قرار مُكلِف

لا يسعنا الهرب مِن ماضينا، فهو يجد دائمًا طريقة للظهور مجدّدًا وفي الوقت غير المناسب. الحلّ الوحيد هو مواجهة تداعيّاته وإيجاد طريقة لتخطّيه، هذا لو كانت الظروف إلى جانبنا.

وهذا بالذات ما حصَلَ لي، بعدما نسيتُ أمورًا خلتُها نامَت إلى الأبد في ثنايا الماضي البعيد.

لطالما كنتُ إنسانًا طموحًا ومثابرًا، وتجلّى ذلك بمسيرتي المهنيّة. فبعد أن بدأتُ مِن الصّفر، صِرتُ أصعد درج النجاح بفضل إصراري على الإبتعاد قدر المستطاع عن الفقر الذي عشتُ فيه وأنا طفل ومراهق. وبالرّغم مِن إحترامي الكبير لتعب أبي وأمّي، كنتُ أرفضُ قطعًا أن أقبَل بالقليل حين يكون بمقدوري الحصول على الأفضل.

تعبتُ كثيرًا وكانت فترة صعبة جدًّا عليّ، إلا أنّني لم أستسلم. دفعتُ أقساط جامعتي مِن العمل البسيط الذي وجدتُه متوفّرًا، وأذكرُ أنّني كنتُ أصِلُ الليل بالنهار، الأمر الذي أثَّرَ على صحّتي وطباعي. لكنّها كانت مرحلة انتقاليّة اجتَزتُها بنجاح لأخوض مجالاً لطالما أبهرَني: عالم المال والمصارف.

هناك أيضًا كان عليّ البدء مِن أدنى درجة، فهذا القطاع واسع ومتشعّب ووجبَ عليّ تعلّم الكثير. لحسن حظّي أنّنا كنّا في زمان حيث الناس أكثر محبّة لبعضهم وأكثر تفهّمًا، لِذا توفَّرَ لي تدريب على يد أناس أرادوا فعلاً أن أتعلّم لتستفيد منّي المؤسّسة وتزدهر. حبّي لمهنتي ساعدَني على إشباع فضولي وبتُّ أعرفُ الكثير في وقت قصير. وأستطيع القَول إنّني أفتخرُ بإنجازاتي الفرديّة في المصرف.

وبعد سنوات طويلة مِن المثابرة المُثمرة، أصبحتُ مدير فرع، وبارَكَ لي كلّ مَن عَرَفني أو عَمِلَ معي. فبنظَرهم، كنتُ فعلاً أستحقّ ذلك المنصب. شيء واحد كان ينقصني في تلك الفترة، وهو وجود أبي إلى جانبي، فالمسكين توفّى قبل أن يرى نجاح إبنه. ولأخلّد ذكراه، أعطَيتُ أسمه لإبني الذي ولِدَ بعد شهر مِن رحيله.

ومع النجاح المهنيّ، يأتي طبعًا النجاح الإجتماعيّ والراتب الذي يتماشى مع الإثنَين. وصرتُ وزوجتي محطّ أنظار الجميع، وموجودَين على قائمة المدعوّين إلى المناسبات الرسميّة. كنّا حقًّا سعيدَين، وشكرتُ ربّي على إرساله لي زوجةً صبرَت معي ودعمَتني لأصل حيث أنا اليوم. مرَرنا بأيّام صعبة جدًّا، ولولا وجودها إلى جانبي، لكنت إستسلَمتُ ربمّا.

 


وحين بلغتُ ذروة حياتي المهنيّة، جاء ما ومَن يُعكّر عليّ فرحتي.

... دخَلَ مكتبي في المصرف أحد أصدقاء الطفولة الذي لم أرَه منذ أكثر مِن عشرين سنة، وفرحتُ كثيرًا به واستقبَلتُه بحرارة. وبعد أن جلَسنا نسأل بعضنا مئة سؤال قال لي حازم:

 

ـ مكتب جميل للغاية ومنصب أجمل، يا صديقي.

 

ـ أجل... وأستطيع القول إنّني أستحقّ كلّ ما يحصل لي.

 

ـ صحيح، صحيح... لقد جئتُكَ طالبًا المساعدة كونكَ صديقًا قديمًا... أعمَل منذ سنوات لدى أناس أثرياء جدًّا يعيشون في بلد آخر، ولقد أمضَيتُ وقتًا معهم حيث هم. هم الآن قرّروا نقل أموالهم إلى بلدنا ليستثمروه هنا. فكّرتُ فورًا بكَ وبمصرفكَ... إنّها مبالغ طائلة.

 

ـ عظيم، هات لي كلّ المستندات اللازمة التي تفيد عن مصادر تلك الأموال، وسأكون سعيدًا لتلبية طلبكَ وطلبهم.

