غريبة وسط أهلي

كان أخي الصغير يُردّد عليّ ليغيظني:" أنتِ لستِ أختي، ألا ترَين أنّكِ لا تشبهيني؟ ترقّبي قرع جرس الباب جيّدًا، فسيأتي أهلكِ الحقيقيّون لاسترجاعكِ قريبًا". وأنا كنتُ أركض باكية عند أبويَّ اللذَين كانا يمسحان دموعي ويُطمئناني بأنّ أخي يُمازحني ولا يجدر بي أن أصدّقه. وبالرغم مِن ذلك، كنتُ أرتعب كلّما سمعتُ جرس الباب، وأرى في مناماتي كوابيس مخيفة.

صحيح أنّنا لم نكن نشبه بعضنا لا شكليًّا ولا خلقيًّا، ولكنّ ذلك كان يحصل في معظم العائلات، إذ أنّ أحد الأولاد قد يُشبه أباه والآخر أمّه. أمّا أنا، فلَم أكن أشبه أيًّا منهما. كنتُ فاتحة البشرة وشقراء الشعر وكانت عينايَ زرقاء اللون.

هل لأنّني كنتُ مختلفة كانت أمّي قاسية عليَّ؟ لم أجد تفسيرًا آخر فقد كنتُ فالحة جدًّا في المدرسة وهادئة السلوك. لم أكن أجد الحنان إلا عند أبي الذي كان يُدلّعَني ويقضي معظم وقته معي حين كان في المنزل. ستقولون لي إنّ الإبنة والأب يتفقّان دائمًا، إلا أنّ الأمر كان مخالفًا. لم تكن أمّي تحبّني، وكنتُ أشعر بذلك مِن خلال ملاحظاتها ونظراتها لي، نظرات باردة، مجرّدة مِن أيّ عاطفة، وكأنّني لستُ منها.

عندما كبرتُ قليلاً، صرتُ أحبّ التواجد عند صديقاتي قدر المستطاع، وسط جوّ مليء بالحب والتناغم، وأحسدهنّ على حياتهنّ. للحقيقة، أمّي لَم تسيء فعلاً معاملتي بضربي أو شتمي، ومع ذلك لم أنزع مِن عقلي ما كان يقوله لي أخي عن عدَم انتمائي إلى العائلة. لِذا، بدأتُ أبعد عن التي لم تعرف كيف تحبّني، وأجد ألف عذر للبقاء خارج المنزل، الأمر الذي لم يُزعج أحدًا.

شاركتُ جلنار صديقتي الحميمة إنزعاجي، وارتحتُ كثيرًا لأنّني لم أعد أحمل لوحدي ثقل مشاعري، وهي أخبرَت بدورها أمّها رباب التي أسِفَت كثيرًا عليّ. ولتعوّض لي نقصي في الحنان، صارَت تدعوني إلى العشاء ليليًّا، ليتسنّى لي قضاء وقت ممتع مع العائلة. إنتظرتُ طبعًا مِن أمّي أو أخي أو حتى أبي أن يتضايقوا مِن غياباتي اليوميّة، لكنّهم تابعوا حياتهم مِن دوني. ولولا صديقتي وأمّها وحبّهما لي، لانفرَطَ قلبي مِن الحزن، فكَم هو صعب أن نشعر بأنّنا غير مرغوب بنا.

 


وعلى مرّ زياراتي لبيت صديقتي، صارَت رباب تطرح عليّ أسئلة حول عائلتي وخاصّة أمّي، لأنّها لم تستوعب هذا الكم مِن الجفاء. سألَتني إن كان لدَيّ صور حين كنتُ صغيرة، فجلبتُ لها العديد منها وجلسنا في إحدى الأمسيات نتفرّج عليها. ضحكنا كثيرًا على طريقة لبسي في الصوَر، والمواقف الموجودة فيها وقضَينا وقتًا ممتعًا. عندما انتهَينا، سألَتني رباب:

 

ـ صوركِ جميلة للغاية... لكنّني لم أرَ أمّكِ فيها عند ولادتكِ، أعني في المشفى، أو عندما عادَت بكِ إلى البيت، أو حين كانت تعطيكِ الحمّام أو تنزّهكِ في عربة الأطفال، بينما أراها في تلك المناسبات مع أخيكِ.

 

ـ أنتِ على حق... ربمَّا الصوَر العائدة لتلك الحقبة موجودة في مكان آخر... سأفتّش عنها.

