كنتُ قد ترَكتُ مهنة التعليم التي انهكَتني لسنوات، خاصّة أنّني درّستُ مادّة صعبة، وهي الرياضيّات، لتلامِذة مُراهقين كان اهتمامهم الوحيد هو اللهو والأمور السخيفة المُتعلِّقة بسنّ صعب يكتشِفُ نفسه، ويُريد إثبات وجوده في مُستهلّ حياة مليئة بالتحدّيات. إعتنَقتُ مهنة أخرى كمندوب تأمين لحوادِث السَير والصحّة والتقاعد. أحبَبتُ ما فعلتُه، لأنّه عرّفَني على شتّى أنواع الناس بعيدًا عن الأولاد والمُراهقين الذين استنزَفوا قُدراتي.
وذات يوم، أرسلَتني الشركة إلى موقع حادِث سَير عند مُفترَق طرق خطير، لتقييم الأضرار وتحديد مسؤوليّة صاحب البوليصة... التي كانت إحدى طالباتي القديمات! في البدء لَم أتعرّف عليها، لأنّها كبرَت وصارَت صبيّة حسناء، لكنّها صرخَت بأعلى صوتها عندما رأتني قادِمًا: "سيّد هاني! هذا أنتَ؟!؟"، ثمّ عرّفَتني على نفسها قائلة:
ـ هذه أنا، سعاد... كنتُ تلميذتكَ في الصفوف الثانويّة... التلميذة التي تجلسُ دائمًا في آخِر الصف!
ـ آه... أجل، أجل، سعاد! كنتِ مُشاغِبة بعض الشيء، كما أتذكّر.
ـ بل كثيرًا! ولقد ندِمتُ لاحقًا على عدَم تركيزي على الرياضيّات!
ـ هل أنتِ بخير؟ هل تأذَّيتِ مِن جرّاء الحادِث؟
ـ لا، أبدًا، فقط سيّارتي المسكينة! السائق الآخَر هرَبَ بسرعة لأنّ الحقّ يقَع عليه!
ـ سأرى ذلك على الفور.
كشَفتُ على المركبة ومكان الحادث، وتبيّنَ لي أنّ مُعظم المسؤوليّة تقَع على سعاد، فكتبتُ تقريرًا مُختصَرًّا لأكمِله لاحقًا مع كامل التفاصيل، لكنّ تلميذتي القديمة بدَت لي غير مسرورة بالنتيجة، فأخذتُ أوبِّخها على قيادتها المُتهوِّرة. وإذ بها تبدأ بالبكاء أمامي كالطفلة، فشعرتُ بالذنب لأنّني، ومِن دون أن أنتبِه، كنتُ قد كلّمتُها بلهجة أستاذ مُستاء. طلبَت سعاد سيّارة أجرة ورحلَت مِن دون أن تودّعني. قساوتي على تلميذتي القديمة أحزنَتني، وبقيتُ أُفكِّر بالموضوع حتّى بعد انهاء نهاري ووصولي إلى البيت، وصمّمتُ على مكالمة سعاد في اليوم التالي لأعتذِر منها. سجَّلتُ رقمها على هاتفي بعد أن أخذتُه مِن القسيمة التي عبّأتُها لدى رفع المعلومات حول الحادث، وخلَدتُ إلى النوم.
وعبر الهاتف، شرحتُ لسعاد في اليوم التالي أنّني أقومُ فقط بواجبي، وأنّ الحقّ يقَع بالفعل عليها، مُضيفًا أنّ شركة التأمين لن تعوّض عليها. إعتذَرتُ منها بحرارة لعجزي عن مُساعدتها وهي تفهّمَت أخيرًا الوضع واعتذرَت بدورها على تصرّفها الفظ، عندما ركبَت سيّارة الأجرة ورحلَت. عذرتُها طبعًا، ففي آخِر المطاف، يتصرّف الناس بطرق غريبة لدى وقوع حادِث سيّارة، وكنتُ مُعتادًا على الأمر. أنهَت سعاد المُكالمة بدعوة منها لتناول الشاي والحلوى في مكان مُجاوِر لها، تستطيع الوصول إليه سيرًا على الأقدام لأنّ سيّارتها في التصليح.