 

ـ المشكلة يا صاحبي، أنّ لا وثائق عن تلك المصادر، فهذا المال ليس قانونيًّا تمامًا. ستكون حصّتكَ كبيرة جدًّا، أي تقارب المليون دولار.

 

ـ ماذا؟!؟ أنتَ تعلم أنّني لا أستطيع إدخال مال غير قانونيّ إلى المصرف لأنّ ذلك مخالف للقانون ولأخلاقي.

 

ـ أخلاقكَ... دَعنا نتكلّم عنها قليلاً. أين كانت أخلاقكَ يا صاحبي حين قُمنا بتلك العملية سويًّا؟

 

كان حازم يتكلّم عن حادثة حصَلَت منذ عشرين سنة، يوم كنّا لا نزال مراهقَين. كما سبَقَ وذكرتُ، كنتُ ابن فقراء وكنتُ أتمنّى أن أعيش كباقي الشبّان وأبتاع ما تطلبُه نفسي آنذاك. كنتُ قد سئمتُ مِن الفقر وكذلك حازم. عرّفَني هذا الأخير إلى أصدقاء له كانوا مثل حالنا وينوون الإستفادة مِن مال غيرهم. لا أدري كيف أقنَعوني بالإنضمام إليهم لسرقة أحد التجّار، إلا أنّني وجدتُ الأمر جائزًا لا بل مِن حقيّ. وهكذا خلَعنا، في إحدى الليالي، باب مستودع وسرَقنا قسمًا مِن البضاعة التي بعناها بعد ساعات وتقاسمنا ثمنها. بعد ذلك، أدركتُ قباحة الذي فعلتُه، وابتعدتُ عن حازم ورفاقه وأقسمتُ على عدم تكرار الرّذيلة. حتى أنّني لم أشأ صرف المال الذي حصلتُ عليه، وبقيَ مُخبّأً لفترة طويلة في مكان آمن إلى أن أعطَيتُه لسيّدة مُحتاجة.

شعرَتُ بغضب كبير لدى سماعي تهديد حازم، فهو أثارَ موضوعًا كنتُ قد نسيتُه بعدما اعتبرَتُه غلطة مِن الماضي إقترَفتُها في سنّ يُعرَف بطَيشه. كانت الرسالة واضحة، إمّا أن أبيّض أموال هؤلاء الناس، أو ستُلطَّخ سمعتي إلى الأبد وأخسر المركز الذي ناضلتُ للوصول إليه. خطَرَ ببالي أن أشتم الرجل أو حتى أن ألكمه على وجهه المبتسم، لكنّني تداركتُ نفسي ووعدتُه بالتفكير لبضعة أيّام.

حين عدتُ إلى البيت، أخبَرتُ زوجتي بما حصَلَ، فأنا لَم أخفِ عنها شيئًا يومًا. فهي كانت ملهمَتي منذ البدء وكانت تعرف كيف تأتي بالحلول. إلا أنّها قالَت لي بعدما رويتُ لها بِخجل ما ارتكَبتُه في ما مضى:

 


ـ لا تخَف يا حبيبي، ستظلّ بالنسبة لي أعظم رجل عرفتُه.

 

ـ لقد أرَحتِني كثيرًا... لكن كيف سأتجنّب الوقوع في هذا الفخ المميت؟

 

ـ ولماذا تتجنّبه؟ لا أعتبره فخًّا بل فرصة لنحقّق أحلامنا يا حبيبي. كن حذرًا فقط.

 

ـ ماذا تقولين؟ تريديني أن أبيّض الأموال؟ أتعرفين أنّ هذه المبالغ غالبًا ما تأتي مِن تجارة المخدّرات وشبكات الدّعارة؟ أي أنّني سأعيش مِن المال الذي قتَلَ العديد وأودى بالكثيرين إلى حياة الهلاك النفسيّ والجسديّ والأخلاقيّ؟

 

ـ هذا الكلام جميل للغاية، إلا أنّ الواقع أبسط بكثير. إن لم تقُم بذلك، فسيفعل آخر ونفوّت هذه الفرصة الذهبيّة. ضَع أخلاقكَ جانبًا ولو لمرّة، وافعَل الصّواب إن لم يكن مِن أجلكَ فمِن أجل ابنكَ ومِن أجلي.

 

ـ هذا ليس صوابًا ولن يكون يومًا... أستغربُ كثيرًا كلامكِ، فلَم أتصوّر أن تشجّعيني على المضيّ بالخطيئة. لم أعهدكِ هكذا... ما الذي غيّركِ؟

 

ـ لقد تحمّلتُ معكَ الكثير، وحان الوقت لأستريح وأستمتع بحياة الرّخاء كما يفعل كلّ مَن نعرفُهم. أريد فيلا وسائقًا والسّفر إلى أبعد البلدان وصرف المال مِن دون حساب. صحيح أنّ راتبكِ جيّد، لكنّه ليس كافيًا.