 

لكنّني لم أجدها في أيّ مكان وحين سألتُ أمّي عنها صَرَخَت بي:

 

ـ ولماذا تريدينَها؟ ألستُ أمامكِ؟ أليس لدَيكِ أمور أكثر أهميّة تفكّرين بها؟

 

ـ لا داعٍ للغضب يا ماما... كنتُ أريد استعادة أيّام أكثر... أكثر جمالاً، آسفة للإزعاج.

 

وركضتُ إلى أبي شاكية له، كالعادة، تصرّف أمي الفظ معي. بدأ يواسيني إلى أن طلبتُ منه تلك الصوَر. عندها أجابَني الجواب نفسه تمامًا. ولم أفهم سبب تلك العدائيّة، فقصدتُ أم جلنار لإخبارها بما حصل، وأثبتُ لها مجدّدًا أنّني ابنة غير محبوبة. أمّا هي، فنظَرَت إليّ بحزن عميق ممزوجًا باستغراب، ثمّ قالت لي:

 

ـ الآن بدأتُ أفهم ما يجري.

 

لم تقل لي ما الذي فهمَته، ولم أسألها لأنّ ابنتها عَرَضَت عليّ الذهاب للتسوّق.

ما لم أكن أعرفه، هو أنّ رباب قرّرَت التدخّل وبشكل سرّيّ في تفاصيل حياتي، ولن أشكرها كفاية على ما فعلَته مِن أجلي. فهي بدأَت تتحرّى عن ماضيّ وماضي عائلتي في الحيّ، الأمر الذي كان سهلاً عليها، لأنّها سكنَته قبلنا ولأنّها تتمتّع بشعبيّة كبيرة بين السكّان.

وهكذا، إكتشفَت أمرًا بغاية الأهميّة كنتُ طبعًا أجهله، وهو أنّنا حين انتقلَنا إلى بيتنا منذ أكثر مِن خمس عشرة سنة، وقبل ولادة أخي، كانت هناك صبيّة معنا تشغل وظيفة مربّية. وبعد أقلّ مِن سنة، رحلَت أمّي وبقيَت المربيّة التي تزوّجَت مِن أبي بعد أيّام قليلة... ومِن ثمّ أنجَبت له إبنًا. لم يذكر أيّ مِن الجيران الأمر لي، لأنّ الكلّ ظنّ طبعًا أنّني على علم بالأمر، أيّ أنّ التي تزعم أنّها أمّي هي فعلاً المربيّة. ولكن كيف لأبي أن يبقي هكذا أمر سرًّا عنّي؟

إحتارَت أمّ صديقتي لكيفيّة إطلاعي على الأمر، وإن كان يجدر بها إخباري تلك الحقيقة الصعبة. ولو لم تشعر حقًّا بحيرتي وعذابي اليوميّ في بيتي، لما تفوّهَت بكلمة واحدة.

كان الخبر بمثابة ضربة كبيرة لي. جلستُ أحدّق بالحائط محاولة استيعاب هذا الكم مِن المعلومات. فهمتُ فورًا سبب الذي عانَيتُ منه منذ طفولتي وقلّة عاطفة تلك المربيّة تجاهي. لم أكن إبنتها ولم تستطع أن تحبّني، هذا كلّ ما في الأمر. لكنّني لم أفهم سكوت أبي عن الذي كان يحصل، لماذا لَم يُخبرني بالحقيقة أو يُجبر زوجته على معاملتي بشكل أفضل. كان عليّ أن أسأله شخصيًّا.

عندما واجهتُ والدي بالذي بتُّ أعرفه، حاوَلَ الإنكار ومِن ثمّ قال لي:

 


ـ صحيح ما سمعتِه يا ابنتي وأنا المذنب الكبير... سامحيني.

 

ـ أريد معرفة التفاصيل يا أبي، فهذا مِن حقّي.

 

ـ طبعًا...طبعًا. كنتِ قد وُلِدتِ حين جئتُ لأمّكِ الحقيقيّة، بمَن يساعدها. كانت تلك الصبيّة جميلة للغاية، ولا تزال حتى اليوم، وبدأتُ أشعر تجاهها بكميّة كبيرة مِن الإعجاب. وهي لم ترفض تقرّبي منها، بل شجّعَتني على ذلك. أمّكِ مِن جانبها، كانت مشغولة بكِ بعدما مرَّت بفترة حمل صعبة وولادة أصعب. الفترة نفسها التي منعَتني مِن الإقتراب منها... أعني...

