غرَّدتُ خارج سربي

وضع أمّي العائليّ كان الدافع وراء إصرارها على إعطائي أفضل مُستقبل على الإطلاق. فهي لَم تقبَل يومًا بِفقرها الذي حالَ دون تحقيق أحلامها، الأمر الذي ترَكَ عندها مرارة تترجمَت في مُعاملتها لأبي وأخي. فوالدتي كانت تُلقي اللوم كلّه على ذكور عائلتها، الذين لَم يُبدوا أيّ طموح ومنعوها، كونها امرأة، مِن الخروج مِن دوامّة القلّة. أنا مُتأكّدة مِن أنّها كانت ستنجح في ذلك وتصبح سيّدة مُجتمع، حتى لو تطلّب منها الأمر أن تستعمل جميع الطرق لبلوغ غايتها. بدلاً مِن ذلك، هي رأَت فيَّ فرصتها الأخيرة، فصبَّت كلّ ما لَدَيها لتغيير مصيري... ونجحَت بذلك.

سخِرَ منها الجميع بمن فيهم أبي وأخي، ونعتوها بالمجنونة أو المُتشاوفة لأنّها بدأَت تجمع المال بالعمل ليلاً نهارًا على مكينة الخياطة، وبَيع ما تصنعه لشراء الكتب لي لتعليمي أصول التصرّف في المُجتمع ولاحقًا اللغات الأجنبيّة. إلى جانب ذلك، كانت تخيط لي الملابس الجميلة المصنوعة مِن القماش الذي تأتي به مِن المحلات التي تُعطيها فضلات الأثواب غير المُباعة.

مِن جهتي، كنتُ سعيدة بهذا الإهتمام بي، خاصّة أنّني كنتُ دائمًا ضحيّة أخي وأولاد الحَي الذي أسموني "البرنسيسة". ولقد تجاوزتُ إمتعاضي منهم بعدما أفهمَتني والدتي أنّهم يغارون منّي لأنّني الأفضل والأكثر أناقة. لكنّ الحقيقة كانت أنّني صِرتُ مُختلفة عن أبناء وبنات بيئتي المُتواضعة، الأمر الذي عزَلَني لفترة طويلة.

على مرّ السنوات إكتسبتُ معرفة كبيرة بأمور عديدة وأصبحت أتكلّم ثلاث لغات بطلاقة. علاماتي في المدرسة كانت مُمتازة، ليس لأنّني كنتُ خارقة الذكاء، بل لتفتخر بي أمّي ولا ترى أنّ تعَبها ذهَبَ سدىً. فهي كانت حليفتي الوحيدة في عالم إنقلَبَ عليّ وامتلأ بالحاسدين والأعداء.

حين جاء الوقت لأدخل الجامعة، كنتُ وكأنّني إبنة أناس أثرياء لا بل مِن أصل نبيل. فقد باعَت أمّي ما تبقّى لها مِن ذهب ورثته مِن ذويها لتستطيع تسجيلي في كليّة عريقة لأصبح مُحامية ولاحقًا قاضية. لَم أكن أودّ تعلّم القانون، إلا أنّني قبلتُ بقرار والدتي فهي كانت تعرفُ ما عليّ فعله.

 


تأقلمتُ بسهولة مع زملائي الطلّاب، فلَم يشكّ أيّ منهم بأنّني إبنة عامل مصنع وخيّاطة. لَم أُخالطهم طبعًا كي لا أضطّر يومًا لدعوتهم إلى منزلنا المُتواضع. لَم أكن أخجَل مِن أصولي، بل فهمتُ أنّ ذلك الموضوع مِن الأفضل نسيانه لأنّه مرحلة إنتقاليّة إلى ما هو أفضل.

لَم يُنهِ أخي دراسته بل دخَلَ المصنع وصارَ يعمل مع أبي. هو اختارَ ذلك، فكان بامكانه مُتابعة الدراسة في جامعة مجّانيّة. أظنّ أنّه أرادَ أن يتميّز عنّي بإثبات عدم نكرانه لوضعه، على خلافي. أنا لم أنكر شيئًا بل تبعتُ الخطّة التي رسمَتها لي والدتي.

إلتمَّ حولي شبّان كثر في الجامعة وجميعهم مِن عائلات مرموقة، إلا أنّ قلبي لَم يخفق لهم... بل لجارنا خليل. لَم أقل شيئًا لأمّي طبعًا وإلا سبّبتُ لها أزمة قلبيّة، فهي لن تفهم كيف أنّني هدرتُ سنوات مِن التضحيّة لينتهي بي المطاف حيث بدأتُ. فخليل كان شابًا عاديًّا للغاية يعمل كموظَّف أيضًا عاديّ في شركة صغيرة.