قبِلتُ الدعوة فقط لأُزيل عنّي الشعور الذنب، فكانت سعاد بعيدة كلّ البُعد عن اهتماماتي... إلى حين جلَسنا سويًّا وتكلّمنا عن أمور مُختلفة، منها مسيرتها بعد أن أنهَت المدرسة. فتبيّنَ لي أنّها صارَت أكثر مسؤوليّة مِن قَبل... وأكثر جمالًا أيضًا. فالحقيقة أنّ خلال مسيرتي التعليميّة، لَم أنتبِه يومًا إلى شكل تلميذاتي، أيّ أنّني لَم أُلاحِظ أيّة منهنّ مِن الناحيّة الأنثويّة، بل اعتبرتهنّ أشخاصًا تمامًا كرفاقهنّ. لكن مع البُعد، رأيتُ المرأة في سعاد وأعجبَني ما رأيتُه، خاصّة أنّها تعاملَت معي في ذلك اللقاء ليس كأستاذ قديم، بل كرجُل عاديّ.
وفي المساء نفسه، حين عدتُ إلى بيتي، خطَرَ ببالي أن أُغيّر تقريري وأجعله لمصلحتها، لأُجنِّبَها دفع تكاليف تصليح سيّارتها. إلّا أنّني تراجَعتُ بسرعة بسبب ضميري المهنيّ.
وفي اليوم التالي، عرضتُ على تلميذتي القديمة أن أُساعدها بالتكاليف، بعد أن علِمتُ أنّها موظّفة بسيطة في إحدى الشركات وأنّ مدخولها محدود. هي رفضَت في البدء، لكنّها عادَت وقبِلَت عرضي. لَم يكن الأمر ليؤثِّر عليّ، فكنتُ أجني كفاية لأتحمّل قسطًا مِن التصليحات.
وهكذا وُلِدَت بيننا علاقة صداقة تحوّلَت، على الأقل مِن جانبي، إلى أكثر مِن ذلك. فكنتُ عازِبًا وأعيشُ لوحدي، وأعجبَتني فكرة الارتباط بسعاد وتأسيس عائلة معها. آه... للقصّة الرومانسيّة! أستاذ يتزوّج تلميذته القديمة! تمامًا كما في الأفلام والقصص، أليس كذلك؟
لكنّني لَم أكن أعلَم ما يدورُ في بال سعاد في ما يخصّني، هل هي كانت أيضًا مُعجبة بي؟ هل كان لدَيها حبيب؟ فلَم تتطرّق تلك الصبيّة ولو مرّة إلى حياتها الشخصيّة، وكنتُ لا أعرفُ شيئًا عنها سوى بضع تفاصيل. جهلتُ أبسط الأمور عن ذويها أو رفاقها أو هواياتها، ولَم يهّمني الأمر كثيرًا لأنّني بتُّ مع الوقت مفتونًا بتلك الصبيّة. أظنّ أنّ الأمر عائد أيضًا لِكوَني أعيش وحيدًا بعد أن ماتَ والدايَ وتزوّجَ أخوَتي جميعًا، فكنتُ بحاجة إلى حنان وحبّ امرأة.
تبادَلتُ أوّل قبلة مع سعاد في سيّارتي عندما كنتُ أوصلها إلى بيتها بعد أن تناوَلنا العشاء في مطعم جميل، وكنتُ أسعَد الرجال إذ أنّني شعرتُ بالدّفء الذي افتقدتُ له. نمتُ في تلك الليلة وبسمة على وجهي، وحلِمتُ بسعاد وهي بفستانها الأبيض وسط الأهل والأصدقاء.
لكن بعد يوم واحد، وصلَني اتّصال مِن زميل قديم لي، مُدرِّس بقيتُ على تواصل معه بعد أن ترَكتُ المدرسة. كان صوته جدّيًّا للغاية وهو يقول لي:
ـ هاني... هناك صورة لكَ على أحَد مواقع التواصل الاجتماعيّ.
ـ لَم أفهم... أيّة صورة؟
ـ صورة وأنتَ تُقبِّل صبيّة أو امرأة لستُ أدري... فوجهها مُغطّىً بشعرها.
ـ ماذا؟!؟ أُقبِّل صبيّة أو امرأة؟ أنا لَم... آه... إنّها شِبه خطيبتي!
ـ لا علاقة لي بحياتكَ الشخصيّة يا هاني... لكنّ التعليقات حول الصورة مُزعِجة للغاية.
ـ تعليقات؟!؟
ـ أجل، مِن تلاميذ قُدامى لنا، فهم يسخرون منكَ.
