صراع حول ولد

كنتُ على علم طبعًا بالمشاكل التي تدورُ بين فؤاد إبني وجنان زوجته، إلا أنّني لَم أعرف ماهيّتها. إعتبَرتُ أنّ الإختلاف بالعقليّات وطريقة العَيش هما السبب، فكان مِن الواضح أنّ كنّتي لا تهوى العَيش في القرية. كان ذلك مُتوقّعًا، فهي إبنة مدينة ومُعتادة على الملابس الجميلة والخروج إلى المطاعم والمقاهي مع صديقاتها. ومنذ وصولها منزلنا، أُصيبَت بصدمة كبيرة حملَتها على زيارة أهلها باستمرار، لتتنشّق هواء العاصمة.

أنجَبَت كنّتي ولدَين جميلَين، واعتقدتُ أنّ ذلك سيُعطيها بعض الاستقرار، إلا أنّها أهملَتهما وقمتُ أنا بالاهتمام بهما وكأنّهما منّي. وصارَت زيارات جنان إلى المدينة عديدة، لِدرجة أنّ إبني لَم يعد يرى زوجته إلا نادرًا. وفي أحد الأيّام جاء إليّ شاكيًّا:

 

ـ أمّي، لَم أعد أتحمّل الوضع... فجنان غائبة مُعظم الوقت ولَم أعُد أشعر بأنّني مُتزوّج... أفكّرُ بتركها.

 

ـ لا يا بنيّ، لا تُحَلّ المشاكل هكذا... ولا تنسَ أنّ لدَيكَ ولدَين صغيرَين وسيتألّمان كثيرًا عندما يحصل الطلاق. لِما لا تجلس على انفراد مع زوجتكَ وتتكلّمان بالأمر بنضوج؟

 

ـ لأفعل ذلك عليها أن تكون موجودة... في بعض الأحيان أشعرُ وكأنّها تزوّجَتني فقط لمالي ومُلكي، فحياتنا أكثر مِن مُريحة بفضل مزرعتنا التي تدرّ علينا مبالغ كبيرة. هي تأخذ ما تُريدُه وتصرفُه في العاصمة ثمّ تعود.

 

ـ بل تحاولُ الوفاق بين حياتها القديمة والجديدة. أنتَ وُلِدتَ هنا وتحبُّ هذه الحياة، أمّا هي فكلّ شيء غريب عنها. حاول مرّة أخرى مِن أجلي وأجل ولدَيكما.

 

ـ حسنًا يا أمّي.

 


أذكُر ليلة قرّرَ فؤاد التكلّم مع زوجته، لأنّ صراخهما تعالى للغاية وخفتُ أن يحصل مكروهٌ لأيّ منهما. ثمّ خرجَت جنان بسرعة مِن المنزل وأغلَقَت الباب وراءها بقوّة لِدرجة أنّ الولدَين استفاقا باكيَين. لم أتدخّل لكنّني شعرتُ أنّ الأمور تفاقمَت لدرجة اللاعودة.

لكن في الصباح الباكر، وصلَت كنّتي البيت بصحبة رجل قدّمَته لنا على أنّه مُحاميها وبدأَت تُهدّد وتتلفّظ بكلمات نابية. نظرتُ إليها بتعجبّ، فلطالما كانت جنان إمرأة راقية ومُهذّبة، إلا أنّني لَم أقل شيئًا كي لا أزيد مِن غضبها.

وبدأ المحامي بالكلام عن الطلاق والنفقة وحضانة الولدَين. كان الأمر وكأنّه حلم بشع، بعد أن تراءى لنا أنّ الأمور تفاقمَت بسرعة وبشكل رهيب. ثمّ رحلَت كنّتي كما أتَت، أي بقوّة وعزم، وبكى إبني على سوء اختياره لزوجته. بعد فترة قصيرة بدأَت جلسات المحكمة الأسريّة، وخسِرَ فؤاد زوجته وولدَيه ودفَعَ لِجنان مبلغًا مِن المال بعد أن اتّهمَته بالهمجيّة والتعنيف والبخل. لَم يهتمّ إبني بهذه الإتهامات، فكلّ ما كان يريدُه هو الحفاظ على ولدَيه مِن كثرة حبّه لهما وخوفه مِن تركهما مع هكذا أمّ.

