تعِبتُ كثيرًا للوصول إلى حالة مادّيّة مُستقِرّة بعد أن ولِدتُ وكبرتُ في القلّة، وكنتُ فخورًا بنفسي كثيرًا. وبقيَ عليّ إيجاد نصفيَ الآخَر، حبيبة قلبي، أمّ أولادي، بكلمة المرأة التي ستُشارِكني حياتي حتّى مماتي. لَم يكن الأمر صعبًا كثيرًا، إذ أنّ أفراد مُجتمعي كانوا يعتبروني مثالهم الأعلى، ويُريدون تزويجي مِن بناتهم أو أخواتهم أو أقاربهم لتنعَمنَ بالذي وصلتُ إليه. لا تُسيؤا الفهم، فلَم أكن غنيًّا على الاطلاق، بل كنت موظّفًا في إحدى الشركات، ولدَيّ شقّة بالإيجار وسيّارة عاديّة تمامًا. لكن مُقارنةً بباقي الناس الذين حولي، كنتُ ثريًّا!
وجَدوا لي سوسن، صبيّة حسناء ومُتعلِّمة بعض الشيء فأعجِبتُ بها، ليس بسبب جمالها، بل لرقّتها وبسمتها الصريحة التي تبعثُ الدفء في القلب. أحبَّها أهلي وباركَت لي أمّي، فخطَبتُ سوسن جالِبًا معي لها ولأهلها الحلى والحلوى. أُطلِقَت الزغاريد ثمّ عُقِدَ القران بعد أشهر قليلة. تقولون حتمًا إنّني تسرّعتُ في هكذا خطوة مُهِمّة، لكن في ذلك الحين، لَم أرَ حاجة لإطالة فترة الخطوبة، فالكلّ قالَ لي عنها إنّها إنسانة رائعة، فما الحاجة للانتظار؟
تزوّجنا، وكنتُ سعيدًا بعروستي التي أعطَت حياتي رونقًا جديدًا، وأضفَت على شقّتي مظهرًا أنيقًا بعد أن غيّرَت الديكور فيها. فكانت سوسن تتحلّى بذوق رفيع بفضل حبّها للموضة، ومُتابعتها لكلّ جديد إن كان في الماكياج أو اللباس أو الديكور، ومَن يراها لا يشكّ أبدًا أنّها مِن عائلة فقيرة.
تحدّثنا عن الانجاب وأرَدتُ أنا إبنة أدلِّعها وهي أرادت ابنًا وسيمًا مثلي، لكن في تلك الفترة، ظهرَت على سوسن أوجاع غريبة في الظهر والأطراف. قلِقتُ عليها، إلّا أنّها ردَّت السبب لكثرة التغييرات التي فعلَتها في الشقّة، فنسينا الموضوع. لكن بعد أشهر قليلة، إعترفَت لي سوسن أنّها قصدَت طبيبًا أجرى لها الفحوصات، وتبيّنَ أنّها تُعاني مِن مرَض خطير وهو التصلّب المُتعدِّد، وهي حالة تصيب الغلاف الواقي للأعصاب، والنظر والعضلات، ولا علاج نهائيًّا له، بل فقط للعوارض. وتلك العلاجات هي مُتعِبة ومُكلِفة جدًّا، لأنّها تمتدّ على سنوات وبشكل مُنتظِم. خفتُ على سوسن وعلى ما ستمرّ به خلال تفاقم مرَضها، وهي بكَت كثيرًا إذ خافَت أن تفقد بصَرَها أو حركَتها، إلّا أنّني وعدتُها بفعل المُستحيل لمواكبتها نحو حالة قريبة مِن الاستقرار، مهما تطلَّبَ الأمر.
لَم نُخفِ عن أقاربنا ومُحطينا حالة سوسن، فكانوا سيعرفون مِن تلقاء أنفسهم، بسبب مشيَتها وصداعها المُتكرِّر عندما كنّا نزورُ أحدَهم. ولقَيت زوجتي الدَعم نفسه الذي وجدَته معي، فاطمأنَّ بالها وبال عائلتها التي خافَت أن أتخلّى عنها وأجِد غيرها. ما هذا الكلام؟ فنحن تزوّجنا للسرّاء والضرّاء، وما يحصلُ هو ما كتبَه الله لنا وعلينا القبول به.
