أمل أن يفيدها هذا التغيير الجذريّ. كانت الهجرة آنذاك سهلة، ولم تمضِ أشهر حتى حصلنا على أوراقنا وطرنا وفي قلبنا حماسة وخوف.

كنتُ في الخامسة مِن عمري، ولم أكن أعلم كم أنّ ذلك البلد كبير وبارد، ولكنّني كنتُ متأكّدة مِن أنّني سأكون بخير بفضل عائلتي المحبّة.

وسكنّا عند خالي وزوجته وابنته وابنه، وكبرتُ في جوّ سليم بعدما عادَت البسمة إلى وجه أمّي الحبيبة التي وجَدَت عملاً يُرضيها ويُنسيها حزنها.

 

ومع مرّ السنوات، صِرتُ مراهقة مجتهدة ورقيقة، ولكنّني لم أكن جميلة بالمعنى التقليديّ، على خلاف مهى ابنة خالي التي كانت دائمًا محاطة بالشبّان. إلّا أنّني لم آبه بالأمر فقد كان لدَيّ ما يشغل بالي: عالم الأزياء. كنتُ فعلًا موهوبة، أجلس لساعات أرسم الفساتين وألوّنها لتصبح تحفًا مِن الذوق والجمال.

واختَرتُ لاحقًا التخصّص بتصميم وتنفيذ الأزياء، بعدما شجّعَتني أمّي على تحقيق أحلامي. هكذا كانت، تدفع بنا نحو الأفضل وتحترم كياننا. رحمكِ الله يا حبيبتي... يا ملاكي.

 


وفي تلك الأثناء تعرّفتُ إلى ربيع، شاب مِن بلدي هاجَرَ هو الآخر مع عائلته إلى كندا وكان يتردّد إلى المنزل كونه صديق إبن خالي. وأُغرِمتُ به بالرغم مِن أنّنا لم نتبادل ولو كلمة واحدة. كنتُ أكتفي بالنظر إليه، وأركض إلى غرفتي كي لا يرى في عَينَيّ حقيقة مشاعري. أمّا مهى فكانت تجلس معه وتخبره شتّى الأخبار ويضحكان معًا.

لم أشعر بالغيرة مِن ابنة خالي، لأنّها كانت فائقة الجمال وكان مِن المنطقيّ أن يُفضّلها عليّ. إلى جانب ذلك، لم يكن لدَيّ الوقت لأمور القلب، خاصّة بعد أن تخرّجتُ وبدأتُ أفتّش عن عمل. لم يكن الأمر صعبًا عليّ، فلطالما كنتُ مِن الأوائل. لِذا قُبِلتُ بسرعة في مؤسّسة ضخمة كانت تنوي إرسالي على الفور إلى أوروبا، ولكن بعد أن أقدّم لها عرضًا لمبتكراتي. طِرتُ مِن الفرَحَ مع أنّ قلبي كان يتألّم لِفكرة ترك عائلتي الحبيبة.

ولكنّ أمّي قالت لي ذات مساء عندما رأتني أبكي في غرفتي وأنا أخيط على "منكين" عرض الأزياء:

 

ـ لا تبكِ حبيبتي، فالحياة تفتح لكِ ذراعَيها... تعِبتِ بدرسكِ وأتعَبتِ أناملكِ السحريّة وحان الوقت لِتجسيد أحلامكِ... لا تخافي علينا فسنكون بخير، شرط أن تمسحي دموعكِ وترينا ابتسامتكِ الجميلة.

 

وتعانقنا مطوّلاً وعلِمتُ أنّني سأكون بخير.

وعملتُ ليلاً نهارًا على تصاميمي، وكنتُ مسرورة مِن النتيجة. كنتُ قد ابتكرتُ خمسة فساتين فائقة الجمال، وكنتُ متأكّدة مِن أنّها ستنال اعجاب لجنة التحكيم. وقبل تقديمها بيوم واحد، ذهبتُ مع أخوَتي للعشاء لنحتفل مسبقًا بنجاحي.

ولكن عند عودتي، صُدمتُ بالفاجعة التي كانت بانتظاري: وجدتُ جميع تصاميمي مقصوصة قطعًا صغيرة. ولشدّة قهري، وقَعتُ أرضًا وأُغميَ عليّ. وحين استفَقتُ كان الجميع يُحيط بي، مِن عائلتي وعائلة خالي. عندها صرختُ لهم:

 

ـ مَن منكم فعَلَ ذلك بي؟ مَن منكم دمَّرَ مستقبلي؟؟؟ تكلّموا!

 

ولكنّ الصمت سادَ بين الموجودين ولم يعترف أحدٌ بأنّه الفاعل. كانت الأيّام التي تَلَت صعبة جدًّا، خاصة بعدما اضطرِرتُ لشرح ما حصل للجنة الشركة التي رفضَتني على مضض.

وجلستُ في البيت أتحسّر على حظّي، وبدأتُ أشكّ بالجميع، حتى بأمّي التي لاحظَت نظراتي لها وسكتَت لأنّها عرفَت أنّني أمرّ بفترة عصيبة.

