صديقتي... الغير صادقة!

كنتُ قد سمعتُ العديد مِن القصص عن الصّديقات السيّئات. ولكنّني لم أكن أصدّقها أو أعتقد أنّ هكذا أمور يمكنها أن تحدث على الأقل معي.

لكنّ الأنسان لا يكون يوماً مستعداً فعلياً لمواجهة تلك الحقيقة المرّة، خاصة إن كان يفتقد الخبرة أو لا يزال في عمر صغير.

كنتُ في العشرين مِن عمري، وكان لدَيّ عمل بسيط أجني منه القليل ولا يُمثّل بالنسبة إليّ الهدف الذي وضعتُه لنفسي. ولكنّني تحمّلتُه لأنّني كنتُ بحاجة إلى المال بسبب وضعنا العائليّ المتواضع. وكان لدَيّ زميلة إسمها إلهام، ومع مرور الوقت أصبحنا صديقتَين نخبر بعضنا كلّ شيء ونتقاسم أفراحنا وأحزاننا. كانت إلهام تعرف شابًا وينويان الزواج، ولكنّ أباها لم يكن موافقًا لا بل معارضًا بقوّة، الأمر الذي سبَّبَ لها الحيرة والحزن العميق. وبالطبع عمِلتُ جهدي لمواساتها وحملها على التمسّك بالأمل.

وفي ذات يوم وخلال إحدى جلساتنا، قالَت لي إلهام إنّها تنوي التوسّط لي عند أبيها ليجد لي عملاً أفضل في إحدى الوزارات كونه رئيس دائرة مهمة. وكانت تلك أوّل مرّة تتحدّث عن نوع عمل أبيها. فسألتُها:

 

ـ ولماذا لا يجد لكِ وظيفة أخرى فأنت إبنته.

 

ـ لأنّه يعلم أنّني لستُ فالحة بشيء... أنتِ ذكيّة وحاصلة على شهادة ثانويّة على عكسي... أنتِ لا تعرفينه... إنّه صارم جدًّا ويتّبع الأصول والقانون... ما رأيكِ؟

 

وبالطبع قبلتُ عرضها، فتلك كانت فرصتي الوحيدة آنذاك للخروج مِن عمل لن يوصلني إلى أيّ مكان.

أخَذَت لي صديقتي موعداً مع أبيها، وقصدتُ منزلها وبحوزتي سيرتي الذاتيّة وشهادتي، وتعرّفتُ إليه وإلى أمّها واستقبلاني بحرارة لكثرة كلام إلهام عنّي. فبالرّغم مِن صداقتنا لم نزر بعضنا ربما لنبقي تلك الصداقة بعيدة عن مشاكلنا العائليّة.

وجلستُ مع السيّد وجدي، فسألَني بضعة أسئلة عن مستوايَ العلميّ وثقافتي وطموحاتي، وأخَذَ رقم هاتفي ليُبقيني على علم بالمستجدّات خاصة أنّ هناك معاملات وامتحانات دخول والكثير مِن التفاصيل. وعدتُ بسرعة إلى البيت لأزفّ لأهلي الخبر السار. وأتذكّر أنّني لم أنَم في تلك الليلة وأنا أتصوّر نفسي جالسة وراء مكتب جميل في الوزارة. كم كان سيفتخر بي أهلي وأقاربي وجيراني!

 

وفي الصّباح الباكر، إتصل بي السيّد وجدي ليُلقي عليّ التحيّة وحسب. أجبتُه ببضع كلمات منتظرة أن يقول لي شيئًا يتعلّق بموضوعنا، ولكنّه اكتفى بذلك ومِن ثمّ أقفَلَ الخط. وعاودَ الإتصال بي في بحر النهار ليسألَني عن أحوالي. ومِن ثمّ في المساء ليرى إن كنتُ قد أمضَيتُ نهارًا جيّدًا.

 


بالطبع إستغربتُ الأمر ولكنّي لم أجرؤ على سؤاله عن قصد تلك الإتصالات التي لا معنى لها، وخفتُ أن أبدو فظّة فيّغيّر رأيه بشأن الوظيفة. ولم أقل شيئًا لصديقتي كي لا تخبر أباها ويظنّ أننّي أشتكيه لابنته.