صارَت المسكينة سوسن تذهب بين الحين والآخَر مع أمّها إلى المشفى، لِتلقّي الحقَن ثمّ تعودُ تعِبة لا تستطيع فعل شيء. وثمَن تلك الجلسات كان باهظًا، فلَم يكن لدَينا تغطية صحّيّة بكلّ ما للكلمة مِن معنى، إذ أنّ الشركة التي أعمَل لدَيها كانت بالكاد تُغطّيني صحّيًّا، ولكن ليس أيًّا مِن أهلي أو زوجتي. إضافة إلى الجلسات، كانت هناك أقراص عليها أخذها يوميًّا، لا توجَد في كلّ مكان وسعرها مرتفِع كثيرًا. دفَعتُ المبالِغ وصلَّيتُ أن تتعافى زوجتي الحبيبة. وسرعان ما لَم أعُد قادِرًا على تغطية المصاريف الطبّيّة والعلاجات وثمَن الأقراص مِن راتبي، فبدأتُ آخذ رواتِب مُسبَقة ومِن ثمّ قروضًا مِن عملاء لنا، بعد أن وجَدتُ عمَلًا ليليًّا لتسديد تلك القروض. فصحّة سوسن كانت تأتي قَبل صحّتي!
لكنّ العمَل الليليّ الذي وجدتُه لَم يجلُب لي المبالِغ الكافية لتسديد ديوني ومنَعني مِن رؤية حبيبتي، فشعرتُ بالوحدة والضياع. لماذا يا ربّي أعطَيتَني سوسن لتضربها وتضربني بعد حين؟!؟ ماذا كانت الرسالة مِن ذلك؟
شعرَت سوسن بالذنب حيال ما أمرّ به، وقرَّرَت أنّ رحيلها عن هذه الدنيا كان أفضل حلّ لكلَينا. حاولَت الانتحار لكنّ القدَر شاءَ أن تنقذها حماتي في آخِر لحظة، وتمنَعها مِن قطع شرايين معصمَيها، فبالكاد توصَّلَت لجَرح نفسها جروحًا طفيفة لَم تستلزِم حتّى اللجوء إلى المشفى. أحمدُكَ يا ربّ لأنّكَ لَم تأخُذ جوهرتي منّي!
في الفترة نفسها، شُخِّصَ لأمّي خلَل في صمّامات القلب، وكانت تلزمها فحوصات عديدة وصوَر أشِعّة، فجمعَت العائلة ما يكفي لذلك، لكنّ الخبَر وقَعَ: هي كانت بحاجة إلى عمليّة جراحيّة أو ستموت قريبًا! ماذا؟!؟ أمّي، تاج رأسي، في خطر وأنا عاجِز عن إنقاذ حياتها؟!؟ أصابَني اليأس ولَم أعُد أرى منفَذًا لِما يدورُ مِن حولي مِن أمراض، وكأنّ القدَر يستمتِع بتعذيبي! ولكثرة بؤسي، فقدتُ الشهيّة على الأكل ولَم أعُد أرى منفعة مِن الذهاب إلى عمَليّ، على الأقلّ مِن الناحية النفسيّة. إضافة إلى ذلك، عادَت سوسن تُهدِّد بقتل نفسها، لأنّها شعرَت أنّها السبب بعدَم قدرتي على إنقاذ أمّي. إحتَرتُ في أمري، فكان أهمّ شخصَين على قلبي بخطر ولَم تكن في يَدي حيلة! فديوني كانت ستودي بي حتمًا إلى السجن، وعندها، مَن سيهتمّ بمَن؟
لمتُ الله كثيرًا، لكنّني لَم أكن أعلَم أنّه يرى ما يحصل، وقرَّرَ أن يُنهي عذابي أخيرًا. فذات ليلة، بينما كنتُ أقومُ بعمَلي الثاني، وقعتُ أرضًا وأُغمِيَ عليّ، فتمّ نقلي إلى المشفى حيث اعتنوا بي. سألَني الطبيب على الفور إن كنتُ مُرهقًا، فأخبَرتُه عن حالة سوسن وعلاجاتها الباهظة وعمَليّ وديوني ومصيبة أمّي. نظَرَ الرجُل إليّ باندهاش، وأعطاني ورقة وقلَم لأدوِّن أسماء العلاجات التي تتلقّاها زوجتي والأقراص التي تتناولها. فرِحتُ لأنّه كان حتمًا سيُدبِّرَ لي مُساعدات مجّانيّة أو شِبه مجّانيّة، لأنّه أخَذَ هاتفه وخابَرَ القسم الذي يُعنى بعلاج المرضى المُصابين بالتصلّب المُتعدِّد، وقرأ لهم ما كتبتُه على الورقة. وحين أقفَلَ الخطّ، قالَ لي:
ـ ألف مبروك يا سيّدي... لا داعٍ للخوف، فزوجتكَ تُعاني فقط مِن مرَضَين شائعَين: الكذِب والاحتيال.
