شبح كاد أن يُدمّر حياتي!

ما جذبَني الأكثر إلى سامية، كان حزنها على زوجها الذي ماتَ بحادث سيّارة بعد أقل مِن سنتَين على زواجهما. إلا أنّني لم أكن أعلم آنذاك أنّ ذلك كان سيتسبّب بخراب زواجنا نحن الإثنَين.

كانت سامية في الثامنة والعشرين مِن عمرها. كانت حقًّا جميلة، وكانت عَيناها الواسعَتان تحملان نداء فسّرتُه صرخة إغاثة كان عليّ الإستجابة لها. ففي قلب كل رجل هناك فارس نائم ينتظر فرصة لإنقاذ فتاة أو امرأة، وضمّها إلى صدره قائلاً: "لا عليكِ يا حبيبتي... ستكونين بأمان معي".

لِذا عملتُ جهدي للترفيه عن سامية، ولأثبت لها أنّ الحياة لا تزال جميلة وتستحقّ أن تُعاش، حتى لو غادَرَها الأحبّ إلى قلبنا. ومع مرور الأيّام، شعرتُ بتبدّل واضح بطبع حبيبتي، إذ صارَت أكثر مرحًا وتفاؤلاً. واستطعتُ أخيرًا أن أعرض عليها ربط مصيرَينا ببعضهما. تلبّكَت المسكينة وطلَبَت وقتًا اضافيًّا للتفكير بالموضوع، إلا أنّني لم أعد قادرًا على العيش بحالة تأرجح وأصرَّيتُ عليها أن تعطِني جوابها في الحال. إبتسمَت لي سامية وأجابَت: "نعم، أنا موافقة". كنتُ أسعد رجل في الدنيا، وأذكر أنّني حملتُها بين ذراعيَّ ودرتُ بها إلى أن داخَت. ثمّ قبّلتُها بحرارة وبدأنا بترتيبات الزفاف. وبعد أقلّ مِن شهرَين كنّا متزوّجَين وسعيدَين!

سكنّا في شقّة لطيفة زيّنَتها سامية كما يحلو لها، وعدتُ إلى عملي بعد انتهاء شهر العسل. الكلّ حسَدَني على سعادتي التي كانت ظاهرة للعيان، ونصحتُ الجميع بالإسراع بالزواج وعدم إضاعة الوقت كما حصَلَ لي.

 


إلا أنّ سعادتي هذه لم يكن مكتوبًا لها أن تدوم، وذلك بسبب شبح جاء ليعيش معنا. فزوجتي لم تكن قد نسيَت زوجها الأوّل تمامًا، بل حفظَت له في قلبها مكانًا لم أكن على علم به. فقد عادَت تأتي على ذكر أسامة زوجها المرحوم في كل وقت ومكان، الأمر الذي توقّفَت عن فعله منذ أن أُغرِمَت بي. هل كانت لا تزال تحبّه ولم تشأ آنذاك خدش شعوري، أم أنّ الزواج أيقَظَ فيها مشاعر قديمة؟

صبرتُ كثيرًا وهي تخبرني بما حدَثَ لها ولأسامة في ذلك المطعم حيث كنّا جالسَين، أو على تلك الطريق حيث كنّا مارَين إلى أن أصبَحَ الأمر لا يُطاق. حتى الأكل كان يُذكّرها بزوجها الأوّل، وشعرتُ بأنّنا لم نعد لوحدنا بل أنّ أسامة جاء ليسكن معنا ويُرافقنا أينما ذهبنا. شعرتُ أيضًا بالخجل مِن رفاقي وأهلي، حين كانت سامية تروي لهم عن أسامة، بينما هم ينظرون إليّ بمزيج مِن الأسف والشماتة.

أخيرًا قرَّرتُ التكلّم مع زوجتي بالأمر، وطلبتُ منها نسيان الماضي بصورة نهائيّة لأنّ الوضع لم يعد يُحتمَل، فاعتذرَت عن تصرّفها وأكّدَت لي أنّها لم تكن تعي مدى انزعاجي، واعدةً بألا يتكرّر الأمر.

