شبَه مفيد

منذ سنوات والناس تخلطُ بيني وبين أختي هدى. فبالرغم مِن السنتَين اللتَين تفصلان بيننا، كان الشبَه ولا يزال كبيرًا. أذكرُ أنّنا كنّا ندّعي أنّنا توأمان ونلعبُ أدوارًا مُضحكة وبريئة على مَن حولنا. لكنّ الحياة أبعدَتنا عن بعضنا عندما تزوّجَت هُدى وصارَ لدَيها إنشغالات زوجيّة واجتماعيّة. فالجدير بالذكر أنّ صهري كان رجلاً معروفًا، يُريدُ الكلّ التقرّب منه ودعوته إلى بيته أو أفخَم المطاعم. وبالطبع كان يصطحبُ معه أختي، وكنتُ أفتخرُ لرؤية صوَرهما في الصّحف والمجلات. لَم يُرزقا أطفالاً، الأمر الذي ملأ قلب هُدى بالحزن. فكلّ مال وجاه الدنيا لَم يتمكّنا مِن ملء فراغ باتَ ثقيلاً عليها.

أمّا في ما يخصُّني، فبقيتُ عزباء ولَم أشعر بالحاجة إلى تأسيس عائلة، ربمّا بسبب انشغالي بفنّي. فأنا رسّامة ولدَيّ معرض صغير ولكن معروف، وقد نالَت أعمالي إعجاب الكثيرين.

زرتُ هُدى مرارًا في بيتها الفخم الشبيه بالقصر، لكنّ المكان كان باردًا. فلَم أشعر بأنّ أحدًا يسكنُ بين تلك الجدران، بل وكأنّني وسط معرض للمفروشات أو أتصفّح إحدى مجلات للديكور المنزليّ. في البدء، ردَدتُ الأمر إلى عدَم وجود أولاد، لكنّ ذلك لَم يكن السبب. فكان هناك الحزن الدائم الذي سكَنَ عَينَي هُدى، وسكون غريب في منزل وسط المدينة. كان المرء يخالُ نفسه في بيت في أعلى الجبال أو في قرية بعيدة عن الناس. إضافة إلى ذلك، كان صهري دائم الإنشغال، ولا أذكرُ أنّني رأيتُه في منزله سوى مرّة واحدة. ربمّا كان توقيت زياراتي هو السبب، أم أنّ شيئًا آخر يحصلُ لأختي وزوجها؟

لَم أشغل بالي كثيرًا لإيجاد جواب على هذا السؤال، فقد كنتُ أحضّرُ لمعرض في بلد أوروبيّ، وكنتُ أنوي طبعًا رفع إسم بلدي وإسمي عاليًا، ليعرف الجميع أنّ فنّاني الشرق قادرون كسواهم على خلق فنّ رائع.

غادَرتُ إلى أوروبّا وعدتُ سعيدة للغاية بنتيجة المعرض، فقرّرتُ إهداء أختي وصهري إحدى لوحاتي. لِذا ذهبتُ لزيارة هُدى لأرى أين سأعلّقُ اللوحة التي أرَدتُها مفاجأة.

 


في طريقي، شعرتُ بصداع حاد، لِذا دخلتُ الصيدليّة الموجودة في أوّل حيّ منزل أختي لأبتاع أقراصًا للصّداع. لكن فور دخولي، صرَخَ بي الصيدليّ:

 

ـ لن أُعطيكِ قرصًا واحدًا!

 

ـ عفوًا؟ ألستُ في صيدليّة وأنتم تبيعون الأدوية هنا؟

 

ـ بلى، ولكن لا أدوية لكِ! ألا يكفيني ما حصَلَ لكِ في المرّة السابقة يا سيّدة هُدى؟ لو كنتُ أعلمُ أنّكِ تحاولين الإنتحار، لطردتُكِ على الفور! لا يهمُّني إن كان لدَيكَ وصفَة طبيّة أم لا، فضميري لا يسمحُ لي بِتحمّل مسؤوليّة موتكِ.

 

ـ ولكن لستُ...

 

ـ عليكِ رؤية طبيب نفسيّ، فالحياة ليست سيّئة لِدرجة وضع حدًّ لها. أريدُكِ أن ترحلي مِن فضلكِ.

 

خرجتُ مِن المكان مهمومة لأقصى درجة. هكذا إذًا... أختي حاولَت الإنتحار... صحيح أنّني كنتُ قد لاحظتُ حزنها، ولكنّني لَم أتصوّرها تعيسة إلى هذه الدّرجة! ولماذا لَم تُطلعني على حالتها أو تطلب مُساعدتي؟

ركضتُ بسرعة إلى هُدى، غير عارفة ما سأقولُ لها، وهي فتحَت لي ببسمة غير مُقنِعة. وعندما جلَسنا وبدأنا نشرب القهوة، قلتُ لها مِن دون مقدّمة:

 

ـ علِمتُ بمحاولتكِ الإنتحار.

 

ـ أنا لَم... أعني...

