صديقة أم خائنة؟

تزوّجتُ فريد لأنّه كان أوّل شابٍ عَرضَ عليّ الزواج بعد أن ترمّلتُ، ولأنّه كان مُغتربًا وسيأخذُني بعيدًا عن كلّ ما ومَن أعرفُه وعرَفتُه. كنتُ آنذاك تحت ضغط عائليّ كبير، فلَم يكن مِن الجائز أن أبقى بلا رجل. فبِنظر أهلي، كنتُ سأخوضُ حياة انحلال وأنتقلُ مِن رجل إلى آخر لأجلب العار عليهم. مِن أين أتَت إلى أذهانهم أفكارٌ كهذه؟ لستُ أدري، فهم الذين ربّوني ويعلمون تمامًا أنّني إنسانة خلوقة وهادئة.

لِذا أسرَعتُ بالقبول بِفريد مِن دون أن أتمكّن مِن معرفته جيّدًا. لَم يسأل عنه أحد مِن جانبي، فكان مِن المُستحسَن أن يتمّ الزواج بأقرب وقت كي لا يُغيّر العريس رأيه. تزوّجنا وسافَرنا وأمِلتُ طبعًا بِحياة جميلة وهانئة.

في البدء كان زوجي لطيفًا معي، أعني بذلك أنّه كان يقضي وقته معي في السرير... إلى أن بدأ يملّ منّي شيئًا فشيئًا، خاصّة بعدما أنجبتُ منه طفلاً. عندها، صارَ ينفرُ منّي ويُعيّرُني بِبدانتي، مع أنّ وزني عادَ إلى طبيعته بعد الولادة بِفرق ثلاثة كيلوغرامات فقط. علِمتُ مِن نظراته لي أنّه لَم يعُد يُريدُني، وتأكّدتُ مِن ذلك حين أصبَحَ يغيبُ عن البيت باستمرار.

شعرتُ بِوحدة كبيرة، فلَم أتعرّف إلى أحد في ذلك البلد الغريب بسبب فارق اللغة. فالجدير بالذكر أنّ فريد لَم يُعلّمني ولو كلمة واحدة أجنبيّة. لِذا قرّرتُ بعد حوالي الثلاث سنوات، أن أتعلَّمَ لوحدي كيفيّة التواصل مع سكّان ذلك المكان. بدأتُ أحضرُ الأفلام على التلفاز وأقارنُ الكلمات بالمواقف التي أراها، وركّزتُ على برامج الأطفال حيث الكلمات والعبارات مقرونة بالصّوَر والأغاني.

وبعد فترة، رحتُ أدقُّ باب جارتي لأقول لها بلغتها: "مرحبًا، أنا غريبة ولا أجيدُ اللغة، لكنّني أودّ التعرّف إليكِ." ضحِكَت المرأة وأدخلَتني إلى بيتها وشربنا القهوة سويًّا بِصمت. لن تتصوّروا مدى فرَحي عندما عُدتُ إلى البيت! ولِكثرة سعادتي، ولأنّني أرَدتُ أن يفخَرَ بي زوجي، أخبرتُه عن إنجازي. لكنّه هزئ منّي ومِن ثمّ منعَني مِن زيارة جارتنا. بدأتُ بالبكاء قائلةً:

 

ـ لماذا؟!؟ أنتَ تغيبُ مُعظم الوقت وتتركُني لوحدي! أريدُ التكلّم مع أحد وبأيّة لغة!

 

ـ لدَيكِ إبنكِ وبيتكِ! إلزمي هذا المكان وايّاكِ أن تُبارحيه، أفهمتِ؟!؟

 


لَم أفهَم دوافع فريد ولا منطقه، فما الضرر لو كانت لي رفيقة؟ لماذا هذا الإصرار على عزلي؟ لكنّني بقيتُ أدقُّ باب جانِيت جارتي سرًّا. أحبَّتني تلك المرأة كثيرًا، وصارَت تتركُ لي مفتاح شقّتها في الباب لأدخل ساعة أشاء ومِن دون أن أقف على بابها ويراني زوجي. أحبَّتني وصارَت تعلمُّني بعض الكلمات الضروريّة. فهي كانت تمسكُ غرضًا في بيتها وتقولُ إسمه وأنا اردّدُه وراءها حتى أُحسن لفظه، ومِن ثمّ تنتقلُ إلى غيره. كنّا نمضي ساعات طويلة هكذا، فهي كانت تعيشُ لِوحدها وأنا وحيدة مثلها. وسرعان ما صِرتُ قادرة على تركيب جمل بسيطة وفَهم عبارات حياتيّة. لَم يعرف فريد بشيء طبعًا، فكنتُ قد تعلّمتُ الدّرس.