إلاّ أنّها قالَت لي ذلك لإسكاتي وطمأنتي فقط، وهذا ما كنتُ سأكتشفه لاحقًا. فبعد هدنة دامَت حوالي الشهر، بدأتُ ألاحظ على زوجتي تصرّفات غريبة. كانت سامية وكأنّها تكلّم سرًّا شخصًا غير موجود. كانت تومي بيدها وتهمس له، وتدّعي بعد ذلك أنّها تتمتم أغنية أو تبعد عنها ذبابة. ولأنّني لستُ غبيًّا، فهمتُ طبعًا أنّها تتحاور مع أسامة، باذلة جهدها كي لا أنتبه للأمر. حتى خلال نومها، كانت سامية تهتف باسم أسامة وتقول له: "دعني وشأني، أرجوكَ". إحترتُ حقًا في أمري، إذ لم أعد قادرًا على التحمّل مِن جهّة، ومِن جهّة أخرى كنتُ أشعر بيأس سامية حيال ما يجري، فطلبتُ رأي صديق لي نصحَني بأخذ زوجتي إلى طبيب نفسيّ.

وبعد أن تمكّنتُ مِن إقناع سامية بمرافقتي إلى مختصٍ، جلسنا أمامه وشرحتُ له وضعنا. طمأنَنا الطبيب قائلاً إنّ الفراق صعب على البعض، خاصّة إن كان الأمر متعلّقًا بالموت، ووعدَنا بأن يفعل جهده كي تنسى سامية الماضي وتعيش معي حاضرها. وباتَت سامية تذهب مرّتين في الأسبوع لوحدها إلى الطبيب النفسيّ. وبعد أشهر طلَبَ أن يراني في عيادته. وهذا ما قالَه لي:

 

ـ أنا آسف سيّدي، لكنّني لم أحرز أيّ تقدّم في حالة زوجتَكَ... أنا محتار بأمرها، فقد كان عليها أن تتحسّن ولو بعض الشيء... فكرّتُ مليًّا بالموضوع، واستنتجتُ أنّها لم تخبرني كل ما عليّ معرفته لمساعدتها. إنّها تخفي عنّي معلومات مِن دونها لا أستطيع معالجتها.

 


خرجتُ مِن العيادة مهمومًا، وقرّرتُ التحرّي بنفسي عن الأمر كي أستعيد السعادة التي بالكاد ذقتُ طعمها.

قصدتُ المنزل الزوجيّ القديم لسامية، وبدأتُ أسأل الجيران عن أسامة. البعض رفَضَ التكلّم معي، والبعض الآخر أعطاني معلومات مُبهمة لم تفِدني بشيء. وحين كنتُ مغادرًا، ناداني الناطور:

 

ـ يا أستاذ... أراكَ تسأل سكّان المبنى عن المرحوم أسامة وزوجته... ربمّا أستطيع مساعدتكَ.

 

ـ يا ليتكَ تفعل... قُل لي ما تعرفه وسأكافئكَ.

 

ـ العفو يا أستاذ... قد أعرف الكثير، فشقّة السيّد أسامة تقع في الطابق الأوّل ونوافذها تطلّ على مسكني المتواضع... أي أنّني أستطيع سماع ما يدور فوقي.

 

ـ تابع مِن فضلكَ.

 

ـ كان السيّد أسامة صعب المزاج يصرخ بالناس وبزوجته لأتفه سبب، وكانا يتشاجران كثيرًا. بالطبع كان الزوج يفوز دائمًا بالجدال بسبب مَيله للعنف... أعني...

 

ـ كان يضرب سامية؟!؟

 

ـ صحيح يا أستاذ، لكنّها كانت تصبر دائمًا وتحاول إرضاءه حتى يهدأ لأنّها كانت تحبّه كثيرًا. وحين ركبا السيّارة في ذلك اليوم المشؤوم، كانا أيضًا يتشاجران. وأذكر أنّني قلتُ في نفسي إنّ مصيبة ستحل... وهي حصلَت.

