سر عائلي مُميت (الجزء الثاني)

غضِبتُ مِن أهلي كثيرًا ولَم أودِّع عمّتي حين عادَت إلى الولايات المُتّحدة. ذُهِلتُ كيف أنّ الأهل والأقرباء وحتى بعض الجيران كانوا قد حفظوا ذلك السرّ لِسنوات طويلة، وأنّني لَم أشكّ بِشيء على الإطلاق، فشعرتُ وكأنّني بالفعل مُغفَّل.

بقيتُ أُفكّرُ بِماهر حتى تخرَّجتُ مِن جامعتي، فأبدَيتُ رغبتي بالتخصّص في أمريكا. واختَرتُ ولاية بعيدة كلّ البُعد عن عمّتي قصدًا كي يطمَئنّ بال أهلي، لكنّني كنتُ أنوي التعرّف إلى أخي، الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه محو شعوري بالوحدة.

أخذتُ عنوان عمّتي مِن إحدى الرسائل القديمة التي كانت قد بعثَتها لوالدي، فهي قالَت إنّ ابنها يسكنُ وزوجته بالقرب منها. للحقيقة، لَم أُصدِّق على الإطلاق أنّ ماهر يُريدُ قتلي، فقد يكون صحيحًا أنّه نوى أذيّتي حين ولِدتُ، إلا أنّه كان مُجرَّد فتى أرادَ استعادة مكانته كابن وحيد. وحتى لو كان بالفعل ضروريًّا أن يخضَع لِعلاج نفسيّ، فقد كان مِن المُحتّم أن يكون قد شفى الآن. لَم أستغرِب كثيرًا كلام عمّتي المؤذي عنه، فهو كان في آخر المطاف ابن سيّدة أخرى، وكنتُ واثقًا مِن أنّها لَم تُحبّه حقًّا بل قبِلَت به كَي لا تكبُر لِتصبَح امرأة وحيدة.

ودَّعتُ الجميع واعدًا إيّاهم بأنّني سأنجَح بتفوّق، وأعودُ إلى البلَد لأُداوي أبناء وطني، وأنّني سأحترِس جيّدًا مِن المخاطر الموجودة في الغربة. ضحِكتُ في سرّي، إذ كنتُ أنوي العودة مع أخي مُثبِتًا لهم أنّهم أخطأوا بإبعاده، أو بالأحرى نفيِه إلى تلك القارّة البعيدة كما قد يفعل الناس بِحيوان سام أو خطِر. يا إلهي... كيف فعلوا ذلك بِولَد صغير؟ ألَم يحسبوا حساب مشاعره، حين أدرَكَ أنّه غير مرغوبٌ به، وأنّ الذَين أنجباه تخلّصا منه مِن أجل ابنهما الآخَر؟ للحقيقة، هما مَن يحتاجُ إلى علاج وليس هو... أو ذلك الطبيب النفسيّ الذي شخَّصَ لِماهر مرضًا خطيرًا، أما كان يجدرُ به أن يُشطَب مِن لائحة الأطبّاء ويُمنَع مِن مُزاولة المهنة؟

حين وصلتُ جامعتي في الولايات المُتّحدة، قصدتُ غرفتي في حرَمها حيث وضعتُ حقائبي وبدأتُ أُخطّطُ لِسفَري إلى ماهر. كانت الدّروس ستبدأ بعد أسبوعَين، فكان لدَيّ مُتّسَع مِن الوقت للنقاش مع أخي وتصفية القلوب. فتَّشتُ عبر الإنترنِت عن رقم هاتف أخي بواسطة اسمه والمدينة التي يسكنُ فيها، واتّصلتُ به على الفور. أجابَت امرأة أمريكيّة استنتَجتُ أنّها زوجة أخي، فقلتُ لها بالإنكليزيّة:

 

- هل لي أن أتكلَّم مع ماهر مِن فضلكِ؟ أنا أحَد أفراد عائلته.

 

- هو ليس موجودًا في الوقت الحاضر، لكنّه سيعودُ في المساء.

 

- حسنًا... هل لكِ أن تقولي له إنّ سامي أخاه اتّصَلَ به؟ أنا موجودٌ في الولايات المُتّحدة لكن في ولاية بعيدة عنكم. هذا رقمي، فإن كان يودُّ التحدّث معي سأكون بالانتظار.

