قدَري

وُلِدتُ وسط عائلة أكلَها الفقر لم تجد شيئًا تأكلُه سوى فتافيت مِن هنا وهناك كان يأتي بها أبي لأولاده الكثر. لكنّني كنتُ أشعر بأنّني سأحظى بحياة جميلة مخالفة تمامًا للتي كنتُ أعيشُها. مِن أين أتى لي ذلك الإحساس؟ مِن داخل قلبي، فلَم يكن هناك مِن شيء يدلّ على أنّني سأكون ما أنا عليه اليوم، بل أنّني سأبقى فقيرة وأتزوّج مِن فقير وأجلب إلى الدنيا أولادًا فقراء. فالجدير بالذكر أنّني لم أكن مميّزة لا مِن حيث الذكاء ولا مِن حيث الشكل الخارجيّ. كنتُ فتاة عاديّة جدًّا لا أملكُ حتى الخيال اللازم للتفكير بالحلول المناسبة.

كنّا نذهب إلى مدرسة حكوميّة مجّانيّة، بالرّغم مِن أنّ أبوَينا لم يريا أيّ ضرورة لذلك، فقد كانا ينويان تزويج بناتهما بأسرع وقت، وتشغيل صبيانهما في صناعات مختلفة كي يُساهم الجميع في جلب المأكل والمشرب والملبس.

وذات يوم، أثناء تواجدنا في المدرسة، دخلَت المديرة وبصحبتها إمرأة مسنّة وأنيقة. لم تتفوّها بكلمة بل اكتفَيتا بالنظر إلى التلامذة ومِن ثمّ خرجتا بصمت... وأكملَت المدرّسة شرحها. وبعد أن انتهَت الحصّة، علِمتُ أنّ المديرة تطلبُني إلى مكتبها. خفتُ كثيرًا وسألتُ نفسي عمّا فعلتُه كي أُعاقَب، لأنّ ذلك المكان كان مخصّصًا للتوبيخ والقصاصات.

دخلتُ المكتب وأنا أرتعش كالورقة في فصل الخريف، لكنّ المديرة استقبلَتني ببسمة عريضة، وأجلَسَتني بالقرب مِن السيّدة التي كانت برفقتها قبل قليل. ثمّ بدأَت الضيفة تسألني عن اسمي وعمري وأشياء أخرى، كعمل أبي وعدَد اخوَتي. أجبتُ بصوت خافت إذ لَم أكن فخورة بحالتنا الماديّة والإجتماعيّة. جلَبت المديرة لي بعض الحلوى وأمرَتني أن آكل، ففعلتُ شاكرة.

سمعتُ جرس نهاية الإستراحة، فقمتُ مِن مكاني لأعود إلى صفّي إلا أنّ المديرة قالت لي:

 

ـ لا لزوم للعجلة يا صغيرتي، فلَن تتابعي علمكِ عندنا بعد الآن.

 

ـ يا إلهي! لماذا يا سيّدتي؟ أعلم أنّ علاماتي ليست جيّدة، لكنّني أعدُكِ بأنّني سأبذل جهدي لتحسينها! أرجوكِ!

 


ضحِكَت المرأتان وقالَت لي السيّدة المسنّة التي كان اسمها مرفَت:

 

ـ لا تخافي... ما عَنَته المديرة هو أنّكِ ستنتقلين إلى مدرسة خاصّة حيث تتلقَّين علمًا يُساعدكِ على الخروج مِن حالتكِ.

 

ـ لا أريد ترك مدرستي! كل رفاقي هنا وأنا أحبّ مدرّستي! على كل حال، لن يقبل والدايَ بالأمر.

 

لم تجب السيّدة، بل اكتفَت بالنظر إليّ بإعجاب واضح وتمتمَت: "طبعها مشابه تمامًا لطبع صغيرتي."

أرسلَتني المديرة إلى الصف، وكنتُ مستاءة جدًّا لدرجة أنّني لم أسمع كلمة واحدة مِن الذي قالَته المدرّسة. وحين عدتُ إلى البيت، لاقَتني أمّي بفرح كبير وقبّلَتني بقوّة قائلة: "كنتُ أعلم أنّكِ مميّزة!"، مع أنّها لم تُبدِ يومًا أيّ إعجاب بشخصيّتي بل على العكس تمامًا. لم أقل شيئًا مِن الذي حصَلَ عند المديرة لأخوَتي، ربما لأنّني اعتقَدتُ أنّ رفضي كان كافيًا، لكنّ العائلة بأسرها كانت تعلم أنّني اختُرتُ للذهاب إلى أفضل مدرسة في البلاد. لماذا أنا وليس إحدى أخواتي أو رفيقاتي في الصف؟ لم أكن أعلم السبب آنذاك، وبقيتُ أرفض تغيير عاداتي وتمسّكتُ بفقري قدر المستطاع.

