عائلتي العظيمة!

لن أنسى ما فعلَه جمال مِن أجلي، حين كان الجميع قد أدارَ ظهره لي وذلك لأنّني تطلّقتُ وكان لدَيّ إبنة. ففي مجتماعاتنا الشرقيّة تصبحُ النساء اللواتي بحالتي شبيهات بالبضاعة غير المرغوب بها، لأنّها مُستعملة وتحملُ معها آثار ما حَدَثَ لها على شكل ولد. أين الأهل في هكذا أوقات؟ هم مشغولون بإسكات كلام الناس، والرضوخ لعادات غير مُنصفة للجنس الضعيف.

نعم إنّه مجتمع ذكوريّ بامتياز، وكِدتُ أن أصبَحَ أنا وإبنتي ضحيّته لولا وجود جمال، الرجل الوحيد الذي كان على قدر المسؤوليّة.

كلّ شيء بدأَ عندما اختلَفتُ مع زوجي لأنّه كان يُقيمُ علاقات مع كلّ اللواتي قبِلَن به، وذلك مِن دون أن يأبه بكونه متزوّجًا وله بنت. كان طلاقنا بشعًا، لأنّ زوجي لم يرَ لزومًا لِرحيلي، بحيث أنّه يُؤمّنُ لي كلّ حاجاتي، أي المأكل والمشرب وبعض الملابس مِن وقت إلى آخر. هو لَم يفهَم أنّ ما تريدُه المرأة هو أن تشعر بالحبّ والأمان، وهما الشيئَان اللذَان لم يكونا موجودَين عنده.

عدتُ إلى منزل أهلي بعدما أجَبرتُهم على استقبالي، فهم لم يكونوا مستعدّين أبدًا لإسترداد "البضاعة المُستعملة". وهناك بدأتُ أتحمّل التلميحات العديدة واليوميّة التي كنتُ أسمعُها بشأن الثقل الذي جلبتُه لهم والذي كان يُتعِبُهم.

ولكنّني لم أردّ عليهم لأنّ لا مكان آخر لي أذهب إليه، خاصّة بهد أن بحثتُ عن عمل بلا جدوى بسبب البطالة التي كانت تعمّ البلد.

... وتعرّفتُ إلى جمال في أغرب الأماكن: كنتُ أمشي في الطريق عندما أتى أحدٌ وانتشَلَ منّي حقيبة يدي. بدأتُ بالصراخ لكثرة غضبي وأسفَي على محتوى الحقيبة، أي أوراقي الثبوتيّة، فلَم يكن هناك أيّ مال في الحقيبة بسبب شبه فقري. قصدَتُ على الفور المخفر للإبلاغ عن السرقة والمباشرة بأقرب وقت في الحصول على أوراق بديلة.

كنتُ أنتظرُ دوري حين قال لي الرجل الجالس بقربي:

 

ـ تبدين حزينة... لِما أنتِ هنا؟

 

أخبرتُه بما حصل لي وسألتُه السؤال نفسه فأجابَ:

 

ـ أنا؟ لا شيء مهمًّا... أنا هنا بدلاً مِن صديق لَم يستطع القدوم بنفسه.

 


ثمّ أكملَ السندويش الذي كان في يده، وأنهى عبوة الصودا واعتذَرَ منّي ليُكلّم أحد الشرطيّين. لا أنكرُ أنّني أُعجبتُ بذلك الشخص مِن أوّل نظرة وكدتُ أنسى ما جئتُ أفعله في القسم.

عدتُ إلى البيت بعد أن ملأتُ في المخفر استمارة وأخذوا رقم هاتفي الذي كان، لحسن حظّي، في يدي لحظة السرقة. لدى سماع أهلي ما جرى لي، سَخِروا منّي وكأنّ الأمر كان مُضحكًا. فامتلأت عَينايَ بالدموع لهكذا لامُبالاة، فهم لَم يتكبّدوا حتى عناء إخفاء مشاعرهم، وصمَّمتُ على أن أترك ذلك المكان في أوّل فرصة تُتاح لي وأن آخذ إبنتي بعيدًا.

بقيتُ أفكّر في رجل المخفر، لكن سرعان ما نسيتُه لكثرة انشغالي بالتفتيش عن عمل... إلى حين اعترضَني ذات يوم شابّان في الطريق وسدّدا لي ضربات عنيفة على معدتي ورجليَّ. بقيتُ فاقدة الوعي لدقائق طويلة إلى أن حمَلَني أحد السائقين المارّين إلى المشفى حيث قامَ الأطبّاء بعلاجي. لَم يزرني أحد سوى والدتي التي جلسَت على كرسيّ بالقرب منّي وقالَت لي بجفاء:

 

ـ هذا ما يحصل للنساء الوحيدات. كان لكِ زوج مُحترم و...