واعدتُ خليل سرًّا لفترة قصيرة، ثمّ قطعتُ الإتّصال به لأنّني كنتُ أعلم أنّ لا مُستقبل لنا. هو تفهَّمَ الأمر فالجميع كان يعلم أنّني مُخصّصة لِما هو أفضل وأرقى. حزنتُ كثيرًا إلا أنّني نشّفتُ دموعي وصببتُ اهتمامي على دراستي.

تخرّجتُ مِن الكليّة بدرجة إمتياز وبدأتُ العمل على الفور في مكتب مُحاماة مشهور. إبتسمتُ بفخر عندما دخلتُ المكتب في يومي الأوّل، لأنّني شعرتُ بأنّ تعَبي وتعَب أمّي بدآ للتوّ بإعطاء النتائج المرجوّة. هي آمنَت بي وأنا كنتُ على قدر توقّعاتها.

بعد فترة على دخولي مكتب المُحاماة، بدأَ صاحب المكتب، وهو محام مشهور، يُبدي اهتمامًا خاصًّا بي. ردَدتُ الأمر إلى انكبابي على الملّفات المُعطاة لي، إلا أنّه أرادَني له. كان الأستاذ أنوَر في الخمسين مِن عمره، أي ضعف سنّي، وأرملاً. هو لَم يُنجب بسبب عدَم قدرته على ذلك، لكنّه لَم يُبقِ الأمر سرًّا. فالرجال أمثاله لا يعتبرون العقم مُعيبًا بل يتقبّلون وضعهم ويحملون الآخرين أيضًا على تقبّله.

دعاني الأستاذ أنوَر إلى العشاء لمُناقشة قضيّة مهمّة لأحد موكّلينا، فقبلتُ لأنّني رأيتُ في تلك الدعوة فخرًا لي. لكن أثناء تناولنا الطعام في ذلك المطعم الفاخر، قال لي:

 

ـ أنا جدّ مُعجب بكِ... ليس فقط بمهاراتكِ بل بشخصكِ وأُفكّر بالزواج منكِ.

 

ـ أستاذ أنوَر... لَم أتوقّع ذلك بل...

 

إسمعي، أعلم أنّني أكبركِ بسنوات عديدة ولن تُنجِبي منّي أبدًا، لكنّني قادر على إعطائكِ ما تحلمين به. فلقد أجرَيتُ بعض التحرّيّات عنكِ.

 

ـ تحرّيات؟

 

ـ ... وعلِمتُ كلّ شيء عن منشأكِ، الأمر الذي زادَ مِن إعجابي بكِ. لا تدَعي كلّ ما عملتِ مِن أجله يذهب سدىً. فكّري بالأمر مليًّا.

 

ركضتُ أطلبُ رأي والدتي التي شجّعَتني على القبول مِن دون تفكير. شرحتُ لها أنّني لا أشعر بشيء تجاه أنوَر فأجابَتني: "الحبّ لا يدخل هكذا مُعادلة... فلقد أحببتُ أباكِ وانظري كيف هي حياتي. إقبلي بذلك الرجل فهذا هو مصيركِ."

تزوّجتُ مِن أنوَر الذي أقامَ لنا فرَحًا ضخمًا، وأذكرُ تمامًا وجه أمّي خلال الحفل، فهي كانت بغاية السعادة والفخر بعد أن وصلَت أخيرًا إلى هدفها... مِن خلالي. فكان الأمر وكأنّها هي العروس وليس أنا.

حياتي مع أنوَر كانت هادئة لا بل مملّة، فهو طلَبَ منّي ترك العمَل لألعَبَ دور زوجة مُحام كبير. لَم يكن ذلك هدفي مِن التعليم الذي تلقَّيتُه وليالي الدرس الطويلة، فكنتُ أحلمُ بالمُرافعات وربح القضايا المُعقّدة.

 


إتّضَح لي أنّ زوجي لَم يُحبّني بل أرادَ أن يُثبت لمَن حوله أنّه قادر على الزواج مُجدّدًا مِن صبيّة أنيقة ومُتعلّمة، فكنتُ بالكاد أراه وأتبادَل معه الكلام. بعد سنة، شعرتُ بالفراغ بسبب عدَم وجود أمَل بالإنجاب، فصرتُ أصبُّ اهتمامي على تنظيم العشوات في البيت كي أملأ السكون الذي يسودُ فيه بأصوات الناس وضحكاتهم. ومِن الجيّد أن أنوَر لَم يُمانع إستقبال الضيوف وإلا متُ مِن الملَل.