وبقيتُ على تلك الحالة أشهرًا طويلة، وبتُّ أتفادى الجلوس مع الباقين لأنّ ثمّة خائنًا بينهم أفسَدَ عليّ فرصتي الوحيدة بالنجاح والتألّق.

وصِرتُ أذهب إلى منتزه قرب البيت، أقضي فيه ساعات النهار أقرأ، لأعود في المساء وأحبس نفسي في غرفتي.

 


وذات نهار، وأنا عائدة مشيًا إلى البيت، توقّفَت سيّارة بجنبي، وإذ بربيع، صديق إبن خالي، يُنزِل شبّاكه ويقول لي:

 

ـ اصعدي... الوقت متأخّر ولا يجوز أن تمشي وحدكِ.

 

لم أتوقّع أبدًا أن أجد أمامي الشاب الذي خطَفَ قلبي مِنذ سنين، وها هو يدعوني للصعود بسيّارته. ونسيتُ جميع أحزاني، وبدأ قلبي يدّق بسرعة. ولكن سرعان ما تداركتُ الوضع، فلم أعد تلك المراهقة السّريعة التأثّر: كان ربيع قد عَرَض عليّ توصيلي مِن باب اللياقة فقط ولم يكن يجدر بي إعطاء معنىً آخر للأمر.

وجلستُ إلى جانبه بِصمت وانطلًقَ بي. ولكنّه أوقَفَ سيّارته قبل البيت بأمتارٍ ليقول لي:

 

ـ لا أعلم مِن أين أبدأ... لطالما كنتُ شابًا جريئًا ومباشرًا وها أنا الآن لا أجد كلماتي.

 

ـ ما الأمر؟ لماذا أنتَ شاحب هكذا؟

 

ـ لأنّني خائف مِن ردّة فعلكِ... اسمعي... ولا تقاطعيني مِن فضلكِ؟؟؟ أحبّكِ... ها قد قلتُها! أجل أحبّكِ ومُنذ رأيتُكِ... أعجبَني حياؤكِ وذكاؤكِ... أجل أعرف كلّ شيء عنكِ مِن خلال أحاديث إبن خالكِ واخته... تابعتُ أخباركِ على مدى السنين و... و... أنا الذي قطّعتُ تصاميمكِ!

 

ـ أنتَ؟؟؟ لماذا فعلتَ شيئًا كهذا؟؟؟ لقد دمَّرتَ مستقبلي!

 

ـ تمامًا... وهذا كان مقصدي... أردتُ أن يكون مستقبلكِ معي... أتقبليني زوجًا لكِ؟
 

كلّ كلمات العالم لن تستطيع وصف ربع ما شعرتُ به في تلك اللحظة. طارَت كلّ فساتين الدنيا مِن رأسي، ولم أعد أرى سوى عينَي ربيع المليئتَين بالأمل والخوف. وبدلاً مِن أن أجيبَه، عانقتُه بقوّة وبقينا هكذا لدقائق طويلة.

وحين وصلنا البيت، أصرّ ربيع على أن ينزل مِن السيّارة ويدخل معي ليطلب يدي على الفور مِن أمّي. كانت الدهشة عامة، فلم يشكّ أحد بإعجاب ربيع بي بل ظنّوا أنّه كان يتحجّج بابن خالي لرؤية أخته مهى. وما لم أكن أعرفه، هو أنّ ابنة خالي كانت مغرمة به هي الأخرى. وهي عند سماع الخبر، اسودّ وجهها ودخَلَت فورًا إلى غرفتها. حاولتُ التكلّم معها ولكنّها رفضَت سماعي، وأستطيع القول إنّها لم توجّه لي كلمة واحدة حتى يومنا هذا، أي بعد 25 سنة! لحسن حظّي أنّ أمّي كانت قد وجَدَت بيتًا خاصًا بنا وكنّا سننتقل إليه قريبًا، فلم أكن مستعدّة للعيش ولو خلال الأشهر التي تفصلني عن الزواج، في بيت يسوده الغضب والغيرة.

وجاء اليوم المنتظر وتزوّجنا وسط فرحة الجميع... تقريبًا. وأقسم أنّني لم أندَم ولو للحظة واحدة على اختياري ربيع شريكًا لحياتي، فكلّ يوم معه كان مليئًا بالحبّ والتفاهم، تمامًا كما كان الحال بين أبويَّ.

وأنجبتُ أجمل ألأولاد ثمّ أصبحتُ جدّة، ولكنّني خسرتُ زوجي الحبيب بعد أن أصيب بمرض خبيث. لم يتعذّب طويلاً، ولكنّني إلى الآن لم أعتَد على فراقه. خسرتُ زوجًا وصديقًا وأخًّا وأبًا... خسرتُ فرحتي التي لا تعود إليّ إلا حين أتلقّى زيارة أولادي وأحفادي، فبرفقتهم أخزّن فرحًا يُمكنّني مِن الصّمود حتى الزيارة القادمة.

ربيع، حبيبي... أينما كنتَ الآن... أعدكَ بأنّنا سنجتمع مجدّدًا ونبقى هذه المرّة سويًّا إلى الأبد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button