 

ـ مُحترم؟!؟ قولي بالأحرى إنّه كان زوجًا خائنًا ومُتسلّطًا يُريدُ فرض حياته البغيضة عليّ. كيف أربّي إبنتي في هكذا أجواء؟ كيف أُحافظ على كرامتي أمامها؟

 

ـ لو كنتِ في بيتكِ مع زوجكِ...

 

ـ النساء المُتزوّجَات تتعرّضنَ أيضًا للإعتداء في الطرقات. القدر شاء ذلك... أهذا كلّ ما لدَيكِ لتقوليه لي؟ إسأليني إن كنتُ أتألّم مِن جّراء تلك الضربات العنيفة وكيف هي معنويّاتي!

 

ـ ها أنتِ في المشفى وستكونين بخير.

 

ـ ماذا جرى لكِ يا أمّي؟ كنتِ إنسانة محبّة وحنونة... أين ذهَبَ حبّكِ ودلالكِ لي؟

 

ـ في عائلتنا لا تتركُ النساء بيوتهنّ.

 

ـ وهل هذا كافٍ لتتوقّفي عن حبّي؟ لا أزال إبنتكِ وأنتظرُ منكِ ومِن عائلتي بأسرها الوقوف إلى جانبي في الأوقات الصعبة. عودي إلى بيتكِ، أُريدُ أن أرتاح.

 

بعد خروج أمّي مِن الغرفة قدِمَ شرطيّ لأخذ إفادتي. ذكرتُ له أيضًا أمر سرقة حقيبة يدي، فلَم يعد لديّ مِن أوراق ثبوتيّة بل فقط المحضر الذي يُثبت الحادثة. وعدَني الرجل بأنّه سيفعل ما باستطاعته لإيجاد الفاعلين.

للحقيقة لَم أفكّر مليًّا بسبب هذا الإعتداء الوحشيّ ولَم أربطه بالسرقة التي سبقَته، هذا إلى حين عدتُ إلى بيت أهلي. فبعد أيّام قليلة، جاء يدقّ بابنا الرجل نفسه الذي كان جالسًا بالقرب منّي في المخفر. إستغربتُ الأمر كثيرًا ، لكنّني أدخلتُه بعد أن أراني بطاقته وعلِمتُ أنّه بالحقيقة محقّق. وقال لي جمال بعد أن جلَسنا في الصالون.

 

ـ سيّدتي، أعذريني على كذبتي الصغيرة آنذاك، فكنتُ أستريحُ قليلاً، وجلستُ كعادتي في القسم المُخصّص للشاكين، فأحبّ أن أرى وجوههم وأستمع لشكواهم وأنا آكل وجبتي السريعة مِن دون أن أفضح لهم هويّتي.

 

ـ ما الذي يحصل لي؟ يا لحظّي! أوّلاً طلاقي الصعب ومِن ثمّ النشل ومِن بعدها الضرب!

 


ـ لَم أعطِ أهمّيّة كبيرة لعمليّة النشل التي كنتِ ضحيّتها يا سيّدتي، لكن بعد أن رأيتُ تقرير الإعتداء وجدتُ أنّ هناك أمرًا مُريبًا. فعندما يحصل أمران لشخص واحد وفي فترة قصيرة لا يكون عادةً نتيجة صدفة بحتة. إضافة إلى ذلك وبعد تفكير مليّ، لَم أجد تفسيرًا لأن يتهجّم أحد على سيّدة مِن دون سبب وفي وضح النهار إلا إذا...

 

ـ إلا إذا ماذا؟ تكلّم!

 

ـ الإعتداء يدلّ على غضب كبير... قولي لي مَن هو غاضب منكِ إلى درجة أذيّتكِ.

 

ـ زوجي... على ما أعتقد. فهو لَم يكن يُريدُ أن أتركه، بل اعتبر الأمر وكأنّني أُفلِتُ منه وأُعصيه. لكنّني لا أعتقدُ...

 

ـ أعرف الناس أكثر منكِ ولقد سبقَ أن حصل ذلك وأكثر. دعي الأمر لي. هل مِن شيء آخر أفعله مِن أجلكِ؟ هل أنتِ بخير وابنتكِ؟

 

ـ أجل نحن بخير، لكنّني سأشعرُ بارتياح أكبر حين أُغادر هذا المكان.

 

ـ لماذا؟!؟ أنتِ وسط أهلكِ.

 

ـ هم لا يُريدونني... بل يُحاولون إقناعي بالعودة إلى زوجي، فإنّهم يعتبرون أنني وإبنتي ثقل عليهم مادّيًّا وإجتماعيًّا. عليّ إيجاد عمل ومكان للعيش فيه بعيدًا عنهم.

