سارق مهذّب

كنتُ أعمل منذ سنوات عديدة كمصفّفة شعر في صالون، وأقصد البلدة خلال فرصة نهاية الأسبوع لأهتمّ بشعر السيّدات هناك. وبفضل عملي الدّؤوب جمعتُ مبلغًا لا بأس به مِن المال، وكنتُ فخورة بنفسي كوني الوحيدة مِن بين أفراد عائلتي التي استطاعَت الخروج مِن الفقر. الكلّ كان يراني بطلة، خاصّة أنّني انتقَلتُ مع أهلي إلى العاصمة ونلتُ قسطي منها، وذلك بفضل مهارتي ومحبّة زبوناتي لي.

قرَّرتُ استثمار مالي كلّه بسيّارة حديثة وفخمة، لأكون مثل تلك السيّدات اللواتي كنّ تأتَين إلى الصالون، وأرَدتُ أن أتنزّه بها كالأميرة فكان ذلك مِن حقّي بعد 15 سنة مِن الاهتمام بالغير، وأمِلت أن أصعد هكذا بضعة درجات في السلّم الاجتماعيّ.

صحيح أنّ الجميع نبَّهَني مِن دفع مبلغ كهذا على سيّارة، إلا أنّني لم أستمع إلى أحد.

جلَستُ بفخر لا يوصف وراء مقوَد سيّارتي الفخمة، وقدتُ في شوارع العاصمة بينما ينظَرَ إليّ الناس بحسد واضح، وقلتُ لنفسي: "لقد نجحتِ يا داليا!"

ولكنّ فرحتي كانت قصيرة الأمد، فبعد أقلّ مِن أسبوع على اقتنائي مركبتي حصَلَ لي ما لم أتصوّره ممكنًا.

في تلك الليلة كنتُ قد توقّفتُ عند الاشارة الحمراء عندما جاءَت سيّارة مِن الخلف وصدَمت سيّارتي بقوّة. ترجَّلتُ بسرعة لأرى مدى الأضرار، صارخة بالسّائق أنّ مركبتي جديدة وأنّني عملتُ سنوات طويلة للتمكّن مِن اقتنائها.

 


تأسَّف الشاب وطلَبَ منّي السماح وهدأتُ قليلاً، فقد كان وسيمًا للغاية وشديد التهذيب. ولكن قبل أن أدرك ما يحصل، ركَضَ إلى سيّارتي وركِبَ فيها وأدارَ المحرّك وغابَ عن نظري بلحظة. وقفتُ وسط الطريق أنظر إلى جنى عمري يختفي أمام عَينَيَّ.

كان السارق قد أخَذَ ليس فقط سيّارتي بل حقيبة يدي التي بقيَت في الداخل، والتي تحتوي على هاتفي وأوراقي الثبوتيّة كلّها. إمتلأت عينايَ بالدموع، ومشيتُ حتى أقرب مركز للشرطة حيث أعطيتُ رسمًا تقريبّيًا للشاب، وسَّجلتُ شكوى ضدّه ومِن بعدها عدتُ إلى البيت. كنتُ أعلم أنّني سأسمع عتابًا مِن أهلي ومحيطي لأنّني لم أقتنع مِن أحد حين قالوا لي ألا أستثمر كلّ مالي في سيّارة.

بكيتُ طوال الليل ولعَنتُ حظّي السيّئ، لأنّني عدتُ إلى نقطة الصفر، أيّ مثلما كنتُ منذ 15 سنة. لم أعد أملك شيئًا، وقلتُ لنفسي إنّ أمثالي ربّما لا يستحقّون حياة أفضل.

في الصباح أيقظَتني أمّي لتقول لي إنّ صديقتي تريد أن تكلّمني عبر الهاتف. كانت عيَناي متورّمتَين مِن كثرة البكاء ورأسي يؤلمني ولدَيَّ رغبة بالموت، ولكنّني أخَذتُ المكالمة. كانت ربيعة متحمّسة جدًّا، ولم أفهم منها أيّ شيء مِن الذي قالَته وطلبتُ منها أن تعيد كلامها:

 

ـ السّارق! السّارق إتصل بي الآن بعدما وجَدَ رقمي بين قائمة المتصلين في هاتفكِ وقال لي...

 

ـ ماذا قال؟!؟

 

ـ قال إنّكِ ستجدين سيّارتكِ قرب السوبر ماركت، وأضافَ قبل أن يُقفل الخط: "شكرًا، وعذرًا على الإزعاج!"

 

خلتُ طبعًا أنّها دعابة مِن جانب صديقتي، وغضبتُ منها، لكنّها أقسمَت أنّها تقول الحقيقة لذا قرَّرتُ أن أصدّقها. إتصَلتُ بالشرطة لأعلمهم أنّني سأقصد المكان المذكور، وأنّني بحاجة إلى حماية إذ قد يكون ذلك فخًّا، فبعثوا دوريّة لمواكبتي.

