زوّجوني إلى وحش

كنتُ في السّادسة عشرة عندما أخبَرَني أبي أنّني سأتزوّج مِن عصام، قريبٍ لنا كنتُ قد رأيتُه مرّة واحدة في حياتي بفرَح أخيه. كان ذلك الشاب بشعًا وغليظًا، وحين أبدَيتُ رفضي القاطع له وللزواج في مثل سنّي، أجابَني والدي: "لا تتعبي نفسكِ فلقد أعطيتُه كلمتي ولن أتراجع عنها مهما كلّف الأمر". كان ذلك الرجل الذي يُسمّي نفسه أبي مستعدًّا لتدمير أحلامي وكياني ومستقبلي مِن أجل الحفاظ على كلمته.

ولأنّني كنتُ يافعة ومِن بيئة قاسية مع النساء وفي زمن لا يعرف الرحمة، وجدتُ نفسي متزوّجة مِن رجل كان سيُسبّب لي التعاسة طوال ما يُقارب الخمسين سنة.

 

سكنّا قرب أهل عصام وعشتُ بسلام لبضعة أشهر، أي قبل أن يتدخّل الجميع في شؤوننا. فهم لم يُحبّوني بالرغم مِن الصلة العائليّة الموجودة بيننا. فعلتُ جهدي ليقبلوا بي، خاصّة بعدما أدركتُ أنّ أهلي لا يكترثون فعلاً بمصيري، ولكنّني لم أفلح.

وبجوّ مِن التشنّج المليء بالثرثرة وتحريض زوجي عليّ، أنجبتُ أوّل ولد ومِن ثمّ الثاني وذلك بغضون سنتَين. فعند هؤلاء الناس، كان مِن الضروريّ أن أعطيهم ولدًا كلّ سنة فما كان نفعي إذا لم أفعَل؟

 

وذات يوم أخذتُ ولدَيَّ وقصدتُ بيت أهلي لقضاء فرصة العيد عندهم. فعلتُ ذلك بموافقة عصام طبعًا، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيتُه يدخل دار أهلي فجأة ليأخذ ولدَينا ويرحل مِن دون أن يتفوّه بكلمة واحدة. وبعد أن زالَت فترة الذهول، عُدتُ طبعًا إلى البيت لأجد أنّ زوجي غيّر قفل الباب ويرفض أن يدخلني. حاولتُ الاستفهام لدى أهله عمّا يجري ولكنّهم عاملوني بالمثل. لِذا عدتُ إلى ذويّ باكية حيث مكثتُ حوالي الأسبوع. وصلَني أنّ عصام يقول للناس إنّني تركتُ ولدَيَّ وإنّني لا أريد العودة إلى البيت، الأمر الذي زادَ مِن حيرتي. لماذا يفعل عصام ذلك وما الذي غيّره تجاهي هكذا؟

 


وتدخَّل بعض الأصدقاء وجاؤوا ليقنعوني بالعودة مع انّ ذلك كان مرادي، وحين وصلتُ أمام بيتنا كان زوجي ينتظرني والشرّ بانٍ في عَينَيه. ومِن دون أيّ انذار إنهال عليّ بالضرب بطريقة وحشيّة حتى أُغميَ عليّ. عندها حملَني إلى الداخل وبقيتُ فاقدة الوعي مدّة طويلة. وفي ذلك اليوم بدأ عذابي.

وصَلَ خبر ما فعلَه بي زوجي إلى اختي التي ركضَت لتأخذني إلى الطبيب، ولكن عند وصولها منعَهَا زوجي وأخوه مِن الدخول وطرداها، ودَخَلَ عصام إلى الغرفة حيث كنتُ أحاول أن أتعافى فيها وعادَ يضربني ثانية.