... وجاءَت الفرصة الصيفيّة ونسيتُ الموضوع، لكن عند استئناف الدروس، وصلَني طرد يحتوي على زَيّ مدرسيّ أنيق وثياب أخرى جميلة جدًّا. فهمتُ أنّني خسرتُ معركتي، فرضختُ للأمر الواقع لأنّني كنتُ لا أزال في الثامنة مِن عمري. لكن ما لم أكن أعلمه، هو أنّني كنتُ سأعيش في المدرسة التي كانت داخليّة، فبدأتُ بالصّراخ والبكاء. لم أستطع تغيير رأي والدَيّ، لأنّهما كانا يعلمان أنّها فرصة ذهبيّة لي... ولهم في المستقبل. حتى إخوَتي وأخواتي كانوا مِن رأيهما، فاضطرِرتُ للرضوخ.

تركتُ المنزل والدّموع تنهمر على خدَّيّ، ولم أكن أدرك آنذاك أنّ ذلك اليوم كان بداية حياة جديدة.

أحببتُ مدرستي الجديدة وكلّ شيء فيها، ونشفَت دموعي نهائيًّا، فقد اكتشفَتُ هناك أنّني لستُ فتاة عاديّة بل أتحلّى بنسبة عالية مِن الذكاء، ففي هكذا مؤسّسات، يعملون على تنمية قدرات الطالبات.

تعلّمتُ أيضًا حسن التصرّف في المجتمع وكلّ ما يلزم لفتاة وصبيّة راقية. وكنتُ أزور أهلي كلّ نهاية أسبوع وكنتُ سعيدة لرؤيتهم بالرغم مِن أنّني صِرتُ أستوعب كم أنّهم بسطاء بعَيشهم وتفكيرهم. لم أتعالَ عليهم يومًا بل بدأتُ أشعر تجاههم بعاطفة كبيرة بعد أن أدركتُ مدى صعوبة أحوالهم. كنتُ أعطيهم كلّ ما أتقاضاه مِن مصروف، إذ كانت السيّدة مرفَت تبعث لي بعض المال أسبوعيًّا، لكنّها لم تأتِ لرؤيتي إلا بعد سنة. ركضتُ إليها وقبّلتُها بقوّة لكثرة امتناني لها. وهي بكَت بصمت وسألَتني عن أحوالي في المدرسة، وإن كنتُ سعيدة فيها. جلسنا لمدّة ساعَتين ومِن ثمّ غادرَت.

لم أسأل نفسي لماذا كلّ هذا الاهتمام بي، لأنّني كنتُ لا أزال صغيرة وآخذ الأمور كما هي، مِن دون محاولة فهم الدوافع والأسباب، وركّزتُ على دراستي بعد أن صِرتُ مِن الأوائل في صفّي. وأنا لو بقيتُ في مدرستي القديمة لرسبتُ حتمًا، وتركتُ المدرسة لكثرة يأسي وعدَم الايمان بنفسي.

 


تزوّجَت أخواتي شبّانًا مِن بيئتهنّ، وبدأ إخوَتي بالعمل في أماكن عدّة، أي كما قد كُتِبَ لهم. أمّا أنا فتخرّجتُ بامتياز ودخلتُ جامعة مرموقة. خلال تلك الفترة رأيتُ السيّدة مرفَت ربّما خمس مرَّات، لكنّها كانت قد قرّرَت أن تفضح لي أخيرًا سرّ اهتمامها بي.

دعَتني إلى بيتها الذي لم أرَ مثله بحياتي لكثرة جماله وضخامته. كنتُ أعرف أنّ لا بّد لها أن تكون ثريّة، لكن ليس بهذا القدر. كانت تعيش لوحدها في قصرها وحزنتُ مِن أجلها. وبعد أن جلبَت لي المطيّبات واطمأنَت عليّ وعلى أهلي، قالت لي:

 

ـ إن كنتِ جالسة هنا اليوم، فذلك نتيجة صدفة بحتة. أقول صدفة لكن عليّ القول إنّه تدخّل القدر. أعرف مديرة مدرستكِ السّابقة منذ سنين طويلة فوالدتها كانت مدبّرة هذا البيت حين كنتُ صغيرة، وصِرنا كالأختَين تمامًا. وقد علّمَتني والدتي، رحمها الله، ألا أنظر إلى الناس حسب أصلهم أو ماديّاتهم بل حسب شخصهم وطيبتهم. وشاءَت الظروف أن تغادر صديقتي وأمّها إلى مكان بعيد، وانقطَعَ الإتصال بيننا لسنوات كثيرة.