ـ ماذا؟ لِما تقول هذا؟ لستُ أفهم!
ـ تلك العلاجات ليست موجودة وكذلك الأقراص، على الأقلّ ليس لِمرَضها المزعوم, قُل أي، هل ذهبتَ معها ولو مرّة حين كانت تقصد المشفى لتتعالج؟
ـ للحقيقة لا، تُرافقُها أمّها.
ـ أمّا بالنسبة للأقراص التي تتناولها زوجتكَ، فهي ليست باهِظة على الاطلاق، بل مُعظمها مقوّيات أو مضادّة للصداع البسيط. هل رأيتَ على الأقلّ التقارير الطبيّة؟
ـ لا.
ـ إذًا إسمَح لي سيّدي بأن أقولَ إنّكَ غبيّ. أمّا في ما يخصّ أمّكَ، التي أظنّ أنّها حقًّا مريضة، فهناك إمكانيّة لإجراء العمليّة عبر وزارة الصحّة أو مؤسّسات خيريّة تُغطّي مُعظم التكاليف، وإليكَ بعض الأسماء والعناوين. نصيحة أخيرة: تخلَّص مِن زوجتكَ وبأسرع وقت، فمَن يقومُ بتلك الأعمال عالِمًا أنّكَ ترزَح تحت الديون وتعمَل ليلًا نهارًا وتُضحّي بحياة أمّكَ، لن يتأخّر عن فعل ما هو أفظَع.
عدتُ إلى البيت رجُلًا مكسورًا، وانتظرتُ الصباح لأواجِه سوسن، طالبًا منها أن تريني التقارير الطبّيّة والوصفات للأقراص، فبدأَت بالبكاء لأنّني "أشكّ بمصداقيّتها" وهدَّدَتني بقتل نفسها. إلّا أنّني لَم أُصدِّقها طبعًا بعد كلّ الذي قالَه ذلك الطبيب، وبعد أن أدركتُ أنّ مُحاولتها الانتحار في المرّة السابِقة كانت مُجرّد تمثيل. وأمام رفضها إبراز براهين عن مرَضها، خابَرتُ المُحتالة أمّها وهدّدتُها بالاشتكاء عليها وابنتها، إن لَم تأتِ وتأخذها مِن بيتي على الفور.
بعد رحيل زوجتي الكاذِبة، بدأتُ الاتّصالات بالأرقام التي أعطاني إيّاها الطبيب، ووجدتُ مؤسّسة خيريّة تستطيع تغطية عمليّة أمّي بالكامل. الحمد لله! إرتاح قلبي أخيرًا وبدأتُ أعمَل بِكدّ وجهد لتسديد ديوني واسترجاع حياتي كما كانت. تعافَت والدتي وبدأتُ أرى آخِر النفق المُظلِم الذي أدخلَتني فيه سوسن.
سمعتُ أنّ طليقتي إشترَت سيّارة جديدة، وذهبَت وأمّها لقضاء عطلة في إحدى البلدان السياحيّة... كلّ ذلك مِن مالي وتعَبي. هل هي أحبَّتني ولو في البدء؟ لا أظنّ ذلك، فهي أرادَت الخروج مِن فقرها وعَيش الحياة التي تراها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، حتّى لو عنّى ذلك أن تُسبّبَ لي اليأس والموت لأمّي. يا للإنسانة القبيحة ويا لأمّها الماكِرة والمُجرّدة مِن أيّ إنسانيّة! لا أظنّ أبدًا أنّ الفقر هو ما أوصَل هاتَين المرأتَين للتخطيط لسرقتي، بل قلبهما الأسوَد، وهو قلب لا يشبَع إلّا بعدما يستنزِف فريسته كلّيًّا.
حاورته بولا جهشان