ظهر حبيبي السابق في والقت الغير مناسب

كانت غيرة رامي، زوجي، أسطوريّة. صحيح أنّه كان مِن أفضل الرجال وله خصل حميدة للغاية، إلا أنّ شيئًا واحدًا كان يُغضبُه إلى أقصى درجة ويحملُه على التصرّف بعدائيّة: فكرة أن يكون رجل آخر قد نالَ إعجابي أو قلبي، قبل زواجنا... وخلاله. وكنتُ أعلمُ تمام العلم كيف أتصرّفُ لو صادَفتُ رجلاً وسيمًا أو حاوَلَ أحد التقرّب منّي، لِذا لَم نواجه مشاكل مِن تلك الناحية.

وكي أتفادى أيّة ملاحظة مُزعجة أو أن يتراجع عن قراره بالزواج منّي، لَم أقل لرامي شيئًا عن حياتي الماضية، وهو لَم يسألني. لِذا تصرّفنا وكأنّني عشتُ في مكان لم يكن فيه رجال طوال حياتي، وكنّا مرتاحَين لهذا الإتّفاق غير المُعلن. ولأؤكّد لحبيبي أنّني لَم أحبّ سواه أبدًا، طلبتُ مِن صديقتي الحميمة يومًا أن تقول أمامه إنّني، على خلاف باقي الشلّة، لَم أرتبط بأحد قط وبقيتُ وحيدة إلى أن أحبَبتُه.

كَم هو مؤسف أن نضطرّ للكذب في حين تكون الحقيقة بسيطة للغاية! لكن هكذا كان رامي، وكما ذكرتُ سابقًا، مزاياه الحميدة كانت تفوقُ بكثير غيرته العمياء.

عشنا سنوات جميلة وأنجَبنا ولدَين جميلَين، وحسَدَني الجميع على زواجي الناجح وزوجي الحنون والكريم، وأنا شكرتُ ربّي لإعطائي رجل كهذا.

إلا أنّ هنائي لَم يدُم. فذات يوم، جاء إلى الحيّ ثنائيّ جديد، وخلتُ أنّ قلبي سيتوقّف حين رأيتُ سمير على شرفة المبنى المقابل. أسرَعتُ بالدخول إلى آخر الصالون كي لا يراني، وبدأتُ أرتجف مِن الخوف. فذلك الرجل كان حبيبي السّابق، وخلتُ أنّه سافَرَ إلى أوروبا ليعيش هناك بصورة مستمرّة. إلا أنّه كان يسكنُ قبالَتي ووجوده يُهدّد سكينتي.

إرتأيتُ أنّ أفضل طريقة لتفادي المشاكل التي تنتظرُني، هي أن أتفادى سمير. ولَم يكن الأمر صعبًا، فكلّ ما كان عليّ فعله هو عدَم الخروج إلى الشرفة أو الإقتراب مِن النوافذ المُطلّة على مسكنه، واتّخاذ الحذر حين أنوي الخروج لوحدي أو مع عائلتي. فلَم يكن يجدرُ برامي أن يعرف أبدًا أنّني كذبتُ عليه بهذا الشكل وإلا فقَدَ ثقته بي إلى الأبد.

مرَّت الأيّام والأسابيع بسلام، بعدما صِرتُ مُعتادة على الإنتباه إلى تحرّكاتي، إلا أنّ بعض الأمور لا بّد لها أن تحدث يومًا.

 


كنتُ عائدة مِن المدرسة حيث أوصِلُ ولدَيّ كلّ صباح وأركنُ سيّارتي أمام المبنى، حين سمعتُ صوتًا مألوفًا يقول لي:

 

ـ مرحبًا، يا جميلتي!

 

ـ سمير! ماذا تفعل هنا؟

 

ـ أعيشُ في ذلك المبنى... كَم سنة مرَّت على آخر لقاء لنا؟

 

ـ لستُ أدري، الكثير. ماذا تريدُ منّي؟

 

ـ لا شيء على الإطلاق! كنتُ مارًّا وحين رأيتُكِ قرّرتُ إلقاء التحيّة عليكِ. إسمعي، لقد انتقلتُ للعَيش هنا مع زوجتي منذ فترة قصيرة ونشعرُ بالملل، فالحَيّ هادئ للغاية. وأرى خاتم زواج في إصبعكِ، فما رأيكَ لو نلتقي نحن الأربعة في أيّ مطعم تختارينَه؟

 

ـ لا! أبدًا! هذا لن يحصل! إسمَع، كنّا صغيرَين وانتهَت علاقتنا. صحيح أنّها كانت بريئة، إلا أنّها كانت علاقة! وزوجي... يغارُ للغاية.