وبقي السّيد وجدي يُخابرني يوميًّا، وفي أيّ وقت يحلو له حتى سألتُه أخيرًا عن وضعي في نيل الوظيفة. عندها قال لي :

 

ـ إصبري يا صغيرتي... إن كنتِ تريدين أن تعملي مع الكبار فعليكِ التحلّي بالصبر... لقد قدّمتُ ملفّكِ للمسؤول عن الموارد الإنسانيّة مع توصية خاصة... الأمر يتطلّب بعض الوقت فكثر هم مَن يريدون هذا المركز... لا تخافي... ستنالينه... فأنتِ مميّزة عندي.

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ ألستِ صديقة إبنتي؟

 

-بلى.

 

والحقيقة أنّني كنتُ قد بدأتُ أشكّ بجدّيّة الرجل، ولولا تأكيد إلهام بأنّه ذو مركز رفيع لما صدّقتُ أنّه سيفعل شيئًا مِن الذي وعَدَ به، لأنّه كان منشغلاً بالإتصال بي طوال الوقت. وبالرّغم مِن إنزعاجي الكبير منه، بقيتُ أجيبُ بتهذيب كلّما رنّ هاتفي مع أنّني كنتُ أودّ وبشدّة تجاهله.

حتى أهلي باتوا يتساءلون عن الذي يُخابرني في أيّ وقت، وكي لا أثير جدلاً لن يفيد أحدًا إخترَعتُ لهم شتّى الحجج.

وأخبرتُ إلهام عن الذي يفعله أبوها فضحِكَت مطوّلاً وقالت:

 

ـ صحيح أنّكِ سخيفة! أدبّر لكِ وظيفة مِن ذهب بواسطة رجل رفيع المستوى وتتذمّرين! إكبري بعض الشيء! وما الضرر إن اتصل بكِ أبي ليُلقي التحيّة؟ هل يقول لكِ أشياءً غير لائقة؟

 

ـ أبدًا.

 

ـ أترَين؟ أبي رجل مرح ومحبّ... ويعتبركِ إبنة ثانية له ويُحبّ الإطمئنان عليكِ... إن كان الأمر يُزعجكِ كثيرًا أستطيع إخباره بذلك.

 

ـ لا! لا تفعلي أرجوكِ... معكِ حق... أبوكِ لا يفعل شيئًا مشينًا.

 

وبعد مرور أكثر مِن شهر على هذا النحو، قالَت لي إلهام إنّ أباها لديه أخبارًا سارّة لي وإنّه ينتظرنا في البيت كالمرّة السابقة. وأضافَت:

 

ـ إرتدي شيئًا جميلاً... مثل ذلك الفستان الأحمر الذي ابتعناه سويًّا.

 

ـ ولماذا أفعل؟

 

ـ قد يكون عندنا ضيوف وسيعلمون أنّكِ ستعملين بالوزارة، وعليكِ أن تكوني أنيقة جدًا وإلا قالوا إنّكِ نلتِي المنصب بفضل علاقتكِ بي.

 

ـ ولكنّ الفستان الأحمر قصير بعض الشيء.

 

ـ ألديكِ أجمل منه؟

 

ـ لدَيّ الفستان الأسود ولكنّني أعَرتُه لكِ... حسنًا... سأرتدي الأحمر.

 


وفعلتُ كما قالَت لي، فلم يكن هناك ما أخشاه خاصة أنّ أمّها ستكون موجودة أيضًا وربما بعض الضيوف. ولكن عندما دخلتُ بيتهم، لم أجد سوى السيّد وجدي وإلهام. سألتُ عن الوالدة فقالا لي إنّها عند أختها لقضاء بضعة أيّام. جلستُ على حافة الكنبة ولم أكن أبدًا مطمئّنة، مع أنّ تصرّفات الأب والإبنة كانت جدّ طبيعيّة. ولكن صوتًا في داخلي قال لي أن أحترس.

