صداقة غير مشروطة

كان عصام صديقي مِن أيّام الدراسة، ولم تنقطع الصلة بيننا سوى بضع سنوات حين ذهَبَ إلى الخارج للعمل بعد تخرّجنا مِن الجامعة.

وعندما عادَ بعد سبع سنين كان بأحسن حال. فبينما كنتُ موظّفًا بسيطًا أتقاضى راتبًا بسيطًا أيضًا، كان هو قد اشترى منزلاً فخمًا في أفضل حيّ في العاصمة. لم أسأله عن مصدر ماله، فلطالما كان عصام إنسانًا ذكيًّا ومجتهدًا، وظننتُ أنّه وجَدَ خارج بلدنا الفرصة الذهبيّة التي يتكلّم عنها الكثير.

وبالرّغم مِن أنّه لم يُعاود العمل بعد رجوعه، بقيَت أحواله تتحسّن. عندها أبدَيتُ له استغرابي فأجابَني:

 

ـ الأسهم، يا صديقي... الأسهم! أنا أوظّف مالي في الأرزّ والقطن والذهب وأجلس أتفرّج على أرباحي.

 

واكتفَيتُ بذلك التفسير، ولم أعد أتفاجأ كلّما رأيتُه يقود سيّارة جديدة.

 

وتزوَّجَ عصام وأنجَبَ الأولاد، ولكنّني لم أكن محظوظًا مثله بسبب قلّة المال. صحيح أنّ صديقي عَرَضَ عليّ مساعدته مرارًا، ولكنّني بقيتُ أرفض ذلك كي لا أكون مِن هؤلاء المنتفعين الذين كانوا يدورون حوله بحثًا عن الفتات. فكرامتي كانت ولا تزال فوق كلّ اعتبار.

 

وبقيتُ صديق العائلة أقضي معظم وقتي معها، وواكبتُ الأحداث التي أرويها عن كثب وأحيانًا عن عجز.

فثروة عصام بقيَت تتراكم ولم يعد يجد مكانًا لركن سيّاراته التي فاقَ عددها العشرين، وأضطَّرَ إلى اهداء البعض منها للطفَيليّين الذين لم يُبارحوا جانبه، وذلك ليتمكّن مِن جلب الأحلى والأسرع.

 

وذات يوم، اتصَلَت بي زوجته لتعلمَني بأنّ صديقي موجود وراء القضبان بتهمة التجارة بالممنوعات. عندها فهمتُ سرّ تلك الثروة، وحين استطعتُ زيارة عصام عاتبتُه على تورّطه. ولولا قوّة حبّي له لكنتُ قطعتُ صلتي به ولكنّني لم أستطع التخلّي عنه وهو بأمسّ الحاجة إلى صديق.

 

والجدير بالذكّر أنّه دخَلَ السّجن ليحمي أرباب عمله الأقوياء، ليس حبًّا بهم ولكن خوفًا منهم، فلو وشى بهم لكانوا قتلوه هو وعائلته. هكذا تجري الأمور في تلك الأوساط، فمَن يُتاجر بأرواح الناس لا قيمة لحياته.

وكي يستطيع عصام الخروج مِن السجن، كان عليه دفع كفالة طائلة تمكّنه مِن العودة إلى البيت إلى حين موعد محاكمته. لِذا أعطى أخ زوجته وكالة عامة تخوّله سحب ما في حسابه والتصرّف بأشياء أخرى أيضًا. ولكنّ الرجل لم يكن عند ثقته أبدًا. وبدل أن يُنفذّ ما طلَبَه منه صديقي، أخَذَ المال وباعَ كلّ ما استطاع بيعه مِن سيّارات ومنازل، وغادَرَ البلاد. وبفترة قصيرة، صارَت عائلة عصام مِن دون سقف وهو مِن دون أمل بالخروج سريعًا.

 


وانتظَرَ موعد المحاكمة وحصَلَ على خمس سنوات سجن إضافيّة. في تلك الأثناء كنتُ أزور زوجته وأولاده في منزل والدَيها وأهتمّ بحاجاتهم. وفي كلّ مرّة كانت زوجته تشتكي لي ما فعلَه عصام بهم، فهي لم تكن على علم بشيء. صحيح أنّ أخاها هو الذي سرقَهم وتركَهم مِن دون شيء، ولكنّه لم يكن ليفعل ذلك لو لم يدخل عصام السجن بسبب أعماله المخزية. كانت محتارة بشأن إعطاء تفسير لأولادها عن وجود أبيهم في السجن وكيفيّة مواجهة الناس.