 

ـ ليس كافيًا لِمَا؟

 

ـ لأحلامي التي دفنتُها طوال زواجي منكَ على أمل أن يأتي يوم كهذا اليوم.

 

ـ أشعرُ وكأنّني أتعرّف إليكِ لتوّي ولا أحب ما أراه بكِ.

 

ـ إسمع، إمّا أن تقبل عرض صديقكَ أو ستضطرّ للعَيش مِن دوني ومِن دون ابنكَ، أفهمتَ؟ كفّ عن التصرّف كالأطفال!

 

بعد سماع كلام زوجتي المجرّح، خرجتُ مِن المنزل وتوجّهتُ فورًا إلى رجل دين صديقي طالبًا النصيحة. هزّ الرجل برأسه ثمّ قال: "إرضاء الله أهمّ بكثير مِن إرضاء عبيده... إفعل ما عليكَ فعله والقدير سيهتمّ بالباقي".

لم أنَم تلك الليلة بل بقيتُ صاحيًا أفكّر بوضعي الدقيق، ففعل الصواب كان سيُفقدني عائلتي وعملي ولكنّه كان الحل الوحيد. خوفي الأكبر كان العَيش مِن دون ولَدي الوحيد وأن يظنّ أنّني السبب بالأبتعاد عنه. إلا أنّني راهنتُ على أنّه سيكبر ليعلم الحقيقة ويفهم ما قمتُ به ويفتخر بي.

في الصباح، قصدتُ قسم الشرطة، فأحالوني إلى فرع مكافحة تبيض الأموال حيث عرضتُ عليهم مشكلتي. كانوا على علم بوجود هؤلاء الناس وبحازم الذي كان محطّ شبهات عدّة. كان همّي الوحيد ألا تظهر قصّة السرقة التي قمتُ بها في شبابي، وهم وعدوني بأنّها ستبقى طَيّ الكتمان إن ساعدتُهم على الإيقاع بالعصابة... وأعدّوا الخطّة وأنا تبعتُها بحذافيرها.

عندما عادَ حازم إلى المصرف ليأخذ منّي جوابي، كنتُ قد جهّزتُ له الأوراق اللازمة للتحويل. إبتسَمَ قائلاً: "كنتُ متأكّدًا مِن أنّكَ لن تتغيّر، فاللصّ يبقى لصًّا طوال حياته". لكنّه لو علِمَ بما أُخبّئه له، لكان مسَحَ عن وجهه بسمته القبيحة.

فور وصول المال إلى الحساب الذي فتحتُه لهذا الغرض، تمّ الحجز عليه مِن قِبَل شعبة مكافحة الأموال والمصرف المركزيّ، وتمّ القبض على حازم الذي خافَ مِن العصابة أكثر مِن الشرطة، فهم أناس لا يرحمون مَن يُخفق، خاصّة مع هكذا مبالغ. حاوَلَ حازم أن يُشوّه سمعتي بسرد قصّتي، لكنّ القضاء لم يأخذ بها لا بل لم يذكرها في أيّ محضر.

تركَتني زوجتي لأنّني، بحسب قولها، رجل فاشل. وحتى اليوم لم أفهم كيف انقلَبَت ضدّي، وتساءلتُ كم يلزم للمرء مِن الوقت لِيعرف حقًّا شريك حياته. ناضلتُ للحصول على حضانة إبني، لكنّني استسلمتُ بعد أن هدّدَتني زوجتي باختلاق قصص عنّي أمام المحكمة، كالتعنيف وما شابه.

قال لي المحامي ألا أقلق، فبعد سنوات قليلة سيعود الولد إلى حضانتي، وهذا ما حصل. كانت تلك السنوات مِن دونه طويلة جدًّا، إلا أنّني فزتُ به أخيرًا. بالطبع كانت أمّه قد حرّضَته ضدّي، ولزمَني وقت طويل لأثبُتَ له أنّني رجل صالح ومحبّ.

إبني رجل متزوّج ولدَيه إبن أعطاه إسمي. علاقتنا ممتازة وهو يفتخر بي ويأخذني مثلاً أعلى له. علاقته بأمّه فاترة فكيف له أن يحبّ ويحترم امرأة حرمَته مِن أبيه وحملَته على كرهه فقط لأنّه لم يجلب لها الثروة بأبشع الطرق؟ كانت زوجتي، في آخر المطاف، قد خسِرَت كل شيء بعدما أرادَت كل شيء.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button