ساعدتُ أهلي مادّيًّا، فهذا أقَلّ ما يمكنُني فعله مِن أجلهم ودبّرتُ لأخي عملاً بفضل معارف زوجي. مِن تلك الجهة كان ضميري مُرتاحًا، واكتسبتُ مِن جديد حبّ واحترام أبي وأخي... وأهالي الحَيّ.

لكنّني كنتُ مُحطّمة داخليًّا ولا أجرؤ على التذمّر، فلَم يكن ليفهمني أحد، فبنظر الجميع، المال هو ما يُعطي السعادة.

مرَّت السنوات ببطء شديد إلى أن التقَيتُ مُجدّدًا بخليل، حبّي الأوّل والوحيد. كنتُ عند محطّة الوقود وهو خَرَج مِن سيّارته ليُلقي عليّ التحيّة. سُرِرتُ به كثيرًا وكدتُ أُعانقه حين تذكّرتُ أنّني مُتزوّجة. هو أخبرَني بأنّه سافَرَ إلى إحدى دول الخليج، حيث عمِلَ لدى تاجر كبير وتحسنَّت أحواله بشكل ملحوظ. سألَ عن حياتي فامتلأَت عينايَ بالدموع. رحنا إلى مقهى لنشرب القهوة وليعرف المزيد عنّي. ثمّ أمسكَ بيَدي وقال لي:

 

ـ أتركيه وتعالي معي، فأنا لَم أتزوّج ولا أزال أحبّكِ.

 

ـ يا ليتني قادرة على ذلك يا خليل... الأمر صعب. هذه هي حياتي وقدري.

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ أنتِ لَم تختاري هذه الحياة بل أمّكِ التي فعلَت! وحان الأوان لأن تأخذي زمام حياتكِ بيَدَيكِ.

 

ـ الجميع وضَعَ أماله فيّ ولا أستطيع خذلانهم.

 

ـ فكّري بعرضي، أرجوكِ.

 

ـ الوداع يا خليل.

 

عادَ خليل إلى الخليج وأنا بقيتُ حيث أنا، أبكي على نفسي.

مع الوقت أصبَحَ زوجي ناشفًا أكثر معي ولَم يعد يتحمّل وجود غرباء في البيت، فتوقّفتُ عن استقبال الناس وإقامة الدعوات، وصرتُ أقضي وقتي إمّا وحدي أو برفقة رجل لا طعم ولا لون له.

تركتُ أنوَر يوم ماتَت والدتي، وكأنّني بذلك أعتبرُ نفسي قد قمتُ بواجباتي تجاهها وردَدتُ لها الدَين الذي كان على كاهلي. كانت والدتي قد حرّرَتني بموتها مِن مصير لَم أختَره ولَم يُسعدني. أعلَم أنّها أرادَت ما هو الأفضل لي، لكنّها لَم تحسب حساب الحبّ والمشاعر ربمّا لأنّها ندِمَت على زواجها مِن أبي.

دعوى طلاقنا كانت شرسة، فأنوَر كان مُتمرّسًا أكثر منّي في مسائل الطلاق لكنّني ربحتُها أخيرًا. لَم أطلب الكثير بل ما هو كافٍ لأتابع مسيرتي مِن دون أن أمدّ يدي لأحد. كلّ ما أردتُه كان أن أحظى بفرصة ثانية لأكون سعيدة مهنيًّا وعاطفيًّا.

إتّصلتُ بخليل لأزفّ له الخبر السار على أمَل أن نعيش قصّة حبّ عظيمة، إلا أنّه كان قد تزوّجَ أخيرًا بعد أن أنتظرَني مِن دون نتيجة. لَم أزعَل بل فرحتُ له لكنّني شعرتُ بامتعاض عميق. صببتُ اهتمامي على عملي وفتحتُ مكتبًا خاصًّا بي جمعتُ فيه أفضل المحامين.

اليوم أنا أكبر مُنافس لزوجي السابق في مجال المُحاماة. لَم أعد أبالي إن كنتُ لا أزال لوحدي، بل أجد الفرَح بما أفعله وبمعاملتي لأبي وأخي ومعارفي في الحيّ حيث كنتُ أسكن وأنا صغيرة. أهتمّ بقضاياهم مجّانًا وأقف إلى جانبهم، فهم أهلي وبيئتي الحقيقيّان.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button