عالم الأرواح (الجزء الأول)

لقد تعِبتُ كثيرًا لإعطاء إبنتي أسمى، أفضَل تربية وتعليم، لتكبر وتصبح فتاة ولاحقًا إمرأة مُجتمع وهي لَم تُخيّب ظنّي. فافتخَرتُ كثيرًا بها حين حصَلَت على شهادتها بِطبّ الأسنان وبتفوّق. عدتُ وساعدتُها ماليًّا لِتفتح عيادتها بالمال الذي تركَه لي زوجي، رحمه الله، الذي كان يتحدّرُ مِن عائلة مُقتدرة. مكانة زوجي وأهله هي التي حثَّتني على العمل لِرفع شأن أسمى كي لا يقول أحدٌ إنّني فشلتُ في مكان ما.

سرعان ما بدأ الزبائن يتوافدون إلى عيادة إبنتي التي كانت تُجيد عملها وكلّ شيء تفعله. فهي كانت خارقة الذكاء وتتمتّع بفضول علميّ عالٍ، أي أنّها تقومُ بأبحاث عميقة في مجالات عديدة لا تمتُّ حصرًا بطبّ الأسنان. هكذا كانت، ومنذ مُراهقتها، تبحثُ عن سرّ الحياة والموت وأمور ماورائيّة عدّة. لَم أقِف في دربها فكنتُ واثقةً مِن أنّها ستحتكمُ في آخر المطاف إلى الدين وتكتفي بذلك، شأننا جميعًا. إلا أنّ ذلك البحث الدائم لدى أسمى أوقعَها بين أيادي امرأة بشعة ومُحتالة لأقصى درجة. فإبنتي لَم تتقبّل موت أبيها، وحاولَت جهدها لِفهم ما لا يجب فهمه منطقيًّا وذلك لإراحة قلبها المجروح. فالجدير بالذكر أنّها كانت مُتعلّقة جدًّا بوالدها وتعتبره، كسائر البنات، مخلوقًا لا يُقهَر.

دخلَت جنان حياة إبنتي عن طريق الصدفة بعد أن التهَبَ ضرسها في أحد الأيّام، وزارَت عيادة أسمى بعد أن كانت قد أقفلَت عيادة طبيبها الإعتياديّ. لكن تلك الزيارة كانت كافية لها لِترى بإبنتي الضياع ، فهكذا أناس يستشعرون بسرعة إستعداد ضحاياهم للوقوع في شباكهم.

لا أعلَم كيف بدأ الحديث بين أسمى وجنان عن الموت وما يوجد مِن بعده، إلا أنّ تلك الأخيرة لمّحَت لإبنتي أنّها تمتلكُ قدرة أسمَتها "هبة" على التواصل مع الأرواح.

علِمتُ بكلّ تلك التفاصيل لاحقًا، أي بعد وقوع المُصيبة، لأنّ أسمى أخفَت عنّي ما جرى طوال الوقت، فأنا لم أكن لأُصدّق تلك التفاهات.

عادَت جنان إلى العيادة في موعد لاحق وتابعَت كلامها عن ممارساتها "الخاصة"، التي اكتشفَتها وهي صغيرة ونمَّتها على مرّ الزمن لِتصبح مرجعًا بتحضير الأرواح والتعاطي معها.

 


قد يخافُ البعض عند قراءة قصتّي، هؤلاء أُطمئنُهم بأنّ هذا الكلام هو مجرّد وسيلة للإستفادة مِن ضعفاء العقول ماديًّا أو معنويًّا، فحتى هؤلاء الذين يعرضون خدماتهم للناس مِن دون مُقابل يكسبون الهيبة والإحترام وأحيانًا الخوف، الأمر الذي يُقوّيهم ويخدمُ مصالحهم.

عادَت إبنتي والتقَت بِجنان في أحد المقاهي للبحث في العالم الآخر، أي عالم الأموات، حتى أن انتهى بهما المطاف في شقّة جنان.

