قصة خرافية

قسمٌ كبير مِن طفولتي ومراهقتي دار حوَل قصّة أثّرَت بي كثيرًا وأعطَتني أملاً كبيرًا بالصنف البشريّ والحبّ بصورة خاصّة. فالحقيقة أنّ ما حدَثَ لإحدى فتيات البلدة كان مُحزنًا ورومنسيًّا بالآن نفسه، لِدرجة أنّني تعلّقتُ بتلك القصّة لأبنيَ صورة الرجل الذي أُريدُه لاحقًا والذي، لأسباب منطقيّة، لَم أجِده... لأنّه وبكلّ بساطة ليس موجودًا. فلَم تصِلني باقي القصّة ولَم أعلَم، إلا بعد سنوات طويلة ما حدَثَ لِبطَلَينا.

كانت أميرة، صبيّة فائقة الجمال لِدرجة أنّ المرء، حين يراها، يخالُها تُحفة خُلِقَت على يد رسّام أو نحّات مشهور، إذ لَم يكن لدَيها أيّة شائبة. إضافةً إلى روعة ملامحها وقوامها، كانت أميرة طيّبة وخلوقة وإبنة وحيدة لأناس ذوي شأن في المجتمع. وحين ماتَت والدة تلك الصبيّة، أخذَها أبوها معه إلى قارّة إفريقيا حيث عاشا لسنوات قبل أن يعودا إلى البلدة ليستقرّا فيها. كانت أميرة قد بلغَت سنّ العشرين ويبحثُ قلبها عن الحبّ. وبالطبع تهافَتَ الكثير لطلَب يدها، إلا أنّها لَم تختَر أيًّا منهم بل بقيَت تنتظرُ الذي سيسكنُ قلبها وعقلها إلى الأبد.

إحتارَ أبوها بأمرها، وخافَ أن تنتهي الفتاة وحيدة بالرغم مِن جمالها وطيبتها، إلا أنّه لَم يتمكّن مِن إقناعها بالزواج مِن أحد الشبّان الذين تقدّموا لها والذين هم مِن عائلات كبيرة ولهم مُستقبل واعد.

أخَذَ والد أميرة إبنته إلى أفريقيا في رحلة أخيرة كي يُنهيَ ما تبقّى له مِن مسائل عالقة... وكانت تلك بالفعل رحلتها الأخيرة.

فالمسكينة كانت قد لتقطَت مرَض السلّ الذي لا تظهرُ علاماته في بعض الأحيان إلا بعد فترة قد تصل إلى ثلاثة أشهر. لِذا لَم يربط أحد سعال أميرة بأيّ مرَض خطير بل ردّه الطبيب إلى حساسية موسميّة.

لكنّ الفتاة بدأَت تشعرُ بضيق نفس وتعَب وفقدان الشهيّة، وما هو أخطر، صارَت تبصقُ الدّم حين تسعل. عندها فقط شُخِّصَ لها مرَض السلّ وبدأَت تتعالج كما يجب.

 


إنتشَرَ الخبر بين الناس الذين يُحيطون بأميرة وأبيها، فهرَبَ العرسان ليس فقط خوفًا مِن العدوى بل لأنّ حياة الصبيّة على المحكّ.

لَم يعُد أحدٌ يدخلُ غرفة أميرة أو حتى البيت سوى الأب الذي نقَلَ عمله إلى مسكنه، وكان مُساعده الخاص الذي إسمه طلال يأتي له بالمُستندات والأوراق. وكان أب أميرة قد نبّهَه إلى أنّه مُعرَّض لالتقاط العدوى ليس فقط مِن البيت بل منه شخصيًّا، فقد يكون يحملُ البكتيريا مِن دون أن يدري، إلا أنّ الشاب لَم يخَف. أثَّرَ تفاني طلال وشجاعته على صاحب عمله، لِذا صارَ بعد وقت وكأنّه فرد مِن العائلة، يُشاركُ أميرة وأبيها وجباتهما ويجلسُ معهما في الأمسيات. وهما تعلّقا به كَونه الإنسان الوحيد الذي رأياه لمدّة طويلة، أي ريثما تُعطي المضادّات الحيويّة مفعولها وتشفى الصبيّة، وتستعيدُ جمالها الذي فقدَته مِن جرّاء الحمى والسعال وفقدان الشهيّة.