 

ـ لا داعٍ للنكران، أنا أختكِ الوحيدة ومِن المفروض أن تلجئي إليّ حين تضيقُ الدّنيا بكِ. أليس ذلك ما تنتظرين منّي أنّ أفعله إن كنتُ تعيسة؟

 

ـ بلى.

 

ـ قولي لي إذًا ما يُتعبُكِ وسأساعدُكِ.

 

ـ لا أحد بإمكانه مُساعدتي. لا أريدُ إقحامكِ في متاعبي. عيشي حياتكِ واتركيني بحالي... أتركيني أموت.

 

ـ لن يحصل ذلك. إسمعي، تعرفين كم أنا عنيدة، فمِن الأفضل أن تبدئي بالكلام الآن وتُريحي نفسكِ. لن أتراجع!

 

ـ حسنًا، حسنًا. دعيني أُقفلُ باب الصالون أوّلاً.

 

قامَت هُدى مِن مكانها وأقفلَت الباب بإحكام بعد أن نظَرَت يمينًا وشمالاً في الرواق. ثمّ أضافَت: "هنا، الحيطان لها آذان...

لستُ سعيدة بزواجي. هذه هي القصّة، أعني باختصار.

 

ـ لِدرجة تمنّي الموت؟ ربمّا لو أنجبتِ...

 

ـ لا! فلقد تعمّدتُ عدَم الإنجاب، فكيف لي أن آتي بمخلوق إلى الدّنيا ليتعذّب أو ليكبر ويصبح مثل أبيه.

 


ـ إعتقدتُ أنّ صهري رجل طيّب وعادل وأنّه يُعاملُكِ مُعاملة حسنة.

 

ـ ... بل هو وحش معدوم الأخلاق ولا يتمتّع بذّرة محبّة! لقد عمَدَ ذلك الرّجل إلى تحطيمي وإذلالي ولقد نجَحَ بذلك تمامًا. لدَيه عشيقات وبالكاد أراه في البيت، فهو يقضي لياليه معهنّ. ووصَلَ الأمر به منذ سنوات لِنَقلي إلى غرفة ثانية حتى يتسنّى له جَلب مَن يريد إلى سريره.

 

ـ يا إلهي ما هذا الوحش؟!؟ طلقّيه! تعالي وعيشي معي!

 

ـ وعدَني بقتلي لو تركتُه، وأعلمُ أنّه سيَفي بوعده، فلدَيه أصدقاء وشركاء... كيف أصفُهم؟ خطيرون. فكيف إذًا صارَ بهذا الثراء؟ مِن جراء صفقات غير شرعيّة. لا... هو لن يقوم بأذيّتي بنفسه، بل سيوكل غيره بذلك.

 

ـ تعالي معي الآن! هيّا! لا تأخذي شيئًا معكِ!

 

ـ يا ليت الأمور بهذه البساطة. إذهبي أنتِ وأكملي حياتكِ وكأنّكِ لَم تعلَمي بشيء. الذنب ذنبي وعليّ دفع الثمَن لوحدي.

 

عدتُ إلى بيتي لكنّني لَم أكن لأترك أختي بين يدَي ذلك الرّجل البغيض. لِذا، قرّرتُ الذهاب إليه للتكلّم معه ومَن يدري، ربّما إقناعه بالسماح لهُدى بالرحيل. وفي اليوم التالي، قصدتُ مقرّ عمل صهري، أي شركته الضخمة المؤلّفة مِن طوابق عديدة وسط العاصمة. لَم أكن أعلم أبدًا ما ستكون ردّة فعله حين يراني، فنحن لَم نلتقِ مِن سنين عديدة، فكلّما أزورُ أختي، يكون هو مشغول بعمله، أو كما أخبرَتني هُدى، بعشيقاته الكثيرات.

دخلتُ الشركة وقلبي يدقّ: ماذا لو لَم يسمحوا لي بمقابلة صاحب الشركة مِن دون موعد؟ لكنّني تفاجأتُ بترحيب واضح، وفُتِحَت لي كلّ الأبواب، بما فيها باب مكتب صهري. وعندما رآني واقفة أمامه صرَخَ بي:

 

ـ ماذا تفعلين هنا يا هُدى؟!؟ تعلمين أنّني لا أحبُّ أن تأتي إلى مقرّ عملي، فأنا رجل مشغول للغاية لا وقت لي لزيارات زوجتي.

 

سكتُّ لبرهة لا أدري ماذا أقولُ، فكان مِن الواضح أنّه خالَني أختي لأنّه، وبكلّ بساطة، لا يرى زوجته إلا نادرًا، أي حين يخرجان لحضور المناسبات الإجتماعيّة. وأظنّ أنّه، حتى وهو برفقتها، لا ينظرُ إليها بل إلى النساء الأخريات. فبالرّغم مِن الشبَه الكبير بيني وبين هُدى، فإنّ أيّ زوج مُحبّ يستطيع التفريق بيننا، على عكس الغرباء، كالسكريتيرة التي أدخلَتني.

ولأنّني كنتُ غير مُحضّرة لهكذا موقف، ولا أريدُ توريط أختي، أجبتُه بصوت ناعم: "كنتُ مارّة مِن هنا وخطَرَ ببالي إلقاء التحيّة عليكَ. أتمنّى لكَ يومًا سعيدًا".

