عجز أمي

لطالما كانت أمّي مريضة بداء السكّر، ولكنّها استطاعَت حتى ذلك الوقت الحفاظ على مستوى سكّر مقبول. إلا أنّها بدأَت تأكل طوال النهار وبشهيّة كبيرة حتى لم يعد الأنسولين كافيًا. توسَّلتُ إليها كي تنتبه لأكلها ولكنّها كانت تجيبني: "سنموت كلّنا يومًا وأنا أريد أن أموت شبعانة".

والذي كان سيحصل حصل: بتروا رجلها اليُمنى وبعد فترة فقدَت المسكينة البصر.

كان أبي قد مات مبكرًا تاركًا وراءه ديونًا عديدة سببها وَلَعه بالمَيسر وكنتُ أنا الإبنة الوحيدة، أي أنّني سرعان ما أصبحتُ المعيلة لعائلتنا الصّغيرة بعد أن بدأتُ العمل مذ استطَعتُ ذلك، وتعبتُ كثيرًا للتوفيق بين درسي وعملي. ولكن بعد ما أصابَ أمّي، كان عليّ البقاء معها في البيت للانتباه إليها ومساعدتها بكلّ الأمور، ولم أعد قادرة بذلك على مزاولة عملي، أي تحصيل المال الذي يُخوّلنا أن نعيش وأن أدفع فواتير طبابة والدتي.

في البدء كان الجيران يتناوبون للبقاء معها حتى أعود مِن العمل، ولكن سرعان ما ملّوا مِن تلك العجوز التي لم تكن قادرة على القيام بشيء لوحدها، مع أنّني استطعتُ الحصول لها مِن جمعيّة خيريّة على رِجل صناعيّة. ولكنّ فقدانها للبصر جعَلَ منها إنسانة ضعيفة وغير قادرة على التحرّك في البيت. وللأسف كانت حالتها الصحيّة وعمرها يحولان دون إجراء عمليّة جراحيّة لها.

قلّصتُ ساعات عملي، الأمر الذي قلَّصَ بدوره مدخولنا، وكنتُ أنظر إليها بأسى وهي تحاول المشي في البيت مصطدمة بالأثاث.

 


كانت أمّي تحاول منذ فترة إقناعي بأخذها إلى دار للعجزة، إلا أنّني بقيتُ أرفض إلى حين لم أعد أحتمل الوضع، فقد كان الحمل ثقيل جدًّا على شخص واحد بعدما كنتُ قد قضيتُ عمري أعمل ومِن ثمّ ألعب دور الممّرضة، وكانت حياتي تمرّ مِن أمامي بدون أن أقدر على التقاط أيّة لحظة سعادة منها. حياتي العاطفيّة كانت معدومة، فلم أكن أجرؤ على التعرّف إلى شبّان أو القيام بمشاريع طويلة الأمد، فمَن سيقبل بأمّي المعوّقة؟ مَن سيتحمّل أنينها الدائم؟ على كلّ حال كنّا مفلستَين بسبب الفواتير وثمَن الأدوية والعلاجات ونصف راتبي، وكنّا سنجد أنفسنا في الشارع قريبًا، بالرّغم مِن أنّني بعتُ آخر ما كنتُ أملك: سيّارة قديمة اشترَيتُها مستعملة كانت بالكاد تقلّني مِن مكان إلى آخر إلا أنّها كانت تحميني مِن المطر في الشتاء.

لن أنسى ذلك اليوم ما دمتُ على قَيد الحياة... حضّرتُ لأمّي حقيبة وأنا أدّعي أنّ الأمر طبيعيّ، ولكنّ معدتي كانت متشنّجة وعيناي مليئتين بالدموع، واعدة نفسي أنّني لن أتخلّى عنها لأنّني سأزورها يوميًّا. كانت أمّي صامتة ولكنّها لم تكن حزينة، ولو شعرتُ للحظة أنّها تذهب إلى دار العجزة رغمًا عنها لكنتُ عُدتُ أدراجي.

لاحقًا فكّرتُ كثيرًا بالوحدة التي شعَرَت بها أمّي في ذلك اليوم فقد كانت وكأنّها تُرمى في النسيان، شخص مِن دون منفعة، ثقل لا يريده أحد. لم أكن إبنة سيئّة، بل العكس كنتُ أحبّ أمّي أكثر مِن أيّ شيء في الدنيا، وهذا ما دفعَني إلى أخذها إلى هناك حيث ستحظى بالاهتمام الطبّي اللازم بدلاً أن تبقى لوحدها في البيت عاجزة وغارقة في العتمة. هناك ستكون لها رفقة على الأقل.

كنتُ أعلم أنّ البعض سيحكم عليّ ويقول عنّي إنّني ابنة جاحدة رمَت أمّها، ولكنّني كنتُ أنا الأخرى مِن دون شيء: لا أخ ولا أخت، لا مال ولا أملاك، لا شيء! لو كان لدَيّ القليل لجلبتُ لأمّي ممّرضة وكانت ستعيش كالملكة!