ولدى سماع صراخي، ركَضَ بعض الجيران واستطاعوا أخذي عنوة إلى طبيب البلدة. وهناك بدأ الرجل يسألني كيف أصِبتُ بهذا الكمّ مِن الكسور والرضوض فقلتُ له إنّني وقعتُ عن السطح. كذبتُ على الطبيب خوفًا مِن عصام، فكنتُ قد أدركتُ أنّه لن يتراجع عن أذيّتي مجدّدًا أو قد يصبّ غضبه على ولدَيَّ. أرادَني الطبيب أن أذهب على الفور إلى المشفى، ولكنّني رفضتُ ذلك أيضًا بسبب خوفي مِن زوجي. كلّ ما كنتُ أريده هو الابتعاد عنه قدر المستطاع.

 

وبدل أن يأخذني الجيران إلى أهلي، عادوا بي إلى زوجي. حاولتُ إفهامهم أنّني سأكون بحال أفضل بين ذويَّ ولكنّهم بقوا مصرّين: "أخذناكِ مِن منزل زوجكِ وسنرجعكِ إلى هناك". كان الكلّ يهاب عصام ويعلم كيف يُمكنه التحوّل إلى وحش قاتل. وفور وصولي أخَذَ زوجي يسألني عمّا قلتُ للطبيب، ولم يُصدّقني حين أقسمتُ له أنّني لم أفضح أمره. وكي يُفهمني أنّه قادر على إنهاء حياتي لو أفشيتُ به، عاد يضربني لأنّني كنتُ وحسب قوله "امرأة ماكرة وخبيثة".

 

وفي تلك الأثناء، كانت أختي قد أخبرَت أخي الكبير عمّا يحصل لي وطلبَت منه المساعدة، فقرَّرَ هذا الأخير أنّ لا يُمكن تركي بين أيدي انسان متوحّش وجاء ليأخذني منه.

لن أستطيع وصف سعادتي عندما سمعتُ صوت أخي يُناديني ويخبط على الباب. للحظة نسيتُ أوجاعي وركضتُ إليه لأهرب مِن عذابي، ولكنّ زوجي منعَني طبعًا مِن الخروج، وأخَذَ عصًا كبيرة ونادى اخوَته وهجموا جميعًا على أخي المسكين الذي كان قد أتى لوحده.

دار عراك وحشيّ، وأظنّ أنّ لولا تدخّل أهالي الحيّ لكان قد قتَلَه عصام وإخوَته.

كان المشهد مرعبًا: ضربات تنهال شمالاً ويمينًا وأنا أصرخ وأتوسّل، ولم أعد أعرف مَن يضرب مَن حتى أن تمكّن أخي مِن الإفلات. عندها ركضتُ إليه ورحلنا بسرعة قبل أن يلحق بنا أحدهم.

 

أخَذَني أخي على الفور عند الطبيب ذاته الذي قال لي عند دخولنا: "دعيني أتكهَّن: سقطّي عن السطح مجدّداً!" وبعد أن عاينَني وأقنعَني بالذهاب إلى المشفى، كتَبَ لي تقريرًا مفاده أنّني تعرّضتُ مرّتَين للضرب العنيف، الأمر الذي كان سيُخوّلني التبليغ عن زوجي وزجّه بالسجن.

 

مكثتُ في المشفى حتى تعافَيتُ، ومِن ثمّ عند أهلي لأشهر طويلة ولكنّني لم أرفع دعوى على عصام لسبب وجيه: كان ولدَايَ معه وكنتُ أخشى أن ينتقم منهما لو فعلتُ أي شيء يضرّ به. صبرتُ على أمل أن يتغيّر شيء في قلب زوجي ويُعيد لي ابنَيَّ. وما أعطاني القوّة والصبر كان استقبال والديَّ لي، خاصّة أبي الذي أدركَ حين رأى كدماتي أنّه زوّجني مِن شيطان.

 


في تلك الأثناء، بدأ عصام بمحاولات لنَيل رضايَ َواسترجاعي ربمّا خوفًا مِن العدالة، ولكنّني بقيتُ صامدة بوجه توسّلاته وهداياه. لم أكن أريد حتى رؤية ذلك الرجل البغيض.