 

- أنتَ سامي؟؟؟ يا إلهي... أخبرَني ماهر عن وجودكَ ولَم أُصدّقه بل خلتُ...

 

- أجل، إنّها قصّة طويلة ومُعقّدة... أرجو فقط أن يقبَلَ أخي التحدّث معي.

 

إنتظرتُ يومًا بِكامله ردّ أخي على عرضي، وكدتُ أفقدَ الأمَل حين رنَّ هاتفي وسمعتُ صوت زوجة أخي تقولُ لي:

 

- أنا سوزي... لقد قبِلَ ماهر أن يراكَ... وافِه بعد يومَين على العنوان التالي في تمام الثامنة مساءً.

 


وأعطَتني المرأة عنوان بيتهما، وفرحتُ أن يقبَل ماهر ليس فقط التحدّث معي بل استقبالي في مسكنه، وهي علامة أنّه يُرحِّبُ بي. إستغربتُ أنّه لَم يُكلّمني بِنفسه، وردَدتُ الأمر إلى حرَجه بالتحدّث مع إنسان بالكاد يعرفُه دخَلَ حياته فجأةً. أخذتُ التدابير اللازمة، أي شراء تذكرة سفَر وحجز غرفة في فندق بتلك المدينة، وصبِرتُ حتى يحين اليوم المُنتظَر.

وصلتُ أخيرًا إلى المدينة التي يُقيمُ ماهر فيها ونزِلتُ في الفندق. كنتُ قد أخذتُ ملابسًا تكفيني لِبضعة أيّام، لأنّني رجَوتُ ان أقضي وقتًا مع أخي قبل بدء الدّروس لِنُعوّضَ قليلاً عن السنوات التي أضَعناها.

أخذتُ سيّارة أُجرة وقرعتُ جرَس منزل أخي. فتَحَت لي زوجته وأدخلَتني إلى الصالون حيث كان ماهر جالسًا. صُدِمتُ بالشبَه الموجود بيننا، فابتسَمتُ له مادًّا له يدي لِمّصافحته. وإذ بِماهر ينظرُ باستغراب إلى يدي الممدودة، فسحبَني إليه فجأة لِيُعانقَني بقوّة قائلاً: "كَم انظرتُ هذه اللحظة وحلِمتُ بها يا سامي!". ذرَفنا الدّموع، وشكرتُ ربّي لِجَمعي أخيرًا بالذي تمنّيَتُه موجودًا بِقربي طوال حياتي.

شرِبنا القهوة وأكَلنا الحلوى، بينما أُخبرُه عن حياتي التي لَم يستطِع ماهر مُشاركتي إيّاها، ثمّ رويتُ له ظروف اكتشافي لِوجوده. هو ضحِكَ وقال:

 

- لا أستغرِبُ شيئًا مِن التي ربَّتني، فهي ماكرة وبلا قلب... زوجها أفضل منها فقط لأنّه رجل ضعيف وصامِت، لكنّه يفعلُ ما تُملي عليه زوجته. للحقيقة، لقد عوقِبتُ بِسبب أفعال وأقوال ولدٍ صغير، وبِسبب ذلك الطبيب الغبيّ الذي شخَّصَ لي مرَضًا نفسيًّا خطيرًا... لو حصَلَ كلّ ذلك اليوم، لَفهِموا أنّها مُجرَّد مرحلة عابرة، ولَتصرَّفَ أبوانا بِحكمة أكبَر بإعارتي بعض الأهمّيّة حين أنتَ ولِدتَ... يا للزمَن الباليّ!

 

- قُل لي يا ماهر... كيف كانت حياتكَ وكيف هي الآن؟

 

- كبِرتُ بين بيت عمّتي وعيادة المُعالِج النفسيّ والمدرسة... تألّمتُ كثيرًا مِن بُعدي عنكم، وكان بالطبع ممنوعًا عليَّ الاتصال بكم. سأَلَ عني أبوانا لِفترة ثمّ نسِياني كلّيًّا. بكيتُ كثيرًا ولِمدّة طويلة مِن ذلك الظلم، إلى حين استوعبتُ أنّ عليّ العَيش مع تلك الماكرة وزوجها، فرضَختُ للأمر الواقع. تركتُ المدرسة باكرًا، لأنّ زملائي عرفوا بأمر علاجي الطويل وتنمّروا عليّ، فصارَت حياتي جحيمًا. وجدتُ عمَلاً لدى ميكانيكيّ وتعلّمتُ منه المهنة، وها أنا اليوم أملكُ كَراجًا لا بأس به. ثمّ تعرّفتُ إلى سوزي وتزوّجنا.

