عالم الأرواح (الجزء الثاني)

كان قد مضى على لقاء جنان الأوّل بأسمى حوالي السنتَين حين نفَذَ مال إبنتي كلّيًّا، بعد أن باعَت حليها وسيّارتها وأقفلَت عيادتها بِسبب إهمالها لِزبائنها. إلا أنّها لَم تهتمّ للأمر لكثرة شغفها بـِ "قدراتها" الجديدة ولأنّ إحدى "الأرواح"، التي حضَرت بواسطة جنان، أكّدَت لها أنّ كلّ ما أعطَته لمعلّمتها وللمحتاجين سيعودُ إليها بأضعاف، لكن في الوقت المُناسب.

لكنّ المُشعوِذة لَم تكن مُمتنّة أبدًا مِن أنّها لَم تعُد قادرة على الإستفادة مِن إبنتي، لِذا فكّرَت بطريقة أخرى لِسحب المال. كانت تلك ستكون ضربتها القاضية والأخيرة قبل أن تبحث عن ضحايا أخرى. وعلِمتُ لاحقًا أنّها كانت تنوي السفَر إلى ما خلف الحدود للهروب مِن المُلاحقات التي ستُنتجُ عن فعلتها. فما كانت تنويه لإبنتي كان بغاية الخطورة وعواقبه جسيمة.

بالرغم مِن أن أسمى بدَت بغاية السعادة في الأواني الأخيرة، فقد شعرتُ بأنّ شيئًا ما يتحضّر. هل هي الحاسّة السادسة الخاصّة بالنساء أم أنّني بدأتُ، عن غير قصد، بربط الأمور ببعضها؟ لستُ أدري إلا أنّني قرّرتُ زيارة أسمى في عيادتها مِن دون أخبارها مُسبقًا. لَم أفعل ذلك مِن قبل، فلَم تدُس قدمايَ العيادة سوى في يوم الإفتتاح، ومِن بعد ذلك قرّرتُ احترام خصوصيّات إبنتي لِتشعر بأنّها صارَت حقًّا مُستقلّة.

تفاجأتُ كثيرًأ حين وجدتُ المكان مُقفلاً، مع أنّ أسمى غادرَت في الصباح نفسه بسرعة بسبب عدَد الزبائن الهائل الذي ينتظرُها في ذلك اليوم. قرعتُ باب الشقّة المُلاصقة للعيادة، وسألتُ السيّدة التي فتحَت لي عن سبب إقفال عيادة إبنتي. نظرَت إليّ المرأة باندهاش، فلَم تفهَم كيف لأمّ أن تجهَلَ أنّ إبنتها أقفلَت عملَها منذ أشهر طويلة. تمتمتُ بضع كلمات ثمّ نزلتُ السلالم بسرعة.

هكذا أذًا... عندها فهمتُ لماذا باعَت أسمى سيّارتها ولَم تعد تصرفُ كالسابق. لكن لماذا أخفَت إبنتي عنّي ضيقتها الماليّة؟ هل لأنّها لَم ترِد إحراج نفسها وتخييب ظنّي بها؟ قرّرتُ طبعًا مُفاتحتها بالأمر، لكن في وقت لاحق أي ريثما أُحضّرُ كلّ ما لدَيَّ لأقوله لها. سؤال آخر خطَرَ ببالي: أين كانت تذهب أسمى مِن الصباح حتى المساء؟ أخذتُ على عاتقي أن أسألها أيضًا ذلك السؤال إلا أنّني غيّرتُ رأيي وقرّرتُ اللحاق بها سرًّا حين تُغادرُ المنزل صباحًا. كنتُ أعلَم أنّها ستغضبُ منّي كثيرًا لو علِمَت بالأمر، لكنّها إبنتي الوحيدة ومِن واجبي حمايتها حتى لو كان ذلك مِن نفسها.

 


قدتُ سيّارتي ببطء وراء أسمى التي غادرَت مشيًا على الأقدام مسافة أمتار قليلة، ثمّ انعطفَت يسارًا لتنتظر ما اعتقدتُها سيّارة أجرة. لكن سرعان ما أتَت سيّارة سوداء تقودُها سيّدة شقراء وتوقّفَت أمام إبنتي التي ركِبَت إلى جانبها. إستغربتُ الأمر طبعًا ولحِقتُ بالمركبة إلى حَيٍّ غريب عنّي. ترجّلَت المرأة وأسمى ودخلتا سويًّا مبنى واختفتا عن نظري.