 

ـ أعلم ما تعنيه... أكمل.

 

ـ كنتُ بحاجة إلى امرأة والمربيّة كانت موجودة وموافقة. وفي أحد الأيّام، ضبَطَتنا أمّكِ ونحن... سويًّا في وضع غير لائق. جعَلَتني أختار بينها وبين المربيّة. ولكثرة غبائي، إختَرتُ التي هي الآن زوجتي. عندها قرّرَت أمّكِ الرحيل وأخذكِ معها، لكنّني منعتُها مِن ذلك مهدّدًا بإيذائكما لو فعَلَت. بالطبع لم أكن لأفعل شيئًا كهذا، إلا أنّني كنتُ متعلّقًا بكِ كثيرًا ولا أزال. رحلَت أمّكِ كي تحافظ عليكِ وأنا تزوّجتُ المربيّة. هل كنتُ سعيدًا معها؟ ربمّا خلال السنة الأولى، أي قبل أن تنجب أخاكِ، لكن بعد ذلك، أظهَرَت لي وجهًا لم أكن أعرفه وصارَ همّي الوحيد حمايتكِ منها.

 

ـ لماذا لم تخبرني بالحقيقة؟!؟

 

ـ ربمّا لكثرة خجَلي مِن نفسي... هل كنتِ ستحترمين أبًا حمَلَ أمّكِ على الرحيل مِن دونكِ ليتزوّج مربيّة أخطأ معها؟

 

ـ بالطبع لا... وأين أمّي الآن؟ أريد رؤيتها. أين تسكن ومع مَن؟ هل هي بصحّة جيّدة؟ قل لي! أريد أن أراها!

 

ـ للأسف يا ابنتي، لن تقدري على ذلك لأنّها ماتَت مِن سنين طويلة... لقد وصلَني الخبر وحزنتُ كثيرًا على مصير تلك المسكينة.

 

ـ يا إلهي! هل انتحَرت؟

 

ـ لا... قضَت بحادث سير بعد سنتَين على رحيلها مِن البيت.

 

ـ ألَم تسأل عنّي يومًا؟

 

ـ بلى، وباستمرار. كانت تتّصل بي في المكتب وتتوسّل إليّ لتسترجعكِ، إلا أنّني لم أقبل بذلك... هل تحتقريني يا ابنتي؟

 

ـ مِن الأفضل ألا أجيب عن سؤالكِ.

 

إلتجأتُ إلى صديقتي وأمّها وبكينا كثيرًا نحن الثلاثة. وعندما نشِفَت دموعي قالت لي رباب:

 

ـ الذنب ذنبي، لم يكن يجدر بي...

 

ـ بل العكس. أفضّل أن أعرف أنّ أمّي ماتَت وهي تحبّني، على الإستمرار بالظنّ أنّ زوجة أبي هي أمّي وأعاني مِن قساوة لا أفهم سببها. قلبي حزين للغاية ولكنّه ارتاحَ أخيرًا. يا ليتَني استطعتُ التعرّف إليها أكثر، وتخزين ذكريات عنها ومعها، إلا أنّ هذه مشيئة الله وعليّ تقبّلها. كان أخي على حقّ عندما كان يقول لي إنّني لستُ في مكاني وسطهم، هل كان على علم بالحقيقة أم أنّه شعَرَ ضمنًا أنّني غريبة عنه؟ كيف لي أن أعود إلى بيت يوجد فيه دخيلة أخذَت مكان أمّي، مِن دون تأنيب ضمير، وأخ لا يُحبّني وأب فضّل شهوته على الحفاظ على عائلته؟

 

ـ ستمكثين عندنا.

 

ـ وماذا لو رفَضَ أبي ذلك؟

 

ـ دعي الأمر لي.

 

إستطاعَت رباب إقناع أبي بالسماح لي بالعيش معها وابنتها، وزيارته خلال فرصة نهاية الأسبوع. فرحَت زوجة أبي كثيرًا، فهي لم تحبّني يومًا لأنّني أذكّرها بأمّي في كل ثانية. أمّا أخي، فلم يُزعجه العيش مِن دوني.

في بيت صديقتي، شعرتُ بالحب والحنان، وقضيتُ سنينًا جميلة معها ومع أمّها التي بدأتُ ولا أزال أناديها "ماما".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button