 

ـ يغارُ مِن حبّ مراهقَين؟ ما هذه السّخافة؟ ومَن لا يُغرَمُ ولو مرّة قبل الزواج؟ وهل على الإنسان أن يعيش في قمقم؟

 

ـ أرِحني مِن الفلسفة أرجوكَ وابتعد عنّي، فلستُ بحاجة إلى المشاكل. عُد إلى زوجتكَ واتركني بسلام.

 

ـ ما هذا الكلام الجارح؟ وهل أنا أتحرّشُ بكِ؟ أقول لكِ إنّني أريدُ الخروج مع زوجتي برفقتكما! هذه ثاني مرّة تصدّيني بها... في ما مضى قُمتِ بتركي، الأمر الذي حطَّمَ قلبي، والآن ترفضيني مجدّدًا... ما الذي فعلتُه لكِ لأستحقّ هكذا مُعاملة؟

 

ـ أنا آسفة، آسفة جدًّا، لَم أقصد ما قلتُه، لكنّ رامي يغارُ حقًّا بطريقة مُبالغ بها... ولقد قلتُ له عندما كنّا نتواعد إنّني لَم أعرف أحدًا مِن قبله.

 

ـ آه... فهمتُ الآن. حسنًا يا سيّدتي، سأتركُكِ بسلام!

 

رحَلَ سمير واستطعتُ التقاط أنفاسي. لبرهة إعتقدتُ أنّه سيصرّ على التعرّف إلى رامي ويخرب عليّ هنائي. شكرتُ الله أنّه أصبَحَ رجلاً عاقلاً وهادئًا، وليس كما كان في السابق، أي شابًا سريع الإنفعال ومتهوّرًا، وهي طباع حمَلَتني على إنهاء علاقتنا.

وعندما دخلتُ بيتي، وعدتُ نفسي بِعَدَم التفكير بالموضوع، وإراحة بالي مِن استباق مصيبة قد لا تحصل. فكان لي ايمان عميق بأنّ سمير فَهِمَ أنّ ظهوره في حياتي قد يؤذيني، وأنّه لن يفعل شيئًا يُدمّر ثقة زوجي بي.

إلا أنّني كنتُ مُخطئة، فالناس لا تتغيّر، حتى ولو بعد سنوات طويلة. فكان سمير قد وجَدَ وسيلة للإنتقام منّي. فما لَم أكن أعرفُه، هو أنّه كان في ما مضى متعلّقًا جدًّا بي وينوي الإرتباط بي رسميًّا بعد تخرّجه مِن الجامعة، وأنّه كان قد أطلَعَ الجميع على نواياه، الأمر الذي جلَبَ له الكثير مِن السّخرية والملاحظات البشعة عندما تركتُه. لِذا فضَّلَ السّفَرَ بعيدًا عنّي وعن كلّ مَن سخِرَ منه. هو لم ينسَ كل ذلك، ووجَدَ أخيرًا طريقة للثأر منّي.

 


أوّل شيء فعلَه سمير هو أن وضَعَ طاولة ضخمة وكراسٍ عديدة على شرفته التي تطلُّ على شرفتنا وقسم كبير مِن المنزل، وصار يجلسُ عليها مُعظم وقته لوحده أو مع زوجته. وكان يتكلّم بصوت عالٍ لجَلب الإنتباه، وقد تمكّن مِن ذلك تمامًا. فرامي تضايَقَ منه وسأَلَ عاليًا مَن يكون ذلك الرجل الفظّ الذي يعتبرُ أنّه يعيشُ لوحده في الحيّ. بالطبع أجبتُه بأنّني لا أعرف مَن يكون. كذبة أخرى جاءَت تُضاف إلى أكاذيبي القديمة.

وبعد أن أصبَحَ شبه مُستحيل لنا أن نرتاح مِن كثرة الضجّة، قرَّرَ زوجي قصد جارنا ليطلب منه عدَم إزعاجنا، إلا أنّني توسّلتُ إليه بألا يفعل، مُتحجّجة بأنّنا لا نُريدُ مشاكل مع هكذا أناس. هدأ رامي بعض الشيء وارتاح قلبي قليلاً. لكنّ سمير إستاء مِن عدَم ردّة فعل زوجي، فانتقَلَ إلى المرحلة الثانية، أي صارَ يترُك على زجاج سيّارتي ورودًا، كما قد يفعلُ المعجبون، إلا أنّني، بعدما رأيتُ أوّل وردة، صرِتُ أستفيق باكرًا لإزالة كلّ ما كان يتركُه سمير على سيّارتي. وأعترفُ أنّني لَم أعد أذوق طعم النوم ولا الراحة، وانقلَبَت حياتي إلى سواد.

لكنّني لَم أتوقّع أبدًا أن تصل وقاحة سمير إلى ما وصلَت إليه: ذات ليلة، قال لي رامي بعد عودته مِن العمل:

 

ـ لقد صادفتُ جارنا المُزعج، أو بالأحرى كان هو ينتظرُني قرب المدخل و...