ملَلتُ للغاية وأنا أنتظرُ خروج إبنتي فقد غابَت الشمس ولا أزالُ مكاني. وفهمتُ أنّ أسمى لن تظهر إلا في وقت عودتها مِن العيادة المُعتاد.

خرجَت إبنتي أخيرًا مِن المبنى لكن لوحدها واستقلَّت سيّارة أجرة. أسرعتُ بأخذ طريق قصير إلى البيت لأصل قبلها وأدّعي أنّني لَم أغادر البيت قطّ. لَم أُفاتِح أسمى بالذي رأيتُه، لأنّني شعرتُ أنّ عليّ اكتشاف المزيد، ولَم أُرِد الإكتفاء بأعذار غير مُقنِعة وإخافتها لتنغلقَ أكثر على نفسها.

في اليوم التالي لحِقتُ بإبنتي إلى المكان نفسه وكذلك في الأيّام التالية إلى حين... لَم تعُد أسمى إلى البيت!!!

إنشغَلَ بالي للغاية، فكنتُ في الأيّام الأخيرة أتركُ الحَي المذكور باكرًا لأتفرّغ لِتحضير وجبة العشاء عالمةً تمام العلم أين هي، أي مع تلك المرأة الشقراء. ويا لَيتني بقيتُ مكاني لَعرفتُ أنّ أسمى تمّ خطفها. أجل، كانت جنان قد قرّرَت تحصيل المال منّي مُقابل حياة إبنتي.

في ذلك المساء، وبعد أن حاولتُ مرارًا الإتصال بهاتف أسمى الذي بقيَ مُقفلاً وبكلّ معارفها الذين لَم يرَوها قطّ، قصدتُ مركز الشرطة الأقرَب منّي ورويتُ لهم ما أعرفُه. لكنّ الشرطيّ لَم يرَ سببًا لِقلَقي، على الأقل ليس قبل أن تمضي أربع وعشرون ساعة على اختفائها. لكن قبل مُغادرتي القسم، جاءَني إتّصال مِن مجهول مفاده أنّه يحتجزُ إبنتي ويريدُ منّي فديةً قدرها مئة ألف دولار وإلا قتلَها. وبالطبع طلَبَ منّي الرجل عدَم إقحام السلطات في الأمر وإلا خسِرتُ أسمى إلى الأبد.

وقفتُ على باب القسم لأجمَع أفكاري التي كانت تتخبّط في رأسي. حاولتُ عدَم البكاء أو الصراخ كي لا ألفِتَ الإنتباه، إلا أنّ الشرطيّ لاحظَ ارتباكي بعد أن تلقَيتُ الإتصال، فأخذَني إلى مكتب التحرّي وقال له: "أظنُّ أنّ هذه السيّدة في مأزقٍ كبير... وقد تكون إبنتها مخطوفة". نظرتُ إليه باندهاش ثمّ قال لي: "نحن مُعتادون على هكذا أمور... لا تخافي سيّدتي".

أخبرتُ التحرّي كلّ ما أعرفُه ودلَلتُه على المبنى الذي كانت تقصدُه إبنتي يوميًّا ووصفتُ له جنان ومركبتها. إنهالَت دموعي على وجهي وتوسّلتُ الرجل أن يجِد أسمى بأسرع وقت، لأنّني لَم أكن أملكُ المبلغ الذي طلبَه الخاطف الذي كان طبعًا شريك جنان. أكَّدَ لي التحرّيّ أنّه لن يحصَل أيّ مكروه لإبنتي بل سيتحرّكون بشكل خفيّ، وطلَبَ منّي الصّبر قليلاً.

تحقّقَت الشرطة مِن الرقم الذي تمّ مِن خلاله الإتصال بي، وتبيّنَ أنّه مِن خطّ مؤقّت أي أنّ لا أسم مرتبطًا به. وقام المحقّقون بمداهمة شقّة جنان التي كانت فارغة وجمعوا الأدلّة ثمّ استجوبوا جيرانها.