في تلك الأثناء تزوّجتُ، وأنجبتُ ابنة وكنتُ سعيدة. توفّى والدايَ وورثتُ كلّ شيء، وأغرقتُ إبنتي وزوجها بالمال. هي أنجبَت بدورها إبنة فائقة الجمال والذكاء وأعطَتها إسمي، لكنّ الحياة قاسية ولا ترحَم. فذات يوم، أثناء قيامهم بنزهة في سيّارتهم، لاقَت إبنتي وصهري وابنتهما مصرعهم بحادث مُروّع. وما نفع المال حين يموت القلب؟ دفنتُهم جميعًا وصارَت حياتي بكاءً دائمًا. وبعد أكثر مِن خمس وعشرين سنة على فقداني أحبّائي، إلتقَيتُ صدفة بصديقتي التي قالَت لي إنّها أصبحَت مديرة مدرسة حكوميّة، ودعَتني لزيارتها في مقرّ عملها. لم أكن أبدًا متحمّسة لتلك الزيارة، فقد تعوّدتُ أن أبقى في هذا البيت لوحدي. إلا أنّني لم أشأ أن أكسفها، خاصّة أنّها كانت فخورة بنفسها وتريد أن أرى إنجازاتها، فذهبتُ إلى المدرسة. شاءَت الظروف أيضًا أنّني وصلتُ وقت استراحة الظهيرة، ورأيتُكِ تلعبين في الملعب مع رفاقكِ وبدأ قلبي يخفق بسرعة فأنت كنتِ، ولا تزالين، تشبهين حفيدتي إلى حدّ لا يُعقَل. سألتُ صديقتي عن إسمكِ وأوضاعكِ وعرفتُ كلّ شيء عنكِ وقرّرتُ أن أفعَلَ مِن أجلكِ ما لم أستطع فعله مِن أجل مرفَت. عدتُ في اليوم التالي وتعرّفتُ إليكِ، وتعرفين باقي القصّة.

 

ـ خلتُكِ مِن فاعلات الخير وأنّكِ اختَرتِني صدفة أو بسبب فقرنا.

 

ـ بل اخترتُكِ أنتِ بالذات. إسمعيني يا صغيرتي، كما لاحظتِ خلال السنوات الماضية، لم أزركِ سوى مرّات قليلة، ليس لأنّني لم أكن مهتمّة بكِ أو لا أريد رؤيتكِ، بل كي لا أشعركِ بالحاجة إلى الإمتنان أو الضغط عليكِ. أعلم تمام العلم أنّكِ لستِ حفيدتي ولن تكوني يومًا، ولن أطلب منكِ شيئًا مقابل الذي قدّمتُه وسأقدّمه لكِ. ستكونين حرّة بقراراتكِ وغير مدينة لي بشيء. سأكمل دراستكِ الجامعيّة فحسب، وأترككِ تحددّين مسار باقي حياتكِ بنفسكِ. أعطَيتُكِ الوسائل اللازمة لذلك، وكما عرفتُ، أنتِ قادرة على استعمالها بجدارة. يُمكنكِ زيارتي ساعة تشائين إلا أنّكِ لستِ مُجبرة على ذلك.

 

عانقتُ السيّدة مرفَت بقوّة وبكينا سويًّا. وغادرتُ منزلها وفي قلبي فرحة وحزن بآن واحد.

زرتُ محسنتي مرارًا وهي استقبلَتني بسعادة، وحين تخرّجتُ مِن الجامعة كانت موجودة مع أهلي لتتقاسم معهم فرحتي.

توفّيت السيّدة مرفَت بعد سنة وتركَت لي مبلغًا مِن المال. لم تجعل منّي وريثتها لأنّها لم ترِدني أن أفقد حماسي على تكوين نفسي.

أعطَيتُ ما تركَته لي السيّدة مرفَت إلى أهلي، لأنّني كنتُ مدينة لهم أيضًا، فهم اللذين أنجباني وقبِلا بإرسالي إلى المدرسة الدّاخليّة.

أنا اليوم محاميّة كبيرة، ولا يمّر يوم مِن دون أن أفكّر بالسيّدة مرفَت. وقطعتُ وعدًا على نفسي بإعطاء إسمها لابنتي التي سأرزقُ بها يومًا. فهذا أقلّ ما يُمكنني فعله لأردّ، ولو جزئيًّا، جميل التي غيّرت مسار حياتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button