وما كان مُقدّرًا أن يحصل قد حصَل، أيّ أنّ أميرة وقعَت في حبّ طلال ورأَت فيه فارسها الذي لا يُخيفه شيء ويتخطّى المخاطر مِن أجلها. وهو اعترفَ لها بأنّ السبب الأوّل لإصراره على دخول منزلها كان لرؤيتها والإطمئنان عليها.

بارَكَ الأب هذا الحبّ لأنّه تأكّدَ مِن أنّ إبنته الوحيدة ستكون بأمان مع هكذا شاب، حتى لو لَم يكن مِن عائلة عالية الشأن بل مُساعدًا بسيطًا.

إلا أنّ الأجواء سرعان ما تعكَّرَت حين انتكسَت صحّة أميرة بصورة مُفاجئة وقاطعة. كانت البكتيريا تقاومُ المُضادات الحيويّة وقد بلغَت ليس فقط الرئتَين بل أيضًا الغدَد ولاحقًا الكليَتَين. أرادَ الأب إبعاد طلال عن إبنته التي كانت حتمًا ستموتُ قريبًا، وهي الأخرى صمَّمَت على فَسخ علاقتها بحبيبها، إلا أنّ طلال بقيَ إلى جانبها بل أصرَّ على الزواج منها حتى لو بقيَ لها يوم واحد لتعيشه. هذا القرار الصادق والصارم أعادَ لأميرة بعض الأمل، فهي لَم تشأ أن تموت مِن دون أن تعرفَ طعم الزواج، فعُقِدَ قرانهما بحضور أفراد طاقم البيت فقط.

توفّيَت أميرة بين أحضان زوجها الحبيب بعد أقلّ مِن شهر على زواجهما، وبكى العريس كلّ دموعه وغاصَ، شأن أبيها، بكآبة لا توصَف. مع أميرة ماتَ الجمال والرقّة والطيّبة وصارَت هي رمز الكمال، وطلال رمز الإخلاص والحبّ والوفاء. سافَرَ الزوج المفجوع بعد فترة إلى وجهة مجهولة ليبكيَ حبيبته على سجيّته، وتداولَ الناس قصّته وأميرة وكأنّهما روميو وجولييت.

 


هذه القصّة بالذات سمعتُها وكبرتُ معها وتعلّقتُ بها، لأنّها نادرًا ما تحصل خاصّة بين اثنَين ليسا مِن الطبقة الإجتماعيّة نفسها.

مرَّت السنوات ولَم أتزوّج لأنّني لَم ألتقِ بفارس أحلامي كما فعلَت أميرة، فكلّ الذين التقَيتُ بهم كانوا غير كاملين. أردتُ أن أجدَ الـ"طلال" الخاص بي وإلا بقيتُ عزباء.

كنتُ قد انتقلتُ وأهلي إلى العاصمة بسبب تغيير مقرّ عمل والدي، وانشغَلنا جميعًا بالتأقلم مع حياتنا الجديدة فلَم أعرِف ما جرى بعد موت أميرة. بالطبع تخيّلتُ باقي الأحداث بنفسي، أي نهاية تعيسة للغاية للأب والزوج المفجوعَين كما تجري العادة بعد فقدان مَن نُحبّ، وبهذا الكمّ مِن التفاني. إلا أنّ زيارة لجدّتي في البلدة غيّرَت تلك الصورة الرومانسيّة التي بنَيتُ حياتي العاطفيّة عليها.