ـ هل لكَ أن تبعَث لي الرابط مِن فضلكَ؟
فتحتُ الرابط، وإذ بي أرى نفسي أٌقبِّل سعاد التي كان وجهها بالفعل مُخبّأً بشعرها. هي حتمًا أخذَت الصورة لنا مِن دون أن أنتبِه، لكن لماذا تفعل ذلك؟!؟ وبالفعل كانت التعليقات ساخِرة للغاية، فالصورة أُنزِلَت على مجموعة تلاميذنا القدامى الذي كان زميلي مُتابعًا لها. وكان الكلّ يضحك عليّ بكلمات قاسية ومُهينة، فرأيتُ أمام عَينَيّ مسيرتي التعليميّة تتدمّر. الواقع أنّ العديد مِن تلاميذي كانوا يتنظرون تلك الفرصة للانتقام منّي، أعني الذين كانوا يرسبون في مادّة الرياضيّات، فاغتنموا تلك المناسبة لتدميري مِن كلّ النواحي. أقفَلتُ هاتفي وبكيتُ، ليس فقط على الكلام الجارِح الذي قرأتُه مِن قِبَل الذين حاولتُ تعليمهم ما يُمكنه مُساعدتهم في مُستقبلهم، لكن على ما فعلَته سعاد بي. هل يُعقَل أنّها ليست مَن نشَرَ الصورة، بل أحَد آخَر أرسلَت له الصورة ونشرَها مِن دون عِلمها؟
لِذا إتّصلتُ بسعاد مُستفسِرًا. رنّ الهاتف مُطوّلًا حتى أجابَت أخيرًا:
ـ ماذا تُريد؟
ـ ما قصّة تلك الصورة يا سعاد؟ فلقد أرسَلَ زميل قديم لي الرابط!
ـ ما قصّتها؟
ـ كيف تأخذين صورة لنا ونحن نُقبِّل بعضنا؟ وكيف تُرسلينَها للناس لينشروها؟
ـ أنا نشرتُها بنفسي مِن حساب وهميّ.
ـ لماذا؟!؟
ـ لأنّكَ غبيّ وقبيح! مَن تظنّ نفسكَ؟!؟ هل اعتقدتَ حقًّا أنّ فتاةً بِمثل جمالي ودَلَعي مُهتمّة بكَ؟ أليس لدَيكَ مرآة في بيتكَ؟ كنّا نسخَر منكَ ومِن شكلكَ عندما كنتَ أستاذنا!
ـ ماذا فعلتُ لكِ أو لهؤلاء لتتصرّفوا معي هكذا؟
ـ علّمتَنا مادّة لَم نفهَمها وانتظرتَ منّا أن نكون عباقِرة، فشعَرنا بالفشَل والعَجز! ناهيك عن توبيخكَ الدائم لنا!
ـ وما ذنبي إن كانت مُهمّتي هي تدريسكم الرياضيّات! هدَفي الوحيد كان انجاحكم في الحياة!
ـ هذا لا يهمّ! فأنتَ إنسان سخيف ومُتشاوِف! لكنّني لقّنتُكَ درسًا لن تنساه! لَم أُصدِّق كيف أنّ القدَر جمعَنا صدفةً يوم الحادث، وأنّكَ اعتقَدتَ أنّ شيئًا قد يحدث بيننا! خطّطتُ لتلك القُبلة لفترة... وتشاوَرتُ مع زميلاتي القديمات، وقبِلتُ أن أضَع شفتَيّ على شفتَيكَ رغمًا عنّي! يا للشيء المُقزِّز! قمتُ بهذه التضحيّة مِن أجل الشلّة، لكنّني كنتُ أتقيًّا قرَفًا!
ـ أنتِ وزميلاتكِ مجنونات! مجنونات!
ـ وأنت غبيّ، يا أستاذ هاني! الوداع!
حظرَتني سعاد ولَم أسمَع منها بعد ذلك. خطَرَ ببالي أن أشتكي عليها وأُجبِرها على حذف الصورة، لكنّ زميلي القديم أقنعَني بأنّ لا فائدة مِن ذلك، فالجميع رأى الصورة والقضيّة قد تأخذ وقتًا طويلًا والكثير مِن المال، فتراجَعتُ.
أخذتُ إجازة مِن عمَلي وحبَستُ نفسي في البيت لأنّني شعرتُ بالعار، وكأنّ كلّ مَن سألتقي به سيتعرّف عليّ ويُدرِك أنّني الرجُل في الصورة. تصوّروا لو كنتُ فتاة أو سيّدة، لكانت سُمعتها قد تدمّرَت للأبد!
حذارِ مِن أن يحدث معكم شيء مُماثِل، فالتنمّر على الانترنِت مؤذٍ للغاية بسبب سرعة الانتشار والأذى المجّانيّ الموجود بين روّاده. ففي أيّامنا هذه، الكلّ يسمَح لنفسه بإبداء آرائه والسبّ والشتم، حتّى لو أنّهم لا يعرفون بعضهم. فالتكنولوجيا فتحَت أبواب جهنّم المليئة بالبغض والكره، وكأنّ كلّ شيء باتَ مسموحًا ومقبولًا. ولا تنسوا أنّ كلّ ما يُنشَر يبقى محفوظًا للأبد!
حاورته بولا جهشان