دعوني أخبرُكم عن جنان قليلاً، فتلك المرأة هي مِن عائلة مُتواضعة للغاية، وحدَثَ أنّها ألقَت بشباكها على شاب مُقتدر إستفادَت منه ثمّ رمَته لِتعيش حياتها على سجيّتها. أقصدُ بذلك طبعًا عدد العشّاق الذين تتالوا إلى شقّتها التي اشترَتها مِن المال الذي حصلَت عليه بعد الطلاق. لكنّ المال نفَذَ واحتارَت هي بأمرها إذ اعتادَت على حياة الرخاء ولَم تكن مُستعدّة للتخلّي عنها. وبعد أن وجدَت أنّ عَرض مفاتنها للرجال لم يعد كافيًّا، قرّرَت اصطياد صغيري العقول بِنشر خبَر قدراتها الماورائيّة على مَن حولها. فرَشَت جنان قسمًا مِن الشقّة خصّيصًا لهذا الموضوع، أي رتّبَت زاوية وضعَت فيها طاولة ومصباحًا وكرة مِن الكريستال وورق تبصير، وقرأَت بعض الكتب عن الموضوع إلى أن أصبحَت جاهزة. لَم تكن أسمى طبعًا ضحيّتها الأولى بل التقَت بها بعد أن صارَت مُتمرّسة وبدأَت تجني المال مِن أكاذيبها.

أوهمَت جنان إبنتي أنّها أيضًا تمتلكُ قدرات خاصة، وعرَضَت عليها تعليمها كيف تُظهرُها بِدورها، الأمر الذي ملأ قلب أسمى بالحماس، فهي كانت أخيرًا ستُطبّقُ ما قرأَته طوال سنوات وربمّا تستطيع التواصل مع أبيها الحبيب. لكن تلك الجلسات "التدريبيّة" لَم تكن مجّانيّة، بل صرَفَت إبنتي عليها مُعظم الذي تجنيه مِن عيادتها، مُعتبرةً أنّ ذلك المبلغ هو بمثابة استثمار كما قد يفعلُ الباحثون العلميّون حين يطبّقون نظرياتهم. لَم أشعر بالذي كان يجري إلا أنّ هدايا إبنتي لي صارَت نادرة، ولاحظتُ أنّها لَم تعد تشتري شيئًا لنفسها مِن فساتين وأحذية كما في السابق. وأنا ردَدتُ الأمر لِنضوجها وتركيزها على مهنتها وأعجبَتني الفكرة.

نبّهَت جنان إبنتي بألا تبوح لأحد عن ذلك التدريب وإلا توقّفَت عن إعطائها الدروس، لِذا كانت أسمى تتركُ عيادتها أبكَر مِن اللازم لِتوافي "معلّمتها" في شقّتها، وتجلسُ معها حول الطاولة المذكورة لمُناجاة الأموات. نعم، لَم تستفِد إبنتي مِن العِلم الذي تلقَّته في المدرسة والجامعة قطّ وكأنّ جهودي كلّها ذهبَت سدىً.

عندما قرّرَت جنان أنّ أسمى أصبحَت "شبه جاهزة"، أقامَت لها جلسة مع الأرواح. فبدأ يومِضُ نور المصباح الموضوع قرب الطاولة وصارَت الطاولة تتحرّك ببطء. خافَت إبنتي لكنّ المرأة طمأنَتها بانّ ذلك دلالة على أنّ روحًا إستجابَت للنداء وتركَتها تتحاور مع تلك الروح لوحدها. وأوّل شيء سألَته إبنتي للروح كان عن الحياة بعد الموت، وإن كان أبوها سعيدًا حيث هو. فأجابَتها الروح:

 


ـ المكان مُظلم حيث نحن... وبارد للغاية.

 

ـ يا إلهي...