كانت المؤسّسة مجهّزة جيّدًا بالرغم مِن أنّها حكوميّة ومجّانيّة، والمكان نظيف والموظّفّين لطفاء. كان الطبيب قد درَسَ ملّفها وأكّد لنا أنّ والدتي ستحظى بالاهتمام المناسب. أخذونا إلى غرفتنا الجميلة التي كانت ستتقاسمها أمّي مع سيّدة أخرى. وبعد أن تعرّفتا إلى بعضهما رأيتُ بسمة على وجه والدتي واطمأنّ قلبي. شرحوا لنا البرنامج الذي كان يضمّ نشاطات عديدة، ومواعيد الوجبات، وتركتُ المكان وفي قلبي غصّة ولكنّ والدتي شجّعَتني على الرحيل قائلة إنّ كلّ شيء على ما يُرام.

 


لم أنم تلك الليلة فالبيت كان فارغًا بعد أن اعتدتُ على وجود أمّي فيه وعلى النهوض عدّة مرّات في الليل لأخذها إلى المرحاض. ولم أعد أريد النوم. النوم... يا ليتني أنام قليلاً فلم أذق طعمه لسنوات.

في الصّباح الباكر ركضتُ أزور أمّي ووجدتُها بخير وارتاحَ قلبي. ولكن على مرّ الأيّام، لاحظتُ أنّ والدتي فقدَت حيويّتها. قال لي الطبيب إنّ الأمر طبيعيّ فكلّ القادمين الجدد يمرّون بتلك المرحلة وإنّ عليّ أن أصبر.

وخلال شهر فقدَت والدتي مِن وزنها وبهجتها. بقيَت تصرّ على أنّها بخير وأنّها تعرّفَت إلى أصدقاء عدد وأنّها سعيدة في الدار.

أمّا بالنسبة لي، فقد كنتُ قد عدتُ إلى العمل بدوام كامل، وكنتُ أفكّر باستمرار بأمّي وبما كانت تفعله هناك وإذا كانت سعيدة. والأهمّ إذا كنتُ سأسامح نفسي يومًا.

صلَّيتُ كي تحصل معجزة، وبدأتُ ألعب اللوتو على أمل أن أربح لأخرج أمّي مِن المؤسّسة وأعيدها إلى بيتها، ولكنّ الوضع بقيَ على ما هو عليه. ومرَّت الأشهر ولم أرَ أيّ بصيص أمل.

وفجأة جاء التغيير: صديقة أمّي الوحيدة ورفيقتها في الغرفة في المؤسّسة ماتت، الأمر الذي أزعجَ والدتي إلى أقصى درجة. كنتُ قد تعرّفتُ إلى جاد، إبن تلك السيّدة خلال زياراتي لأمّي، وكان قد أتى لأخذ أمتعة أمّه المتوفّاة واغتنَمتُ الفرصة لتقديم تعازيّ له. كان المسكين حزينًا لأقصى درجة فقد كانت كلّ ما لدَيه وكانت هي الأخرى التي أصرَّت على الذهاب إلى دار للعجزة كي يتسنّى له العيش بشكل طبيعيّ، أي كانت حالتي وحالة جاد مماثلة.

وقبل أن يرحل طلَبَ منّي جاد الأذن بزيارة أمّي مِن وقت إلى آخر كَونها كلّ ما تبقّى مِن ذكر أمّه، وبالطبع قبلتُ طلبه. أخَذَ جاد يدي وقبَّلها بامتنان واعدًا بأنّه لن يُزعجنا. ولم ألاحظ مِن قبل كم أنّ ذلك الرجل وسيمًا وجذّابًا، واحمّر وجهي فجأة.

وهكذا بدأنا نرى بعضنا في المؤسّسة. كنّا نتنزّه مطوّلاً في الحديقة، وأروي له حياتي ومشاكلي وهو يستمع إليّ. كان جاد طيّبًا وحنونًا ونظراته مليئة بالحنان. ووقعنا في الحب. طلَبَ جاد يدي مِن أمّي التي طارَت مِن الفرح، فبالرّغم مِن عدم قدرتها على رؤيته كانت قد شعَرَت بطيّبته.

كان لجاد شرط واحد، وهو أن تأتي أمّي للعيش معنا بعد زواجنا. ولم أصدّق أذنّيَ، فلم أحلم أن أسمع ذلك مِن رجل.

كان حبيبي بذلك يُريد التكفير عن قبول وضع أمّه في الدار وإسعادي في آن واحد.

وبما أنّه كان يجني ما يكفي، لم يعد عليّ العمل، وكان بإمكاني الاهتمام قدر ما أشاء بوالدتي. كنتُ قد حصلتُ أخيرًا على معجزتي!

هل كان ذلك بفضل صلواتي ولأنّني فعلاً آمنتُ بأنّ الأشياء الحسنة تحصل للأشخاص الطيّبين؟ لا أعلم، لأنّ ما يهمّ هو أنّ أمّي عادَت إليّ ولن يُفرّقنا شيء بعد الآن إلا الموت.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button