 


إنتابَني خوفٌ لا مثيل له، فأين هي إبنتي؟!؟ تصوّرتُها ميتةً أو على الأقل مُقيّدةً في مكان مُظلِم تبكي على مصيرها، فتوقّفتُ عن الأكل والنوم. وجاءَني إتّصال ثانٍ مِن الخاطف فطلبتُ منه، كما أملى عليّ التحرّي، أن يُسمعَني صوت أسمى لأتأكّد مِن أنّها لا تزال على قَيد الحياة قبل أن أدفَع له المبلغ المطلوب. إستطاعَت إبنتي أن تُسمعَني بضع كلمات قبل أن يأخذَ منها الرجل الهاتف فاطمأنَّ قلبي قليلاً.

كانت جنان وشريكها قد أخذا إسمى إلى منزل في إحدى القرى البعيدة كانت جنان قد ورثَته عن جدّها. إلا أنّ تلك المرأة الشنيعة لَم تكن تعلَم أنّ الشرطة كشفَت هويّتها بِفضل مُلاحقتي لها في الأيّام التي سبقَت خطفها لإبنتي، فنامَت على حرير. لكنّ معرفة مكانها الجديد لَم يتطلّب مِن الشرطة وقتًا طويلاً، فلقد بحثوا عن أيّ عقار تمتلكُه جنان ووجدوه بسرعة. بقيَ أن يتحقّقوا مِن وجود الخاطفَين وابنتي في المكان المذكور. أشكرُ ربّي اليوم أنّ الخاطفَين لَم يخبّئا أسمى في موقع آخر وإلا لَما وجدناها قطّ.

أحاطَت الشرطة بالبيت القرويّ وكنتُ معهم بعد أن أصرَّيتُ على مُرافقتهم. وقفتُ بعيدًا أُصلّي كي لا يحصلَ أيّ مكروه لأسمى أثناء المُداهمة.

تمّ الإفراج عن إبنتي خلال دقائق قليلة، فعناصر الشرطة قد تحرّكوا بطريقة مدروسة للغاية، أي قبل أن يتسنّى للخاطفَين أن يتصرّفا أو حتى أن يعلما بالذي يجري.

عانقتُ أسمى وبكينا سويًّا وهي طلبَت منّي السماح، فأثناء احتجازها علِمتُ إلى أيّ درجة استغلَّتها جنان. فتلك الأخيرة أخبرَتها بوقاحة أنّها استغبَتها وأوهمَتها بتحضير الأرواح بمساعدة شريكها وكيف سلَبا منها كلّ ما تملكه.

حُكِم على جنان والرجل بسنين مِن السجن بتهمة الإحتيال والنصب والخطف والإبتزاز، ولن يخرجوا إلا بعد وقت طويل. ثمّ أخذتُ أسمى ورحنا نعيش في مدينة أخرى كي لا يُذكّرنا شيء بالذي حصَل.

اليوم تتبعُ أسمى علاجًا نفسيًّا لتتقبّل موت أبيها نهائيًّا قبل أن تُعاوِد مهنتها، فلا أريدُها أن تفشَل مُجدّدًا أو تُعاني مِن أيّ اضطراب، فيكفيها الذي مرَّت به. إنّ الحياة للأحياء، أمّا الأموات فقد رحلوا عنّا نهائيًّا. صحيح أنّنا نودّ أن نطمئنَّ عليهم حيث هم، لكنّ ذلك هو مِن شأن الله وليس مِن شأننا. وسيأتي يوم ونجتمع مُجدّدًا بمَن سبقونا، لكن إلى ذلك الحين، علينا عَيش حياتنا بعيدًا عن الشعوذات والسحر والتدجيل.

إحزنوا على أمواتكم واحفظوا ذكراهم وكرّموهم بصلواتكم فحسب، وركزّوا على الذين هم أحياء بالعمل على حبّهم ومُساعدتهم كي يجتازوا مِحَنهم بسلام، ولا تصدّقوا مَن يوهمُكم بأنّه يستطيع معرفة الغَيب والوصول إلى عالم الأموات، وإلا وقَعتم ضحيّة جهلكم لأبسط تعاليم وتوصيات الذي خلَقَ الكون.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button