 

ـ لكن بفضلكم يا صاحبات القُدرات، يُمكننا الشعور بالدّفء... أحيانًا.

 

ـ وأبي؟ أين هو وكيف حاله؟

 

ـ هو يعرفُ كلّ شيء عنكِ وممتنّ لأنّكِ تتعاملين مع "المعلّمة" جنان. لكنّكِ لستِ جاهزة بعد للتكلّم معه، فكلمّا كانت الروح مُقربّة مِن الشخص، كلّما تتطلّبَ الأمر تمرّسًا.

 

ـ سأبذلُ جهدي.

 

ـ عليكِ أيضًا تنظيف روحكِ جيّدًا، فما تفعلينَه حتى الآن ليس كافيًا... ساعدي الأيتام والفقراء.

 

ـ أين سأجدُهم؟ فكلّ معارفي مُقتدرين.

 

ـ ستقودُكِ جنان إليهم. عليّ العودة... فكلامي معكم يُسبّبُ لي العقاب.

 

سألَت أسمى جنان ماذا عنَت الروح حين تكلّمَت عن العقاب، فأجابَتها:

 

ـ في كلّ مرّة نستدعي روحًا، فهي تُخالفُ القوانين إذ عليها أن تقضي بعد ذلك فترة في مكان رهيب. لِذا علينا مُساعدتها قدر المُستطاع بمساعدة مَن هم بحاجة.

 

ـ دلِّيني على مَن عليّ مُساعدته إذًا، فلا أُريدُ تعذيب روح أبي عندما يحضرُ أخيرًا.

 

صرَفَت إبنتي مبالغ طائلة على أناس لَم يكونوا طبعًا بحاجة إلى مُساعدة، بل كانوا مُتواطئين مع جنان مُقابل نسبة مئويّة، فاضطُرَّت لِبَيع بعض الحلى بعد أن كانت تصرفُ ما تجنيه على الدروس. وهي لَم تكن تعلم أنّ الصوت الذي سمعَته أثناء الجلسة هو بالفعل صوت شريك جنان الذي كان يُكلّمها مِن غرفة مُجاورة عبر مذياع ومُكبّر للصوت.

تضرّرَ عمل إبنتي لأنّها أهمَلَته مِن أجل دروسها الماورائيّة، فصارَ الزبائن يقصدون أطبّاء آخرين، لكنّ الأمر لم يكن يهمُّها، فما كان يشغلُ بالها هي القدرة على التواصل مع أبيها وسائر الأرواح وكأنّ ذلك يُعطيها قوّة خاصة ومعنىً لحياتها.

يوم باعَت إبنتي سيّارتها لِصرف ثمنها على "المُحتاجين"، تفاجأتُ كثيرًا وسالتُها لماذا فعلَت ذلك فأجابَتني: "هذه السيّارة تُسبّبُ لي المتاعب وأقضي وقتي بِتصليحها. سأشتري أفضل منها قريبًا". لَم أقتنِع بقصّتها، فتلك السيّارة كانت مِن طراز جيّد وحديثة الصنع. وبدءًا مِن تلك الفترة، أخذتُ أراقبُ أسمى لأنّ أشياءً مُريبة كانت تدورُ مِن حولها. لماذا لَم أُلاحِظ ما يجري قبل ذلك؟ لأنّني لَم أتصوّر أبدًا أن تكون صبيّة مُتعلّمة ومُثقّفة قد وقعَت في فخّ المُبصّرين والمُشعوذين. لكن عاطفة المرء تتفوّقُ أحيانًا على عقله ومنطقه وما مِن أحد بمنأى عن الدجّالين.

ما جرى بعد ذلك يفوقُ التصوّر وكدتُ حقًّا أن أفقدَ إبنتي وهي كادَت أن تفقدَ حياتها، وأشكرُ ربّي اليوم أنّني استطعتُ إنقاذها في الوقت المُناسب.

 

يتبع...

المزيد
back to top button