 

رحَلَ جمال وشعرتُ بالأمان لمجردّ معرفتي بأنّه سيتقصّى عن أمر الإعتداء. كنتُ مفتونة به لكنّني لَم أجرؤ على تخيّل حدوث أيّ شيء بيننا، خاصّة بعدما علِمَ كلّ شيء عنّي وعن مشاكلي. فلقد إعتقدتُ أنّ الرجال كلّهم هم مثل زوجي، أي لا يُفكّرون سوى بأنفسهم... لكنّني كنتُ مُخطئة. فجمال اليوم زوجي وأب إبني ونعيشُ مع إبنتي أجمل القصص، ونُشكّل عائلة مُتماسكة يربطُها حبّ قويّ وصادق.

كيف حدَثَ ذلك؟

بعد زيارة جمال لي، أخَذَ يتحرّى، فهذا هو عمله في نهاية المطاف. لكن كان له دافع آخر لذلك، وهو إعجابه بي وتأثّره بالذي حصَلَ لي وبظروف حياتي. إضافة إلى ذلك، هو شعَرَ أنّني قد أكون بخطر... لِذا كثّفَ جهوده. لَم يتأخّر جمال في إيجاد اللذَين اعتديا عليّ، وذلك بفضل المُخبرين الذين لهم أعين وأذن في كلّ مكان. والذي عرفَه مِن هذَين الوغدَين كان مُحزنًا للغاية وبعيدًا كلّ البعد عن الذي كان يُمكنُني تصوّره.

فجمال عاد يدقّ بابنا لكن هذه المرّة بصحبة شرطيَّين. تفاجأتُ للأمر كثيرًا والتمَّت العائلة بأسرها في الصالون. عندها قال لي ذلك المُحقّق الوسيم:

 

ـ سيّدتي، جئتُ اليوم لأعتقل والدتكِ وأخوتكِ.

 

ـ يا إلهي! لماذا؟!؟

 

بقيَ الجميع ساكتًا فاستدَرتُ نحو والدتي لكنّها أزاحَت نظرها عنّي. أكمَلَ جمال:

 

ـ فالذي علِمتُه مِن تحرّياتي ومِن اعتراف زوجكِ السابق الذي هو موجود الآن عندنا في القسم، هو أنّ عائلتكِ "الكريمة" هي شريكة بالذي حصَلَ لكِ.

 

ـ أنتَ حتمًا مُخطئ!

 

ـ أنظري إليهم! هم لا يستطيعون حتى الإنكار! فلقد اتّفقوا مع زوجكِ السابق مُقابل مبلغ مِن المال، على إخافتكِ لا بل أذيّتكِ لتعودي إليه. أمّكِ وأخوتكِ هم الذين كلّفوا مَن سرَقَكِ واعتدى عليكِ.

 

ـ أنتَ تكذب! زوجي السابق يكذب! المُعتدين يكذبون! أّي أهل يفعلون ذلك بابنتهم؟

 

ـ إسأليهم! لقد باعوكِ وآذوكِ ليتخلّصوا منكِ ومِن إبنتكِ ويملأوا جيوبهم. لا أحسدكِ على هكذا أهل!

 

أُخِذَت والدتي وأولادها إلى القسم، لكنّني أسقطتُ حقّي فكنتُ ولا أزال أفضل منهم. سُجِنَ زوجي السابق وأُخليَ سبيل عائلتي بعد أن صدَرَ بحقّهم حكم بالسجن مع وقف التنفيذ. كنتُ خلال فترة المُحاكمة قد انتقلتُ وإبنتي إلى الفندق، لكن سرعان ما وجَدَ لي جمال عملاً في شركة أحد أقاربه.

بعد أن كنتُ قد فقدتُ كليًّا ثقتي بالجنس البشريّ، تفاجأتُ كثيرًا حين اعترفَ لي جمال بحبّه لي. بقيتُ على حذري منه خوفًا مِن أن يخذلني هو الآخر، لكن إطمأنّ قلبي حين طلَبَ منّي أن أتزوّجه. نظرتُ في عَينَيه وهو يُقسمُ لي بأنّه سيفعل ما بوسعه لإسعادي وإبنتي، ورأيتُ فيهما ما لَم أرَه في عَينَي زوجي السابق أو حتى أهلي: وجدتُ نظرة حبّ قويّ وصادق. عندها علِمتُ أنّني وجدتُ الإنسان الوحيد الذي سيقفُ إلى جانبي ويحميني مهما كانت الظروف. وكنتُ على حقّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button