 

أنا كنتُ أفكّر بصديقي وسبب تورّطه بتلك التجارة البشعة، فلطالما كان إنسانًا شريفًا وخلوقًا وكنتُ أفتخر بصداقته. إلا أنّني لم أشأ أبدًا تركه كما فعَلَ لاحقًا كلّ الذين استفادوا منه طوال سنوات. فبعد خروجه، لم يجد عصام سوايَ بقربه، وأصابَه إحباط شديد خاصّة أنّ زوجته منعَته قانونًا مِن الاقتراب منها ومِن الأولاد. ولكثرة حسرته، انتكسَت صحّته بشكل خطير ما استلزَمَ نقله إلى المشفى. وتبرّعتُ طبعًا لإعطائه مِن دمي، حين اكتشفوا نزيفًا في بطنه. ولن أنسى ما قالَه لي حينها:

 

ـ أرجو أن يُكسبني دمكَ شيئًا مِن الأخلاق الحسنة التي فقدتُها... شكرًا يا صديقي... لم يعد لي سواكَ... أرجو فقط ألا تتركني بدوركَ.

 

ـ لو أردتُ ذلك لفعلتُ حين اكتشفتُ مصدر رزقكَ... كيف استطعتَ أن تبنيَ حياتكَ على حساب الآخرين؟

 

لم يُجبني وعلِمتُ لاحقًا السبب. فعصام كان قد قرَّرَ أن يُعاود مهنته البشعة بالرّغم مِن أنّه كان يكرهها. ربما كانت تلك بنظره الطريقة الوحيدة لاستعادة ما خسره مِن مال وأصحاب وأهل. فظنّ أنّه إذا عادَ غنيًّا سيستطيع اقناع زوجته بالعودة هي والأولاد، ولكنّه لم يكن يعلم أنّ الناس كلّها ليست مثله. وبدأ مِن جديد ما أوقفَه خلال سنوات السجن، بفضل أرباب عمله الذين أرادوا مكافأته على صمته.

 

ولكنّ الأحوال كانت قد تغيّرَت، وكذلك قدرته على العمل بسبب وعكاته الصحيّة المتتالية. وكلّ ما استطاع فعله هو الهرب بين الحين والآخر مِن مداهمات الشرطة.

وفي كلّ مرّة كان يتصل بي عصام ليقول إنّه مختبئ في هذا المكان أو ذاك، وليطلب منّي أن آتي لآخذه إلى مكان آخر. ولم أعد أكلّمه بشأن عمله، لأنّني علمِتُ أنّ لا جدوى مِن ذلك وفضّلتُ اعتباره صديقًا قديمًا يحتاج إليّ.

ولكنّه عاد إلى السجن، ليس بسبب تجارته بل بسبب زوجته التي اشتكَت عليه بعدما حاول رؤية أولاده بقوّة السلاح. كان قد جلَبَ مسدّسًا وتوجَّه إلى حيث هي عائلته، وعندما رفضَت زوجته إدخاله، شَهَرَ عليها السّلاح وبدأ يصرخ كالمجنون. ولم يُغادر المكان قبل أن يتمكّن مِن تقبيل أولاده الذين ارتعبوا لرؤية أبيهم يُلوّح بمسدّس أمامهم. وفور خروجه مِن البيت، اتصَلَت زوجته بالشرطة التي لم تتأخّر في القبض على الذي كانت تبحث عنه منذ فترة. ومرَّت سنوات أخرى في السّجن، وحين أُطلِقَ سراحه كان عصام قد أمسى حطام رجل، ولم يعد باستطاعته لملمة نفسه.

وفي تلك الأثناء، كنتُ قد تزوّجتُ بدوري ولم أعد متفرّغًا لمغامرات صديقي، ولم أعلم أنّ حالته الصحيّة ساءَت بشكل فظيع.

وذات ليلة جاءَني اتصال مِن زوجته تقول:

 

ـ مات صديقكَ.

 

سَكَتُّ مطوّلاً وسألتُها:

 

ـ بماذا تشعرين الآن؟

 

ـ لستُ أدري... وأنتَ؟

 

أنا؟ أنا فقدتُ صديقًا عرفتُه في شتّى مراحل حياته، شاهدتُه وهو فتى يمرح ويضحك لكلّ صغيرة وكبيرة، ومِن ثم شابًا طموحًا ذهَبَ إلى الخارج ليَبني مستقبلاً يفتخر به هو وأهله، ومِن بعدها واكَبتُه وهو غنيّ يُفرّق الحسنات مِن تجارة اسمها الموت. وأخيرًا رأيتُه ينحدر نحو الهاوية حتى انتهى حيث لا عودة.

ولكن في كلّ تلك المراحل، لم أكفّ عن رؤية الرّجل الذي أحببتُه. وفي كلّ ليلة وقبل أن أنام، أصلّي لراحة روحه، وأرجو الله أن يُسامحه ويغفر له الخطايا التي دنّسَت قلبه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button