بعد فترة، بدأتُ أنزلُ السوق لأبتاع بعض الحاجات لوحدي، الأمر الذي زادَني قوّة وأملاً بأن أتأقلَم مع هذا البلد الغريب، وصارَ أصحاب المحلات يعرفونَني ويعرفون أنّني أشتري أغراضي بكمّيّة صغيرة للغاية لآكلها وأستعملها وإبني مِن دون عِلم زوجي. فهذا الأخير لَم يعُد يأتي إلى البيت سوى لينام، لكنّني لَم أرَه يستحمّ في البيت. وكنتُ سأعرفُ السّبب بعد أيّام قليلة.

فذات نهار إستفَقتُ باكرًا وشعرتُ بالملل، خاصّة أنّ فريد لَم يقضِ الليل في البيت، كما أصبَحت عادته مؤخّرًا. خطَرَ ببالي أن أقصد جارتي ومعي قهوتنا. فتحتُ بابها على مهل خوفًا مِن أن أوقظُها لو كانت نائمة، فلَم يحدث أن زرتُها في هكذا وقت. وضعتُ إبريق القهوة على طاولة الصالون وأخذتُ أنادي "جانِيت، جانِيت" بصوت خافِت. لَم ألقَ جوابًا وقرّرتُ العودة إلى البيت حين سمعتُ صوت ماء يتدفُّق في الحمّام. عندها قرّرتُ مفاجأة جارتي والقول لها بِلغتها "حمّامًا هنيئًا". لكن كَم كانت مفاجأتي كبيرة عندما رأيتُها وزوجي في موقف حرج في حمّامها! يا إلهي! خيانة مُزدوِجة! وفي غضون لحظة، أخذتُ هاتفي وصوّرتُ فيديو يُبيّنُ بوضوح الذي يجري. وعُدتُ على مهلي إلى البيت، تاركةً عن قصد القهوة في الصالون.

صحيح أنّني كنتُ أعرفُ أنّ زوجي يخونُني ولكنّني لَم أكن أريدُ رؤيته وهو يفعل! ومع مَن؟!؟ مع المرأة الوحيدة التي صادقتُها! لماذا كلّ ذلك الشرّ؟ أهلي تخلّصوا منّي بِسرعة وزوجي فاسق وصديقتي الوحيدة ماكرة!

بعد حوالي الساعة، دقّت جارتي الباب ولَم أكن أعرفُ إن كنتُ أريدُ رؤيتها أم لا. لكنّني فتحتُ لها لأنظر في عَينَيها الخائنتَين. وهي وقفَت صامتة أمامي حاملة القهوة التي جلبتُها إلى بيتها ثمّ قالَت: "أنا آسفة". أغلقتُ الباب بقوّة بوجهها وسمعتُها تقولُ: "إحترسي، زوجكِ يعلمُ أنّكِ رأيتِنا."

وعندما عادَ فريد أخيرًا، لَم تبدُ عليه أيّة علامة خجَل أو حتى غضَب. لَم يكن يأبه للأمر، بكلّ بساطة. لكن عندما أرَيتُه الفيديو الذي التقطتُّه، فتَحَ عَينَين واسعَتَين ثمّ فكّ ربطة عنقه ولفّها حول رقبتي وبدأ يشدُّ بقوّة. لَم أستطِع الدفاع عن نفسي وغِبتُ عن الوعي. عندما إستفقتُ كنتُ لا أزالُ ممدّدة على الأرض وفريد جالسًا على الكنبة ينظرُ إليّ. ثم قال:

 

ـ لقد حطّمتُ هاتفكِ ولن تحصلي على غيره. لقد تجاوزتِ حدودكِ كثيرًا.... تركتُكِ تعيشين هذه المرّة، لكن إن أعَدتِ الكرّة، فستموتين ولن يعلم أحد بِموتكِ. أفهمتِ؟!؟

 

ومنذ ذلك اليوم، صرتُ كبش محرقة زوجي. صارَ يُعنّفُني بِشراسة وحمَدتُ ربّي أنّ ابني كان يقضي وقته إمّا في المدرسة وإمّا عند أصدقائه.

