فتاة الباص

جرَت العادة أن أركُنَ سيّارتي قرب بائع القهوة، وأمكثُ فيها ريثما أشربَ قهوتي وتصحى حواسي لأتمكّن مِن الذهاب إلى عملي كمُحاسب في شركة كبيرة. وخلال تلك الوقفة الصباحيّة اليوميّة، صرتُ أعرفُ تحرّكات أهالي الحَي، فذلك التوقيت يشهدُ ذهابًا وإيّابًا كثيفَين. سرعان ما صِرتُ أتكهّن كيف أنّ ذلك الرجل أو ذاك سيخرجُ مِن مبناه ويتوجّه يمينًا أو شمالاً، أو أنّ تلك السيّدة ستحملُ كيسًا وتقصدُ بائع الخضار لتحضير وجبة الغداء.

وكانت هناك صبيّة لفَتَت إنتباهي لكثرة جمالها ورقّتها، وبتُّ أنتظرُها يوميًّا لأراها تطلُّ مِن ردهة المبنى الذي تسكنُ فيه لتقِفَ إلى جانب الطريق، وتستقلُّ الباص الذي كان على الأرجح يأخذُها إلى عملها. شيء فيها أثَّرَ بي وهو نوع مِن الحزن البائن على ملامحها وفي عَينَيها اللتَين تُحدّقان بعيدًا. وسألتُ نفسي مرارًا كيف لمخلوقة بهذه الروعة أن تكون حزينة. وبما أنّني لا أعلمُ شيئًا عنها، أسمَيتُها "رنا" لأقول لها وأنا جالس في سيّارتي وعن بعد: "صباح الخير يا رنا، أتمنّى لكِ يومًا جميلاً". للحقيقة، كانت تلك التحيّة غير المُباشرة تُضفي على باقي نهاري لمسة رومانسيّة، إلا أنّني لَم أجرؤ على المُبادرة للتكلّم فعليًّا مع "رنا".

إستمرَّت تلك اللعبة البريئة لأشهر طويلة، وصارَت الصبيّة جزءاً لا يتجزّأ مِن صباحي، فإن حدَثَ أن أُصِبتُ بوعكة صحّية، كنتُ أقضي نهاري عابسًا أنتظرُ بفارغ الصبر قدوم اليوم التالي. أمّا بالنسبة لِـ"رنا"، فهي لَم تفوِّت يومًا... إلى أن اختفَت كليًّا!!!

لا أستطيع وَصف شعوري عندما لَم تطلّ عليّ "رنا"، فكنتُ كالطفل الضائع أسألُ نفسي مئة سؤال. جلستُ في سيّارتي وقتًا إضافيًّا، حتى أنّني تأخّرتُ عن موعد بدء عملي. لَم يهمّني الأمر على الإطلاق، إذ كان عليّ معرفة سبب اختفاء التي ملأَت أيّامي.

في الصباح التالي، المشهد نفسه: رصيف فارغ وغرباء يمرّون ذهابًا وإيّابًا ولا أثَر لِـ"رنا". شعرتُ بالرغبة بالبكاء، إلا أنّني حبَستُ دموعي لأنّني رجل، وتصوّرتُ تلك الصبيّة مُلقاة على سرير مشفى أو ما هو أعظم، راقدة تحت التراب!

في اليوم التالي، ترجَّلتُ مِن سيّارتي وقصدتُ المبنى حيث تسكنُ "رنا". عمّا كنتُ أبحث؟ لستُ أدري، فوقفتُ على الرصيف كالتائه أتلفَّتُ مِن حولي لأعودَ إلى مركبتي وإلى عمَلي.

جاءَت فرصة نهاية الأسبوع وكنتُ في مزاج عكِر للغاية أنتظرُ بفارغ الصبر بداية الأسبوع لأتصرَّف. أجل، قرّرتُ أن أسأل عن "رنا" أو مهما كان اسمها. شربتُ قهوتي عند البائع وقصدتُ المبنى المُقابل لأقرع على باب الناطور. خرَجَ رجل وكأنّه استيقظَ للتوّ وسألَني عمّا أُريد، فقلتُ له:

 


ـ قد تجِد سؤالي في غير محّله لكنّه مهمّ بالنسبة لي... أنا رجل شريف و...

 

ـ يا لَيتكَ تختصرُ مُقدّمتكَ وتقول لي بالتحديد ما تُريده يا سيّدي.