 

- أليس لدَيك أولاد؟

 

- لا.

 

ونظرَ ماهر إلى سوزي نظرة عتاب وهي أدارَت وجهها. أسِفتُ لأخي، فكان مِن الواضح أنّه عاشَ حياة صعبة ومؤلِمة، وشعرتُ بِذنب كبير، ففي آخِر المطاف كنتُ المسؤول، ولو بِغير إرادتي، عن كلّ الذي حصَلَ له. قلتُ لأخي:

 

- أنا آسِف يا ماهر... لو كنتُ في سنّ يسمحُ لي بالمُدافعة عنكَ لَفعلتُ ذلك، لكنّني كنتُ أجهلُ حتى أمر وجودكَ... عندما أعودُ إلى البلَد، سأُوبِّخُ والدَينا وأُوضّحُ لهما أبعاد ما فعلاه بكَ. للحقيقة، أنوي اصطحابكَ معي لكنّني أعرفُ أنّه مِن المُبكر التكلّم في الموضوع، لذلك لَم أقُل لهما عن نيّتي بِلقائكَ، فأنا أعلمُ تمامًا ما سيكون موقفهما.

 

- هما لا يعلمان بِوجودكَ في هذه الولاية؟

 

- لا يعلَمُ أحدٌ أين أنا، يا أخي.

 

ورأيتُ بسمة عريضة ترتسِمُ على وجه ماهر ثمّ قال:

 


- لن أدَعكَ ترحل ليلاً إلى فندقكَ، فهذا البيت هو بيتكَ ولدَينا الكثير لِنتكلّم عنه في الصباح.

 

- أمتعتي في الفندق يا ماهر.

 

- يوجد كلّ ما يلزمُ هنا.

 

طلَبَ أخي مِن زوجته تحضير غرفة الضيوف وإعطائي ملابس ليليّة، وأخذَني بِيَدي إلى المطبخ حيث حضَّرنا سويًّا وجبة العشاء. كنّا كالولَدَين اللذَين يلعبان بالطعام، فضحكنا وغنَّينا وشعرتُ بِدفء في قلبي لَم أعرِفه مِن قَبل.

أكَلنا وجلَسنا قليلاً معًا، ثمّ دخَلتُ الغرفة وغرِقتُ في النوم والبسمة على وجهي، أنتظرُ بِفارغ الصبر طلوع الضوء لاستكمال تعرّفي إلى أخي.

لكن وسط الليل، شعرتُ بأحدٍ يدخلُ غرفتي، وقَبل أن أعلَم ما يحدثُ، إنتابَني ألمٌ شديدٌ في رأسي، ثمّ غِبتُ عن الوعي. وحين إستَيقظتُ، كنتُ مُقيَّدًا إلى كرسيّ في مكان استنتجتُ أنّه قبو البيت. حاولتُ الصراخ، إلا أنّ فمي كان مُقفلاً بِشريط لاصق. بعد دقائق قليلة، إستَوعبتُ حقًّا ما حصَلَ لي وبدأتُ بالبكاء. فلقد كانوا على حقّ جميعًا وكنتُ، كالأحمق، قد دخلتُ بِرجلَيَّ وجار الذئب. كنتُ مُتأكّدًا مِن أنّني سأموتُ، فلقد قلتُ لِماهر إنّ لا أحَد يعلمُ بِمكان وجودي ولا جدوى مِن انتظار أيّة نجدة.

لكن بِما أنّني أسردُ عليكم قصّتي، فبإمكانكم طبعًا الاستنتاج بأنّني لَم أمُت، والفضل يعودُ إلى سوزي. فتلك المرأة، التي لن أشكُرها كفاية، كانت تعرفُ بأمر كُره ماهر لي بعد أن قضى حياته وفترة زواجه منها وفي رأسه شيء واحد: التخلّص منّي. وعلِمتُ منها لاحقًا أنّها رفضَت الإنجاب لأنّ ماهر أرادَ تسمية ابنه البكر "سامي"، أي على إسمي، وهي خافَت أن يصبَّ كرهه كلّه على ابنها أو يؤذيه. لكن لِنعُد إلى حين كنتُ مُقيّدًا.