بقيَت جارتي تدقًّ بابي باستمرار وبقيتُ لا أفتحُ لها. ماذا كانت تُريدُ منّي تلك المرأة؟ كانت تُعاشر زوجي وتدَّعي محبّتي، وكنتُ أكرهُها. لكن ذات يوم، حين كنتُ أضعُ كيس النفايات قرب الباب ليأخذه المسؤول عن المبنى، فتحَت جارتي بابها ووقَفنا قبالة بعضنا بِصمت. تفاجأَت بِرؤية الكدمات على وجهي وأنا نسيتُ أنّني أحملُ آثار الضرب لإعتيادي عليها.

 


ركضَت جارتي وجرَّتني إلى شقّتها وعانقَتني بالقوّة. حاولتُ الإفلات منها في البدء، لكنّ دفء عناقها وصدقه حملَني على البكاء على كتفها.

قدَّمَت لي القهوة وجلَسنا مِن دون أن نتفوّه بكلمة. ثم سألتُها:

 

ـ لماذا؟

 

ـ أنا آسفة.

 

ـ هل ضحكتِ عليّ عندما قلتِ إنّكِ صديقتي؟

 

ـ لا. وسأثبتُ لكِ ذلك.

 

أعطَتني جارتي بطاقة تحملُ إسم وعنوان ورقم هاتف جمعيّة لإغاثة النساء المُعنّفات. ثمّ دخلَت غرفتها وعادَت بهاتف جوّال أعطَته لي قائلة:

 

ـ لقد أخبرَني فريد أنّه حطّمَ هاتفكِ. إتّصلي بالجمعيّة وسأساعدُكِ على الهروب.

 

ـ كيف أصدّقُكِ بعد الذي حصَل؟

 

ـ أنا امرأة مثلكِ ولن أقبل بأن يستمرّ فريد بأذيّتكِ. بعد هروبكِ سأرحل أنا الأخرى. أعدُكِ بذلكِ.

 

عُدتُ إلى شقّتي واتّصلتُ بالجمعيّة وهم أعطوني شخصًا شرقيًّا لأتكلّم معه ويفهم منّي ما أُعاني منه. طلَبَ منّي الرّجل أخذ صورًا لكدماتي وأخذ إفادة شاهد إن كان ذلك ممكنًا. سجّلَت لي جانِيت شريطًا مصوّرًا يُبيّنُ كدماتي بِوضوح، وسجّلَت نفسها وهي تشهدُ عن تعنيفي المستمرّ مِن قِبَل زوجي.

وذات يوم، جاءَت سيّارة "فان" وأخذَتني وإبني وأمتعتنا. ودّعتُ جارتي وبكينا كثيرًا وهي وعدَتني بأنّنا سنلتقي مُجدّدًا.

عشتُ وإبني في مقرّ الجمعيّة لِفترة، وعلّموني صناعة يدويّة في مشغلهم كي أتمكّن مِن إيجاد عمل. في ذلك الوقت، بحثَ فريد عني وعن ولده وعن جارتي، لكن مِن غير جدوى. أظنّ أّنّه وجَدَ أنّ الوضع أفضل هكذا، وتابَعَ حياته مِن دون أن ينسى إخبار أهلي في البلد أنّني إمرأة معدومة الأخلاق وأنّه طردَني بعدما اكتشفَ خياناتي، وهم صدّقوه.

فعندما اتّصلتُ بذويّ على أمَل أن أعودَ وإبني إليهم، نكَروني وهدَّدوني بالقتل لو رأوني يومًا.

أعيشُ اليوم وإبني مع صديقتي جانِيت في شقّة نتقاسم إيجارها بِفضل العمل الذي وجدتُه. لستُ خائفة مِن أن يؤذيني فريد، فذلك البلد واسع للغاية وهو ارتاحَ منّي. إضافة إلى ذلك، إتّصَلَ محامي الجمعيّة به فور إيجادي مكان للسكن وأخبره بأنّ قضيّة ضدّه جاهزة للتنفيذ إن حاوَلَ حتى الاقتراب منّي.

ولولا جانِيت، لكنتُ الآن في عداد الأموات.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button