 

ـ وماذا؟!؟

 

ـ واعتذَرَ منّي عن تصرّفاته المُزعجة.

 

ـ أمرٌ جيّد.

 

ـ وأبدى رغبته بزيارتنا وزوجته... بعد ساعة مِن الآن.

 

ـ بعد ساعة؟!؟ هذا لن يحصل! أقصدُ أنّني لستُ مستعدّة لاستضافة أحد.

 

ـ لا عليكِ يا حبيبتي، فهي زيارة بسيطة، لن يمكثا على العشاء. أنا مسرور أنّ ذلك الرجل ندِمَ على تصرّفاته، وأظنّ أنّه إنسان مرِح وقد نصبحُ أصدقاء.

 

إنهارَ عالمي بعد أن سمعتُه يقول لي هذا، وتحضّرتُ لمصيبة كبيرة.

عندما سمعتُ جرس الباب، شعرتُ وكأنّني سأقع أرضًا، إلا أنّني تماسكتُ ولحقتُ بزوجي الذي أسرَعَ بفتح الباب لسمير وزوجته. وفور دخولهما صالوننا، إستدار ضيفنا نحوي وقال: "أشعرُ وكأنّني أعرفكِ... سيّدتي." لَم أجِب، وجلَسنا جميعًا. بعد لحظات، ركضتُ إلى المطبخ أحضّر القهوة، وحين عدتُ وجدتُ رامي يُحدّثُ ضيفَنا عن أمور عاديّة فارتاحَ قلبي. لكن لحظة جلستُ قال لي سمير:

 

ـ رانيا!!! لَم أكن مُخطئًا! لقد تغيّرتِ كثيرًا منذ...

 

ونظَرَ إلى زوجته مُتابعًا:

 

ـ عُذرًا حبيبتي، لكنّ رانيا كانت حبيبتي حين كنتُ لا أزالُ في الجامعة.

 

سادَ سكوت رهيب، ولَم أجرؤ على النظر إلى زوجي الذي أسرَعَ بالقول:

 

ـ صحيح، فلقد أخبرَتني رانيا عنكما... لكنّني لَم أعرف أنّكَ هو الذي تَرَكته مِن أجل طباعه السيّئة. ومِن الواضح جدًّا أنّها فعَلَت الصّواب.

 

سكَتنا جميعنا، أنا لأنّني تفاجأتُ بأن يعرف رامي بشأن سمير وبالتفاصيل، سمير لأنّه تلقّى ضربة قاضية في كرامته وفي خطّته التي تبّينَ أنّها فاشلة، وزوجته لأنّها لَم تكن تعلم بقصّتي مع سمير.

رحَلَ سمير وزوجته بعد أقلّ مِن دقيقة، وأقفَلَ زوجي الباب وراءهما وهو يضحكُ بانتصار. ثمّ عادَ إلى الصالون حيث كنتُ لا أزال جالسة ومصدومة وقال لي:

 

ـ هل أعجبكِ موقفي؟

 

ـ طبعًا حبيبي، ولكن كيف...

 

ـ كيف كنتُ على علم بعلاقتكِ مع سمير؟ بصراحة لَم أكن أعرفُ أنّه الذي واعدتِه في ما مضى، إلا حين فتَحَ فمه البشع وتكلّم. حبيبتي... لَم أصدّق يومًا أنّكِ لم تعرفي أحدًا مِن قبلي، خاصّة بعدما أصرَّت صديقتكِ على الأمر. فكان مِن الواضح أنّكما تكذبان، لِذا أجرَيتُ آنذاك بعض التحريّات، وعلِمتُ كلّ شيء عن الشاب الذي ترَكتِه بسبب شخصيّته الفظّة، الأمر الذي أعجبَني فيكِ، فكان مِن الواضح أنّكِ إنسانة عاقلة. أمّا بالنسبة إلى الكذب، فهو أمر مرفوض، وعلى كلّ الأحوال، ما مِن شيء يبقى سرًّا إلى الأبد. صحيح أنّني أغارُ كثيرًا، إلا أنّني لستُ مريضًا نفسيًّا وهناك فرق شاسع بين الأمرَين. خلال سنوات زواجنا لَم تُعطِني أيّ سبب لأشكّ بكِ، فأنا أثقُ بكِ كثيرًا، ويا ليتكِ وثقتِ بقدرتي على الحكم على الأحداث والناس. هل ارتاحَ قلبكِ الآن؟

 

ـ أجل يا حبيبي... وكثيرًا. دعني أروي لكَ ما حاولَ فعله ذلك الإنسان البغيض، ومِن بعد ذلك سننسى حتى وجوده!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button