 

ـ حسنًا... هناك صبيّة تسكنُ هذا المبنى... هي تخرجُ كلّ صباح في الوقت نفسه لتستقلّ الباص... وهي لَم تفعل ذلك منذ أيّام عديدة... لا أريدُ سوى الإطمئنان عليها.

 

إبتسَمَ الرجل وهزّ برأسه وكأنّه فهِمَ أشياءً لَم أقصدها، ثمّ قال:

 

ـ تعني الآنسة رنا؟

 

يا إلهي! كان إسمها تمامًا كما تصوّرتُه! عندها انتابَني شعور بأنّ الفتاة هي فعلاً التي عليّ أن إبني حياتي معها وإلا ما هو تفسير هذه الصدفة؟ كنتُ قد بقيتُ عازبًا حتى ذلك الوقت بالرغم مِن قدرتي على الزواج، فقط لأنّني أبحثُ حقًّا عن نصفي الآخر ولا أُريدُ أن ينتهي المطاف بي مُطلّقًا شأن الكثير مِن معارفي. فصرختُ عاليًا:

 

ـ أجل! أجل أعني رنا!

 

ـ وماذا تُريدُ منها؟ دَعكَ منها! هناك الكثير مِن الفتيات فلِمَا تختارُها هي بالذات؟ يا لغرابتكَ!

 

ـ أنتَ لَم تدَعني أشرحُ لكَ مقصدي... لا أُريدُ منها شيئًا فأنا...

 

ورويتُ له كيف أقفُ صباحًا لشرب القهوة، وكيف لفتَت رنا إنتباهي واعتدتُ على رؤيتها كلّ يوم. عادَ الرجل ونظَرَ إليّ بارتياب وكأنّه لا يُصدّقُني ثمّ قال:

 

ـ هي ليست مُناسبة لإنسان مثلكَ يا سيّدي.

 

ـ وما أدراكَ مَن هي المُناسبة لي؟ أتعرفُني؟!؟

 

ـ أقولُ لكَ إنّها غير مُناسبة لكَ أو لِغيركَ. فأنا رأيتُها تكبر على مرّ السنين وأعرفُها تمام المعرفة. أنصحُكَ بأن تنسى أمرها.

 

ـ هذا شأني. كلّ ما أودُّ معرفته هو إذا كانت بخير أم لا! أجِبني يا رجل!

 

أقفَل الناطور الباب بوجهي مِن دون أن يُجيب وغضبتُ منه كثيرًا. لكنّني لَم أستسلِم، فقد تكون رنا في وضع حسّاس وكان عليّ معرفة ما تشكو منه... خاصّة بعدما تبيَّنَ أنّ اسمها هو نفسه الذي اخترتُه لها.

عدتُ إلى سيّارتي وإلى عمَلي لكنّ بالي كان مُنشغلاً بما قالَه الرجل. هل يُعقَل أن تكون رنا فتاة سيّئة السلوك؟ أم أنّ طباعها جعَلَ منها إنسانة صعبة؟ أم أنّ جمالها حملَها على إساءة مُعاملة الرجال؟ أسئلة عديدة جالَت بفكري لكن أيًّا منها لم تُقنِعني. لا، رنا لَم تكن إنسانة سيّئة، وإلا لكنتُ لاحظتُ ذلك عليها. كلّ ما لفَتَ انتباهي لدَيها كانت ملامحها الحزينة والساكنة.

لَم أنمَ قط في تلك الليلة، لِذا قصدتُ المبنى الذي تسكنُ فيه رنا باكرًا، أي قَبل أن يستفيق الناطور، واخترتُ أن أدقَّ باب إحدى الشقق بحجّة ما.

 


فتحَت لي إمرأة عجوز تسكنُ في الطابق الأوّل، واستغربَت أن يقرعَ أحدٌ بابها في وقت كهذا. إعتذرتُ عن الإزعاج وقلتُ لها:

 

ـ آسف يا سيّدتي لكنّ الأمر مُلحّ... لقد سقطَت مِن الآنسة رنا التي تسكنُ في هذا المبنى محفظةٌ وأودّ أنّ أُعيدَها لها.

 

ـ آه... رنا... هي تسكنُ في الطابق الرابع... يُمكنُكَ إعادة المحفظة إلى أهلها.

 

ـ آسف لكن عليّ أن أُعطيها الأمانة يدًا بِيَد، فهذه مسؤوليّتي... كنتُ أراها تذهبُ باكرًا بالباص.