كانت والدة أمّي مريضة، وقرّرتُ أن أقصد منزلها لأطمئنّ عليها، فهي كانت جزءًا لا يتجزّأ مِن طفولتي ومُراهقتي وأكنُّ لها مودّة خاصّة. وجدتُ العجوز في فراشها لكنّ حالتها لَم تكن خطيرة فارتاحَ بالي. مكثتُ عندها حوالي الأسبوع لأساعد خالتي بالاعتناء بأمّها واغتنَمتُ الفرصة لزيارة أقاربنا والأماكن المألوفة لدَيّ. كنتُ سعيدة للغاية، فهناك أيضًا سمعتُ قصّة أميرة وطلال. لِذا سألتُ خالتي عمّا جرى لهؤلاء الناس بعد الفاجعة، وهذا ما قالَته لي:

 

ـ أعلَمُ كَم أنّكِ مُتأثّرة بهذه القصّة ولا أدري إن كان يجدرُ بي أن أُطلعَكِ على ما جرى... لكن مِن جهة أخرى، حانَ الوقت لمواجهة الواقع والتخلّي بعض الشيء عن المثاليّات... فبعد موت أميرة سافَرَ زوجها "المفجوع" إلى الخارج وودّعَ أباها واعدًا إيّاه بأنّ يُحافطَ على ذكرى إبنته مدى الحياة. إنقطعَت أخبار الأرمل لسنوات، وهي المدّة نفسها التي شهِدَت إنتقالكم إلى العاصمة، ثمّ سمِعنا أنّه عاد، لكن ليس بمفرده بل مع إمرأة وولد صغير.

 

ـ تزوّجَ طلال مُجدّدًا؟!؟

 

ـ أجل، لكن ليس لأنّه أحسَّ بالوحدة في الغربة بل لأنّه استطاعَ تنفيذ ما كان يُخطّطُ له. فالحقيقة أنّه كان على علاقة غراميّة مع صبيّة أخرى حين مرضَت أميرة وطُلِبَ منه قصد المنزل لمُساعدة الأب بأشغاله، وهو رأى بذلك فرصة ليُرضي صاحب عمله، ولاحقًا، حين رأى افتتان أميرة به، لِيَتمكّن مِن وضع يده على ثروتها. إستفادَ المُحتال مِن عزلة هؤلاء الناس ومثَّلَ دور المُتَيّم والمُخلص بإتقان، وتزوّجَ مِن أميرة عالمًا تمام العلم أنّها على شفير الموت. كان طلال بحاجة إلى المال ليعيش الحياة التي يحلمُ بها مع حبيبته، وهذا ما فعلَه فور وصوله إلى الخارج، فطلَبَ مِن تلك الصبيّة موافاته وتزوّجا وأنجبا ولدًا. كان في تلك الفترة قد نالَ نصيبه مِن الميراث، أي مبلغًا كبيرًا للغاية، ثمّ عادَ إلى البلد. تصوّري مفاجأة الأب المسكين حين سمِعَ برجوع طلال إلى البلدة. فذلك الوقح قرّرَ السكن بالقرب مِن منزل اللذَين وثِقا به. ولَم يكن مِن الصعب على والد أميرة أن يعرِفَ مِن سنّ إبن طلال أنّ زواج صهره حصَلَ بعد وفاة إبنته بفترة قصيرة جدًّا، ومِن بعض التحرّيات التي أكّدَت شكوكه وكشفَت العلاقة التي كانت موجودة بين طلال وحبيبته. ولكثرة حزنه وخَيبته، أُصيبَ الأب بمرض خبيث خطَفَ حياته في غضون سنتَين.

 

ـ يا إلهي... أين الوفاء والأخلاص والحبّ؟!؟ كيف لطلال أن يكون بهذا المكر؟ حسبتُه بطلاً وبنَيتُ آمالي على إيجاد أحد أمثاله... خالتي، هل تظنّين أنّ هناك مَن بقدرته أن يُحبّ فعلاً أم أنّ الناس يبحثون دائمًا عن مصالحهم ويُخطّطون للحصول على مُبتغاهم؟

 

ـ ليس هناك مِن كمال إلا عند الله... وفي القصص الخرافيّة يا صغيرتي، إلا أنّ الطيّبين موجودون... لدَيهم شوائب طبعًا، لكنّ خِصالهم الحميدة تفوقُ سيّئاتهم. عليكِ إيجاد هؤلاء الناس. إفتحي قلبكِ للحبّ وانزعي مِن بالكِ قصص لا تُصوّر الواقع بل تُضَلّلُكِ. عندها، ستجدين الذي بإمكانه إسعادكِ مِن دون أن يكون بطلاً أو فارسًا، بل فقط رجلاً يُقَدّرُكِ ويحترمُكِ ويفعلُ جهده لإفراحكِ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button