صارَ البيت فارغًا بِغياب حفيديَّ وغرقتُ وإبني في كآبة كبيرة. كنّا ننتظرُ بفارغ الصبر موعد قدومهما الأسبوعيّ لنقضي معهما أوقاتًا أرَدناها مُمتعة وسعيدة، قبل أن يعودا إلى البيت الذي استأجرَته جنان بِمال إبني. كنتُ على يقين مِن أنّ يومًا سيأتي ويكبر الولدان ويستوعبان أنّ أباهما ليس كما رسمَته أمّهما بل العكس.

بعد سنة على الطلاق، تفاجأنا بجنان تدقُّ بابنا وبسمة على وجهها. كان برفقتها ولداها وحقائب عديدة، وفي السيّارة معها المحاميّ نفسه الذي ساعدَها على الطلاق. أتَت كنّتي لتُرجِع الصغيريَن لنا لأنّها كانت تنوي الزواج مُجدّدًا. لَم نسأل أو نتساءَل، بل قبِلنا بسرور بعد أن فقَدنا الأمل بوجود الولدَين معنا. وضعَت جنان قبلة خفيفة على وجنة إبنَيها ثمّ رحلَت وانقطعَت أخبارها. علِمنا لاحقًا أنّها سافرَت بعيدًا وزوجها المحاميّ. وللحقيقة، إرتحنا كثيرًا لمعرفتنا بأنّها غادرَت البلاد وتمنَّينا ألا تعود أبدًا. بالطبع إستنتجتُ لاحقًا أنّ كنّتي كانت على علاقة مُسبقة بالمحاميّ، وأنّ ذهابها وإيّابها إلى المدينة كان بقصد اللقاء مع عشيقها. لكن لماذا الإنتظار سنة بكاملها لتتزوّج منه؟ ربّما لأنّ العشيق كان أيضًا مُتزوّجًا وانتظرا حتى يفوز هو الآخر بالطلاق. ووصَلَ إبني إلى النتيجة ذاتها وحمَدَ ربّه الذي خلّصه مِن هكذا امرأة.

مرَّت سنة أخرى قضَيناها بسعادة عارمة، إلى حين عادَت جنان باللباس الأسود لِتُخبرُنا أنّ زوجها توفّى وتريدُ استرجاع... ولد واحد مِن ولدَيها. إستغربنا هذا الطلب لكنّها لَم تُعطِنا تفسيرًا. فؤاد رفَضَ تسليمها أحد ولدَيه وهي وعدَته بفضيحة كبيرة إن لَم يفعل. لَم نصدّقها طبعًا وأوصَدنا الباب بوجهها. إلا أنّنا لَم نكن نعلم آنذاك ما ينتظرنا.

فالحقيقة كانت أنّ المال الذي ورثته جنان بعد موت زوجها لم يكن كافيًّا، خاصّة بعدما أنفقَت ما حصلَت عليه مِن إبني على التسوّق، وكانت تُريدُ المزيد بإثبات أنّ إبنها الصغير ليس مِن فؤاد بل مِن المحاميّ، وتفوز هكذا بالمنزل الزوجيّ في الخارج وميراث أكبر.

 


لَم يُصدّق إبني عَينَيه عندما وصلَه مِن المحكمة أمرٌ بإجراء فحص الحمض النوويّ لإبنه الأصغر بقصد إثبات الأبوّة، وخالَ أنّ العالم ينهار مِن حوله. فكان مِن المُحتمَل جدًّا أن تكون كنّتي السابقة قد حملَت مِن عشيقها وأقنعَت إبني بأنّ الجنين منه، فسيرتها لَم تكن شريفة على الإطلاق. لَم يهمّ فؤاد أن يكون الولَد مِن رجل غيره، فهو أحبّه تمامًا كما أحبَّ إبنه البكر، لا بل أكثر بقليل لأنّه الأصغر، وكان يريدُ تجنّب فصله عن أخيه، وما هو أهمّ، فقدانه.

جاءَت نتيجة الفحص الطبيّ أخيرًا، وأصابَنا إحباط عظيم لأنّ جنان كانت تقولُ الحقيقة. كانوا قد قارنوا حمض ولدنا بحمض أحد أولاد المحاميّ مِن زوجته السّابقة وتأكّدَت القرابة.