 

ـ صحيح ذلك، إلا أنّها لَم تعُد تسكنُ مع أهلها.

 

ـ لقد تزوّجَت؟!؟

 

ـ لا... فمَن سيتزوّجُها؟

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ إنّها صبيّة رائعة وألف رجل يتمنّاها!

 

نظَرَت العجوز إلي بتعجّب ثمّ هزَّت برأسها وقالَت بلطف:

 

ـ أنتَ لا تعرفُها شخصيًّا، أليس كذلك؟

 

لا... فقط عن بُعد.

 

واعترفتُ لها بالحقيقة طالبًا منها المُسامحة على كذبتي. وهي أجابَت:

 

ـ ما رأيكَ بفنجان شاي؟

 

ـ أفضّلُ القهوة لو سمحتِ، يا سيّدتي.

 

ـ أُدخل

 

جلستُ مع العجوز وقلبي غير مُرتاح، فكنتُ أعلم أنّها ستروي لي أشياءً غير سارّة عن رنا. شربنا القهوة ثمّ قالَت لي المرأة:

 

ـ كنتُ أسكنُ المبنى مع المرحوم زوجي حين وُلِدَت رنا، وفرِحنا جميعًا إذ أنّها كانت المولودة الأولى في الطوابق كلّها. إلا أنّ سرعان ما تبّيَنَ أنّها تشكو مِن اختلاف ما.

 

ـ إختلاف؟ بدَت لي مثل أيّة صبيّة، لا بل أفضَل مِن معظمهنّ!

 

ـ هو اختلاف عقليّ يا بُنَيّ.

 

عدتُ وتذكّرتُ ملامح رنا، وفهمتُ أنّ الحزن الذي رأيتُه على وجهها لَم يكن حزنًا بل غياب مشاعر وتفاعل مع العالم الخارجيّ. تابعَت العجوز:

 

ـ المسكينة تفكّرُ وتتصرّفُ وكأنّها فتاة صغيرة.

 

ـ لكنّها تذهبُ وحدها في الباص.

 

ـ أجل، تقصدُ المعهد المُختصّص الذي تعلّمَت فيه كيف تكون مُستقلّة بعض الشيء.

 

ـ أي أنّها تتحسّن!

 

ـ يا بُني... الفتاة غير مُدركة لأمور الحياة... إنّها تعيشُ في عالم آخر.

 

ـ حسنًا... ولماذا اختفَت؟!؟

 

ـ ساءَت حالتها فجأة، فهي أضاعَت طريق العودة إلى البيت وفضَّلَ أهلُها إرسالها إلى المعهد بصورة دائمة... هي لن تتحسّن، صدّقني.

 

ـ ما إسم المعهد؟

 

أرَدتُ التأكّد بنفسي مِن كلام العجوز، فانتظرتُ فرصة نهاية الأسبوع لأقصد تلك المؤسّسة التي تُعنى بالأمراض العقليّ، وطلبتُ رؤية رنا بعدما اخترعَت كذبة جديدة.

كانوا على حق... رنا لن تستطيع التواصل مع ما يُحيطُ بها مِن ناس وأشياء، علِمتُ ذلك مِن نظراتها لي وتفاعلها معي. إمتلأَت عينايَ بالدموع، ليس عليها فهي كانت بمنتهى السعادة، بل على نفسي لكثرة خَيبتي. قدّمتُ للصبيّة علبة الشوكولاتة التي جلبتُها لها معي وهي بدأَت تصّفقُ فرحًا... فتاة صغيرة تُبسِطها أقلّ الأمور. ودّعتُها ورحلتُ وقلبي حزين.

أزورُ رنا مرّة أو مرّتَين في الشهر، وهي صارَت تنتظرُ قدومي بفارغ الصبر، فأنا أحملُ معي في كلّ زيارة الحلوى والطيّبات. نجلسُ سويًّا ونلعبُ بالورق والحزازير.

لقد تعرّفتُ إلى صبيّة وخطبتُها وأنوي بناء عائلة معها، وكان لدَيّ شرطٌ واحد لها وهو ألا أتوقّف عن زيارة رنا مهما كانت الظروف.

لماذا هذا التعلّق بتلك الفتاة؟ لستُ أدري، ولا يهمُّني أن أعلَم، إلا أنّ رباطًا ما يجمعُني بها ولن أقطعَه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button