 

ورأيتُ مِن طرف عيني إلهام تحمل حقيبة يدها وكأنّها تتحضّر للخروج خلسة وتركي مع أبيها. عندها قلتُ لها:

 

ـ إلهام! هل لكِ أن تعيدي لي الفستان الأسود الذي أعرتُه لكِ الأسبوع الفائت؟ أنا بحاجة إليه غدًا.

 

ـ تريدينه الآن بالذات؟

 

ـ أجل... هيّا لا تكوني كسولة!

 

ولحظة دخَلَت غرفتها، ركضتُ كالمجنونة إلى الباب وخرجتُ مِن البيت ركضًا وكأنّ أحدًا يلحق بي. لم أنظر ورائي ولم أعلم ما كانت ردّة فعل السيّد وجدي.

 

ووصلتُ منزلي لاهثة وعلى شفير البكاء مِن الخوف والغضب. أيُعقَل أنّ صديقتي حاولَت الإيقاع بي وتقديمي لأبيها؟ كلّ شيء كان يدلّ على ذلك. ولكن بعد أن هدأتُ قليلاً بدأَت تساورني الشكوك. هل تصرّفتُ بغباء؟ قد أكون قد تصوّرتُ تلك الأمور وقد يكون ذلك الرجل صادقًا في وعده. ربما إلهام لم تكن تتحضّر للخروج بل أرادَت إخراج شيء مِن حقيبة يدها. يا إلهي! لا بدّ أنّهما هزئا منّي أو إعتقداني مجنونة. وبدأتُ أفكّر بالذي سأقوله لصديقتي اليوم التالي في العمل. كيف سأبرّر تصرّفي؟

 

وعندما رأيتُها قرأتُ على وجهها علامات الغضب. وقبل أن أبدأ بالكلام صَرَخَت بي:

 

ـ أيتّها الغبيّة! ماذا فعلتِ؟

 

ـ أنا آسفة ولكن...

 

ـ ولكن ماذا؟ بسببكِ لن يُوافق أبي أبدًا على زواجي مِن حبيبي!

 

ـ وما دخل زواجكِ بالأمر؟

 

ـ لماذا أخترتكِ أنتِ بالذات؟ كان يجدر بي أن أعلم أنّكِ غير نافعة.

 

ـ غير نافعة لماذا؟

 

ـ كلّ ما كان عليكِ فعله هو أن تكوني لطيفة معه... إنّه رجل وتعلمين كيف هم الرجال.

 

ـ لا... لا أعلم كيف هم.

 

ـ بالطبع لا! لأنّكِ بلهاء! الآن عليّ إيجاد أحد آخر أو طريقة أخرى... إسمعي لا أريد أن تكلّميني بعد الآن! لا تنظري إليّ حتى!

 

ورحَلَت غاضبة لأنّني لم أقبل أن أقدّم نفسي لأبيها ليرضى على زيجتها. لم أصدّق أذنَيَّ! هل مِن المعقول أنّ اناسًا مثلها موجودون فعلاً؟ خلتُها صديقتي وإذ بها تتاجر بي وكأنّني سلعة. حمدتُ ربيّ أنّني استعملتُ فطنتي ومنطقي وإلا لا أدري ما كان قد حصَلَ لي في ذلك المنزل اللعين. وفضَلتُ أن أستقيل مِن وظيفتي لأنّني لم أعد أتحمّل رؤيتها حتى مِن بعيد.

 

وقصدتُ السؤال عن السيّد وجدي، الشيء الذي كان عليّ فعله في وقت سابق، وعلِمتُ أنّه يعمل حقًّا في الوزارة ولكن كموظّف أكثر مِن عاديّ وليس بإمكانه توظيف أحد حتى لو أراد ذلك.

 

وجدتُ عملاً آخرًا بعد فترة، وبقيَت الإتصالات مقطوعة بيني وبين إلهام حتى اليوم. وتعلمتُ أنّ الصّداقات لا تُبنى على بضعة جلسات ورحلات تسوّق، بل على معرفة وطيدة واختيار أكثر دقّة وأكثر تعمّقاً.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button