دخَلَ ماهر القبو وجلَسَ على كرسيّ بالقرب منّي، وأخَذَ يقولُ لي كَم أنّه فرحٌ بأن يكون أخوه بهذا الكمّ مِن الغباء. فهو لَم يتوقَّع أبدًا أن أقطَعَ مسافات هائلة لأموتَ بين يدَيه. ثمّ أضافَ:

 

- كان يجدرُ بي قتلَكَ آنذاك... لكن ما لنا والماضي، فأنتَ هنا الآن. سأذهبُ إلى عمَلي كي لا يشكّ أحدٌ بي لاحقًا. أمّا أنتَ، فلَن تذهبَ إلى أيّ مكان، بل ستنتظرُني حتى أعود وأتفرَّج عليكَ وانتَ تموت بِبطء. لا داعٍ للصراخ، ففمُكِ مُقفَل وسوزي في عملِها وجدران القبو سميكة كفاية.

 

كان ماهر على حقّ، فالشريط اللاصق كان يمنعُني مِن طلَب النجدة ورباطي مشدودًا للغاية. رحَلَ أخي وبدأتُ أُناجي ربّي، لأنّ صفاء قلبي هو الذي سيُودي بي إلى الموت المحتوم. فكّرتُ بِوالدَيَّ وحزنهما عليّ بعد مماتي، وكيف أنّهما لَم ينجحا بإبعاد خطَر أخي عنّي. فكّرتُ بِمُستقبلي الذي لن يتحقَّق، فكنتُ أحلمُ بأن أصبحَ طبيبًا وأُريح الناس مِن أوجاعهم، وها أنا على وشك الموت في قبوٍ مُظلمٍ ومِن بعدها مدفونًا في مكان مجهول. أجل، لن يبكي ويُصلّي أحدٌ أمام قبري، بل سيُفتّشون عنّي لِسنوات طويلة ويُفسِّرُ كلّ منهم اختفائي على سجيّته.

مرَّت الساعات، وكانت طويلة للغاية، فغفَوتُ مِن كثرة تعَبي مِن مُحاولاتي فكّ رباطي. وأيقظَني صوت باب القبو وهو يُفتَح. إرتعَبَ جسَدي بأكملِه، فلقد عادَ القاتل المجنون!

لكن كَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين رأيتُ أمامي سوزي وعمّتي ورجال الشرطة! ولِكثرة انفعالي، أُغمِيَ عليَّ.

إستَيقظتُ في المشفى وعمّتي إلى جانبي تبتسمُ لي بِفرَح، ثمّ جاءَ شرطيّ ٌوأخَذَ إفادتي. علِمتُ مِن أخت أبي أنّ ماهر محجوزٌ بعد أن قصدَت السلطات كَراجه وأخذَته مُكبَّلاً. أسفتُ أن يقضيَ ماهر سنواته في السجن، إلا أنّه أُرسِلَ إلى مصحّة عقليّة وأسرعَت سوزي بِطلَب الطلاق منه.

إعتذرتُ بِشدّة مِن عمّتي لأنّني ظلَمتُها، وهي وبَّخَتني على ما فعلتُه بالسرّ عن الجميع، والذي كان سيودي بي إلى الموت. لَم نُخبِر والِدَيَّ بالذي حصلَ، وأسرَعتُ بالعودة إلى البلَد مُتذرّعًا بأنّ المنهَج الأميركيّ لَم يُناسِبني. وأكمَلتُ تخصّصي... بالطبّ العقليّ. أجل، أرَدتُ فَهم ثنايا العقل البشريّ عن كثَب وأمراضه، فبالرّغم مِن أنّه كادَ أن يقتلَني، فلقد كان سبب تصرّفات ماهر مرَضٌ ما لَم يُشفَ منه. فلماذا تأثَّرَ أخي بِولادتي إلى ذلك الحدّ وأرادَ قتلي، خلافًا لِباقي الأولاد الذين يولَد لهم أخٌ؟ الآن، وبعدما صرتُ طبيبًا مُختصًّا، بتُّ أملكُ مُعظم الأجوِبة.

ماتَ أبي مِن دون أن يعلَم الحقيقة التي لن تعرفَها أمّي هي الأخرى. أمّا بالنسبة لِماهر، فهو لا يزالُ في المصحّة. هل سيشفى يومًا؟ الجواب لدى الله وحده.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button