 

ولكن في احدى الأمسيات، جاءنا زائر وهَمَسَ في أذن أبي شيئًا لم يعرف أحد فحواه. حينها مَسَكَ والدي بصدره وضاقَ نَفَسه وسقط أرضًا. حملناه بسرعة إلى المشفى حيث قيل لنا إنّه أُصيبَ بنوبة قلبيّة حادّة وإنّ أيّ زعل قد يقتله.

 

وحين فتَحَ أبي عَينَيه طلَبَ أن يراني على انفراد وقال لي:

 

- عليكِ العودة إلى زوجكِ يا صغيرتي. 

 

- ماذا؟ ألم ترَ ما فعلَه بي؟ ألا يكفيكَ أنّكَ الذي أرغَمتَني على الزواج منه؟

 

- أقول لكِ إنّ عليكِ العودة إليه... أم تريديني أن أموت؟؟

 

نظرتُ إليه وهو ممدَّد على السّرير، وسألتُ نفسي كيف لأبي أن يجد أنّ حياته أثمن مِن حياتي. أليس مِن المفروض أن يُضحّي الأهل مِن أجل أولادهم بدل أن يُضحوّا بهم؟ وما الذي قاله ذلك الزائر له ليحمله على تسليمي لجلادي؟ حتى اليوم لم أجد جوابًا لهذا السؤال. وعدتُ إلى زوجي كي لا أحمل ذنب موت أبي، ولكن ليس قبل الحصول على وعد قاطع بالانتقال إلى بيت آخر أي بعيدًا عن أهل زوجي، فكنتُ مقتنعة مِن أنّهم السّبب بالذي يحصل لي. لا أقول إنّ عصام ملاك فالذي يضرب امرأة بهذا الشكل يكون مريضًا نفسيًّا، ولكن التأثيرات الخارجيّة دفَعَته إلى إطلاق العنان لشرّه.

 

تركتُ بيت أهلي مِن دون أن أودّع أبي أو حتى أمّي التي بقيَت صامتة أمام عذابي. عانقتُ أختي وأخي مطوّلاً ووعدتُهما باستدعائهما إن تعرّضتُ للأذى مجدّدًا.

 

سكنتُ مع عصام وولدَيَّ بعيدًا عن ذويه، ولزمَني أكثر مِن سنة حتى سمَحتُ له ليس فقط بلمسي بل بالنوم إلى جانبي. لم يرفع يدَه عليّ بعد ذلك، لكنّه بقيَ انسانًا قاسيًا وصعبًا لا يُعجبه شيئ ويتذمَّر مِن كلّ صغيرة وكبيرة.

أنجبتُ ولدًا ثالثًا ومِن ثمّ رفضتُ أن أنجب المزيد.

لم أذِق طعم السّعادة منذ ذاك اليوم المشؤوم الذي "أعطاني" أبي لِعصام، ولحظات الفرح القصيرة كانت حين حصل أولادي على شهاداتهم العلميّة وعند زواجهم.

 

اليوم أعيش مع عصام لوحدنا وبالكاد نتبادل الكلام. حاولتُ معرفة ما يدور برأس ذلك الرجل ولكنّني لم أفلح. حاولتُ أيضًا ايجاد أسباب لتلك الشخصيّة البشعة لكنّني لم أنجح. الرّجل الذي أعيش معه منذ خمسين سنة هو انسان قاسٍ وكريه وحسب، وليس هناك مِن مبرّر له أو علاج.

هل أحبَبتُه يومًا؟ كلا. هل أحبّني؟ بالطبع لا. إذًا لماذا ارتبطَت حياتي بحياته؟ لأنّ أهلنا أرادوا ذلك ولأنّهم لم يأبهوا لمصيرنا أو مصير أولادنا الذين لم يربوا بجوّ متزّن أو بين أبوَين يُحبّان بعضهما، بل كبروا وسط البكاء والصراخ ومِن ثمّ الجفاء والقهر. والشيء الوحيد الذي تمكّنتُ مِن فعله مِن أجل التعويض لهم عمّا مرّوا به، كان أنّني لم أتدخّل بزواجاتهم ولم أدَع عصام يفعل. فإن كنّا تعيسَين لماذا نتسبّب بالتعاسة لغيرنا؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button