وبعد أيّام قليلة، وصلَت جنان بيتنا بصحبة رجلَي شرطة لاسترجاع إبنها والسّفر به إلى الخارج. حاوَلَ فؤاد الإعتراض، لكن أحد الشرطيَين أمسَكَه بقوّة إلى حين تمكّنَت كنّتي مِن الخروج مع الولد الذي كان يصرخُ ويتوسّل للبقاء معنا. صَرَخَ له إبني بأنّه سيفعل ما بوسعه لاسترجاعه وأنّه يحبّه كثيرًا، وأنا لحقتُ به إلى الخارج لأهمسَ في أذنه قبل أن ترميه أمّه في سيّارتها:

 

ـ ستعودُ إلينا يومًا، كن على ثقة. وحتى ذلك الحين، أريدُكَ أن تكون شجاعًا وصبورًا وأن تفعل ما تطلبه منكَ أمّكَ... عِدني بذلك.

 

ثمّ ركضتُ إلى الداخل لأعانق أخاه الذي شاهَدَ ما يجري بصمت وحزن. فهو لَم يفهم تمامًا ما يجري، لِذا أخذتُ أشرحُ له بكلمات بسيطة أنّ أخاه مسافر لفترة وأنّه سيعود قريبًا.

كيف أصفَ لكم حالتنا النفسيّة بعد ذلك اليوم الرهيب؟ لَم نعد نضحك أو نستمتع بشيء. كانت تلك الأفعى قد سلبَت منا حبّنا للحياة مِن أجل الربح والمادّة. فكان مِن المؤكّد أنّها لا تحبّ أيًّا مِن ولدَيها بل أرادَت استغلالهما فقط، لِذا كنتُ واثقة مِن أنّ حفيدي الأصغر لن ينقلب ضدّنا حين يكبر وبعدما يُدرك مِن أيّ صنف هي أمّه.

لَم نسمَع مِن جنان وابنها لخمس سنوات مُتتاليّة، لكنّنا تابعنا حسابها على الفيسبوك واستطعنا رؤية الولد وهو يكبر. كان أخوه قد فهِمَ أنّهما ليسا مِن الأب نفسه، لكنّ ذلك لَم يُقلّل مِن حبّه وشوقه لأخيه. شيء ما في داخلي كان يعلم أنّنا سنرى الولد في يوم ليس بعيدًا، فكنتُ قد بدأتُ أفهَم طبيعة كنّتي السابقة.

ولَم أكن مُخطئة، فهي بعثَت بالولد لوحده حتى بابنا ذات صباح. كنتُ في المطبخ أحضّرُ الفطور حين سمعتُ طرقًا خجولاً على الباب. رحتُ أفتح للزائر، لكنّني وقفتُ مُسمرّةً مكاني عندما رأيتُ صغيرنا أمامي وحقيبة إلى جانبه. بكينا بصمت ثمّ قال لي بصوت خافت:

 

ـ هل تقبلون بي؟ لستُ إبنكم لكن... ليس لدَيّ مكان أذهب إليه... فأمّي ستتزوّج قريبًا ولَم تعد تُريدني.

 

ـ بل أنتَ إبننا وهذا بيتكَ ونحن عائلتكَ. تعالَ أضمّكَ إلى صدري يا حبيبي وأشمّكَ، فكلّ ذرّة مِن جسمي مشتاقة إليكَ!

 

وجَدَنا فؤاد مُتعانقَين، فنادى إبنه الآخر وانضمّا إلى ذلك العناق الذي لا يحدثُ إلا بين أفراد العائلة المُتماسكة.

لَم نتكلّم يومًا عن الذي جرى وأنّ حفيدي الأصغر ليس منّا، بل تابعنا حياتنا وكأنّ شيئًا لم يحصل. ولَم ينسَ فؤاد الذهاب إلى القاضي ليحصل على وصاية الولد الأصغر قبل أن تتذكّره جنان. ونالَ مُبتغاه، إذ كان مِن الواضح أنّها أمّ غير كفؤة وغير مُستقرّة لا عقليًّا ولا عاطفيًّا.

علِمنا أنّ جنان أنجبَت مِن زوجها الثالث الذي كان رجلاً ثريًّا، أي أنّ لا حاجة لها بعد ذلك لولدها للحصول على مرادها. ونحن إرتَحنا منها ومِن فجورها وطمَعها إلى الأبد!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button