 

ـ تقول إنّ سامية كانت معه في السيّارة عندما حصَلَ الحادث وماتَ الرجل؟!؟

 

ـ أجل يا أستاذ... الكلّ على علم بالأمر.

 

أعطَيتُ الناطور بعض المال، وأسرَعتُ إلى البيت لمواجهة زوجتي وسؤالها لماذا لم تخبرني أنّها كانت مع زوجها لحظة حصول الحادث. نظَرَت سامية إليّ بحزن عميق، وبكَت كثيرًا ثمّ قالَت لي:

 

ـ صحيح ذلك... سامحني حبيبي على عدم بوحي بالحقيقة، إلا أنّني أشعر بذنب لا مثيل له ولم أستطع مشاركتكَ ما أحاول محوه مِن ذاكرتي.

 

ـ أنا زوجكِ الحبيب وتستطيعين قول أيّ شيء لي... أقسَمتُ على حمايتكِ مِن كلّ أذى حتى لو أتى منكِ.

 

ـ في ذلك اليوم، كنّا في السيّارة نتشاجر كالعادة، وبدأ أسامة يقود بسرعة فائقة. حاولتُ تهدئته إذ كان مِن الواضح أنّنا سنصطدم بشيء لو تابَعَ هكذا، إلا أنّه بقيَ يُسرع ويصرخ ويُهدّد. سكتُّ آملة أن تخفّ وتيرة الشجار، وهو نظَرَ إليّ قائلاً: "أعلم أنّكِ تتمنّين موتي... أعلم أنّكِ تكرهيني ضمنًا وتحلمين باسترجاع حرّيتكِ... سأخلصكِ منّي على الفور، لكن إعلمي أنّني سأظلّ موجودًا معكِ أينما ذهبتِ ومهما فعلتِ، خاصّة لو استبدَلتِني بآخر." وبعد انتهائه مِن جملته، فكَّ حزام الأمان الذي كان يحميه، وداسَ على المسرّع وأنا بدأتُ بالصّراخ. ومِن بعدها سادَ سكوت رهيب، واستفقتُ بالمشفى حيث قالوا لي إنّ زوجي ماتَ على الفور. أمّا أنا، فأصبتُ بكسور خفيفة فقط. ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر بالذنب على ما حصَلَ، فزوجي قتَلَ نفسه بسببي وأمام عَينيَّ. أنا مجرمة! وها هو يُطاردني ليلاً نهارًا.

 

ـ لستِ مجرمة، بل هو كان إنسانًا مجنونًا. كان يُعنّفكِ باستمرار، وأنا متأكّد مِن أنّه أنهى حياته ليستمرّ بتعذيبكِ مدى حياتكِ. فقد كان مِن الواضح، على الأقل بالنسبة إليه، أنّ يومًا سيأتي وتتركينَه وتصبحين حرّة منه.

 

وبهذه المعلومات الجديدة إستطاعَ الطبيب النفسيّ معالجة سامية، وإزالة شعورها بذنب لم تقترفه بل قامَ به إنسان سكَن قلبه الشرّ والأذيّة. وبعد سنة عادَت إليّ البسمة بعد أن تحسّنَت زوجتي بشكل ملحوظ، واستطَعنا التفكير بالإنجاب.

هل سامية نسيَت كليًّا أسامة الذي لعِبَ بعواطفها، وأساءَ معاملتها ومِن ثمّ انتقَمَ منها بقتل نفسه لربطها به إلى الأبد؟ لستُ أدري، لكنّني متأكّد مِن شيء واحد وهو أنّني لن أدع شبحًا يُدمّر حياتي الزوجيّة، فحبّي لسامية أقوى بكثير مِن كره أسامة لها ولنفسه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button