خرجتُ بسرعة قبل أن ينتبه صهري أنّني لستُ زوجته، ولأنّه قال لي قبل أن أُدير ظهري وأرحل: "وما هذه الملابس وتصفيفة شعركِ الجديدة؟ عودي إلى مظهركِ القديم، فلَن تُغريني هكذا."

بعد ذلك اللقاء، تراءى لي أنّ بإمكاني استغلال شبَهي الكبير بهُدى لإنقاذها. لِذا، أعَددتُ خطّة إفتخرتُ بها كثيرًا. إتّصلتُ بالمُحامي الذي يهتمّ بأعمالي وبصديقة لي تعمل في إذاعة تلفزيونيّة وأخرى بشبكة تواصل إجتماعيّ، وشكرتُ ربّي أنّ فنّي جلَبَ لي معارف عديدة. بعد ذلك، ذهبتُ إلى بيت هُدى وطلبتُ منها تركي في صالونها لمدّة نصف ساعة. مِن دون أن تطرَح عليّ أيّ سؤال، قبِلَت معي مِن كثرة يأسها واعتيادها على تنفيذ ما يُطلب منها.

عندما صِرتُ لوحدي، ركّزتُ كاميرا هاتفي وجلستُ بعيدة عنها بعض الشيء. كنتُ قد ارتدَيتُ ملابس كالتي ترتديها هُدى، وصفّفتُ شعري مثلها ليعتقد الجميع وخاصّة زوجها، أنّني هي. وبدأتُ أسجّل وأنا أقول:

 

ـ إسمي هُدى...، أنا زوجة...، رجل الأعمال المعروف. أسجّل هذا الفيديو لأنّني خائفة مِن زوجي، فهو يُسيء مُعاملتي ويُهدّدني بالقتل لو تركتُه. لدَيه أصدقاء مُجرمون وأعرفُ أسماءهم. لدَيه أيضًا عشيقات أعرفُ أيضًا أسماءهنّ وأسماء أزواجهنّ. وأعرفُ أنّ زوجي لدَيه أعمال غير شرعيّة وبإمكاني تعدادها بالتفصيل. إن حصَلَ لي أيّ مكروه، مِن أيّ نوع، حتى لو كان حادثًا بسيطًا أو بريئًا، فسيكون لزوجي دخل فيه. لِذا، سأسلّمُ هذا الفيديو وظرفًا يحتوي على كلّ المعلومات التي ذكرتُها أعلاه إلى محامٍ وإعلامية وناشطة على شبكات التواصل الإجتماعيّ. فلَن أقبَلَ بأن أموت مِن دون أن يُعاقَب زوجي وشركاه على الجريمة. لن يذهب دمي سدىً.

 

عند انتهائي مِن التصوير، أدخلتُ أختي الصالون وقلتُ لها: "ستكونين حرّة بعد وقت قصير". هي لَم تفهَم قصدي طبعًا، واكتفَت بالإبتسام وكأنّ ما أقولُه لا يُمكنه أن يحصل. أجبرتُها على أخذ بعض الأمتعة والمجيء معي إلى بيتي. قبِلَت معي لأنّها رأَت مدى إصراري ولأنّها تعِبَت مِن الحياة.

سجّلت الفيديو على قرص مُدمج، وبعثتُه إلى شركة صهري في ظرف مكتوب عليه: "خاص جدًّا." ورسالة داخله تقول: "ستطلّقني على الفور وتُخصّص لي نفقة شهريّة كبيرة لِمدى حياتي التي أرجو أن تكون طويلة. فلو حدَثَ أيّ شيء لي، ستقضي باقي أيّامكَ في السّجن، ناهيكَ عن الفضيحة التي ستُلازمكَ! سيتّصلُ بكَ المحامي قبل حلول المساء. لقد تركتُ البيت، وسأبعثُ مَن يأتي لي بأمتعتي فور صدور الطلاق. ولو كنتُ مكانكَ، لبدأتُ أصلّي بألا يحدث لي شيء، حتى ولو كان قضاءً وقدرًا."

وبالفعل إتصّل المُحامي بصهري ليتفّق معه على طلاق أختي بعدما أقنعتُها بِتوكيله. صحيح أنّني لَم أكن أملكُ أيّ دليل على أعمال زوج أختي المشبوهة، وأنّ الظرف الذي تكلّمتُ عنه في الفيديو لَم يكن موجودًا، إلا أنّ صهري لَم يكن متأكّدًا مِن ذلك. على كلّ حال، ظهور الفيديو وحده كان كافيًا لتدميره ولَفت أنظار الشرطة إليه. لِذا، أسرَعَ زوج أختي بتطليقها ودَفع نفقة لها مكّنَتها على العَيش بكرامة... معي في البيت.

وعادَت البسمة إليها، وعُدنا سويًّا كما في صغرنا. صحيحٌ أنّ خوفًا دفينًا مِن زوجها بقيَ ينتابُها، إلا أنّني لن أدَع شيئًا يحصلُ لها أبدًا ما دمتُ على قَيد الحياة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button