عند وصولنا وجدنا السيّارة حيث قال السارق أنّها ستكون والمفتاح والحقيبة والهاتف في داخلها. لم يكن ينقص شيء، حتى المال الذي كان في محفظتي. كان الأمر وكأنّه حلم مزعج إستيقَظتُ منه للتوّ.

 


كنتُ قد استعَدتُ استثماري ولم أكن لأطلب أكثر مِن ذلك فقرَّرتُ سحب شكواي، ولكنّ المحقّق قال لي إنّ السارق لن يُفلت منهم بهذه البساطة وعليه أن يُعاقَب. حزنتُ لدى سماعي ذلك لأنّ ذلك الشاب كان فعلاً لطيفًا للغاية.

بعد فترة قصيرة، تمّ القبض على السارق وهو في طريقه للهرب بعد أن تورَّط بمسألة سرقة مسلّحة، وطُلِبَ منّي أن أقصد مركز الشرطة للتعرّف إليه. لم أكن أريد الذهاب، ولكنّني كنتُ مُجبرة على ذلك. حُكِمَ على الشاب بالسجن سنتَين ولم أسمع منه أو عنه بعد ذلك.

في تلك الأثناء كنتُ قد استعَدتُ حياتي العاديّة، أي عملي في الصالون وزبوناتي وطبعًا سيّارتي الجميلة. وبعد حوالي السنة والنصف تلقَّيتُ اتصالاً غريبًا جدًّا. صوت المتصّل كان دافئًا وعميقًا، ولم أتصوّر أبدًا أن يكون نفسه الذي سَرَق سيّارتي.

في البدء خلتُ أنّه يريد الانتقام منّي لأنّني رميتُه في السجن بالإدلاء بشهادتي ولكنّ الأمر كان مختلفًا تمامًا. لم يكن غاضبًا منّي بتاتًا بل كان يُريد أن يراني ليشرح لي الدوافع وراء فعلته، ففكرة أنّني أعتبره لصًا حقيرًا كانت تعذّبه كثيرًا، وخلال فترة سجنه لم يكن يفكّر سوى بشيء واحد وهو أن يراني ويُبرّر لي ما حصل. لا أدري لماذا ولكنّني قبلتُ أن ألتقي به.

عندما دخَلَ المقهى وجدتُه أجمل بعد مِن قبل، وعندما جلَسَ قبالتي بدأ قلبي يدقّ بسرعة. أخَذَ نَفَسًا عميقًا وقال:

 

ـ ولِدتُ في عائلة مرتاحة ماديًّا ولم ينقصني شيء، بل العكس إذ كنتُ أحصل على مرادي لأنّ والدَيَّ كانا يُعطياني كلّ شيء، ربمّا لأنسى أنّهما كانا دائمَي الغياب. وتعرّفتُ إلى أناس مثلي، أي مِن دون هدف وباحثين عن الأثارة. لا أذكر مَن أطلَقَ الفكرة، ولكنّنا قرَّرنا أن نسرق سوبر ماركت لنتسلّى قليلاً. أعلم أنّ الأمر جنونيّ وأنا نادم مِن كلّ قلبي... عندما وصلنا إلى المحلّ، غيَّرتُ رأي وترَكتُ أصدقائي ورحَلتُ بسرعة، فلم أكن قادرًا على القيام بما خطَّطنا له. ولأختفي بسرعة كان عليّ تغيير سيّارتي ووجدتُكِ أنتِ في طريقي. لم أكن أبدًا مسرورًا بأخذ مركبتكِ ولكن رغبتي بالبقاء كانت الأقوى. ولم أتحمّل رؤيتكِ حزينة، لذا كان أوّل شيء فعلتُه هو سرقة سيّارة أخرى لإعادة ما هو لكِ. لستُ غاضبًا منكِ لشهادتكِ ضدّي، لأنّني أستحقّ ذلك فلقد عشتُ حياة انحلال ولم أكن أعير أهميّة للناس والأشياء. في السجن تعلّمتُ أن أحمد ربّي على ما أملكه وقرَّرتُ البدء مِن جديد. هل ستتمكّنين يومًا مِن مسامحتي؟

 

وقبل أن أجيب أخَذَ بيَدي وقال:

 

ـ هل أجرؤ على التفكير بأنّك ستكونين إلى جانبي في مشواري الجديد؟

 

وبقيتُ إلى جانبه وإلى الأبد، فكنتُ قد حصلتُ على قصّة حبّ جديرة بالقصص الخرافيّة، فقصّتي غريبة لدرجة أنّني أجد صعوبة بتصديقها بعد أن وضعتُ كلّ ما أملك في سيّارة سرعان ما فقدتُها في غضون ليلة وأُعيدَت لي مع هديّة قيّمة: أفضل الرّجال، ممّا يُثبتُ فعلّاً أنّه يحقّ لنا بأن نحلم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button