رمَتني أمّي في أحضان الفقر

كيف لأمّ أن تترك ابنتها الرضيعة، وتعيش برخاء بينما تجوعُ صغيرتها؟ لَم أجِد الجواب بعدما قضيتُ حوالي الثلاثين سنة بالبحث عنه. فوالدتي لَم تعِش بعيدًا عن بيت أهل والدي حيث تركَتني، بل في مدينة مُجاورة، وتصرّفَت لأعوام عديدة وكأنّني لَم أولَد قط.

فبعد أن أبصرتُ النور بثمانية أشهر، ماتَ المسكين أبي بحادث سَير. كيف تمكّنَت أمّي مِن إيجاد بديل له بهذه السرعة، الأمر غامض للغاية. هل خوفها مِن المجهول دفعَها للبحث عن الرّجل الذي سيُبعدُها عن الفقر، أم أنّها كانت على علاقة سابقة بالذي سيُصبح بعد شهر واحد عريسها الجديد؟ كلّ ما أعرفُه هو أنّها دقَّت باب عائلة أبي، ورمَتني بوجههم قائلة: "هذه ذكرى مِن إبنكم، خذوها، فلا حاجة لي لها." لَم أعرف أنّها لفظَت هذه الجملة الرهيبة إلا بعد سنوات، فقد بقيَت جدّتي وعمّاتي ترسِمنَ صورة لطيفة بعض الشيء عن أمّي، إلى حين تكلّمتُ معها ومنعَتني مِن أن أُناديها "ماما".

لكن دعوني أُخبركُم قصّتي، مِن يوم وصلتُ بيت جدّتي إلى حين مكالمتي الأولى مع والدتي والأحداث التي تلَت.

ربيتُ وسط عائلة فقيرة مؤلّفة مِن جدّتي الأرملة وبناتها الثلاث اللواتي كنّ آنذاك مراهقات، أي غير قادرات على العمل. فالمرحوم أبي كان يُعيلُهم إلى جانب تأمين ما يلزمُ لي ولأمّي. وبعد وفاته، إنقطَعَ المال فجأة، ولزِمَ عمّاتي بعض الوقت لترتيب حياتهنّ الجديدة، أي تَرك المدرسة بالنسبة لأكبرهنّ والعمل في المكان نفسه في قسم التنظيفات. وبالرّغم مِن فقرهم الذي لَم يكن يسمحُ لهنّ باستقبال فرد جديد، لَم أسمعهنّ يومًا يتذمّرنَ، بل فعَلنَ جهدهنّ لتربيَتي بكلّ طيبة خاطر.

كان الجوع رفيق طفولتي، فلَم أكن آكلُ شبَعي، ولَم أحصل على تلك الألعاب الجميلة والملوّنة التي كنتُ أراها في واجهات المحلات. وعندما كنتُ أطلبُ الطعام أو الثياب أو الألعاب، كنتُ أسمعُ الإجابة نفسها: "الله كريم". درستُ في مدرسة حكوميّة صغيرة، لكنّني كنتُ مُتحمّسة لِتحصيل العِلم، الأمر الذي أعطى جدّتي وعمّاتي أملاً بمُستقبل أفضل. فبعد أن تركَت أخوات أبي المدرسة لدخول مُعترك العمل، غابَت الثقافة والعلم عن البيت.

 


لَم أسأل عن أمّي إلا حين بلَغتُ الخامسة مِن عمري، فحتى ذلك الحين، كنتُ أعتقدُ أنّ جدّتي هي أمّي وعمّاتي أخواتي. لكن إبنة الجيران أخبرَتني الحقيقة، أي أنّني إبنة امرأة أخرى. كان الكلّ يعرفُ قصّتي إلا أنا. عندها قالَت لي جدّتي بإحراج إنّ والدتي وضعَتني عندها لتذهب للبحث عن حياة أفضل لي، وإنّها ستعودُ فور إيجادها ما يليقُ بي... وصدّقتُها. وصارَ لدَيّ شوق كبير للتعرّف إلى تلك السيّدة العظيمة، التي تصوّرتُها كتلك البطلات اللواتي تتحدَّينَ المصائب والمخاطر مِن أجل أولادهنّ.

لكنّ الوقت طالَ، ولَم أفهَم لماذا لا تتواصل والدتي معي ولو هاتفيًّا. وعندما ضاقَ صبري وصرتُ أتشاجر مع جدّتي وعمّاتي بشأن أمّي، علِمتُ منهنّ أنّ والدتي تسكنُ ليس بعيدًا منّي مع زوجها وولدَيها. كان عنوانها معروفًا مِن أهل أبي، لأنّها بعثَت لي مرّتَين أو ثلاث مرّات فقط مبلغًا زهيدًا لا يُغطّي مصاريف طعام يومَين. بعد ذلك، إنقطعَت أخبارها. وفي عمر العاشرة، وبعد أن بدأَت الشكوك بما يخصّ صدقيّة جدّتي وعمّاتي تراودنُي، طلبتُ بإلحاح، الإتصال بالتي أعطَتني الحياة. ولإسكاتي، حصَلتُ منهنّ على رقمها بعد أن قُلنَ لي:

 

- تحضّري للأسوأ.

 

أخذتُ الرقم والهاتف ورحتُ إلى الغرفة لأتكلّم مع أمّي على انفراد:

 

ـ آلو... هذا أنا، نوال.

 

ـ نوال مَن؟ لا أعرفُ أحدًا بهذا الإسم.

 

ـ إبنتكِ... أخذتُ رقمكِ مِن جدّتي.

 

ـ نوال... آه... أجل، أجل... ماذا تُريدين؟

 

ـ قيل لي إنّكِ تعيشين في المدينة المُجاورة، لماذا لا تأتين لرؤيتي؟ لماذا لا تتّصلين بي... لماذا لا أعيشُ معكِ؟!؟

 

ـ أسئلة كثيرة! إسمعي، أنا سيّدة مشغولة جدًّا، وكما علِمتِ حتمًا صارَ عندي عائلة، أجل، ولدَان رائعان، الأمر الذي يتطلّبُ منّي إنشغالاً دائمًا.

 

ـ وأنا أيضًا إبنتكِ.

 

ـ الأمرُ مُختلف. لن تفهمي، فلا تزالين صغيرة. كَم عمركِ؟

 

ـ عشر سنوات. ماما... لماذا لا تُريدين رؤيتي؟

 

ـ ناديني باسمي مِن فضلكِ. وكفاكِ أسئلة، سأتّصلُ بكِ قريبًا.

 

أقفلَت أمّي الخطّ ولَم تتّصل بي مُجدّدًا. إنتظرتُها أيّامًا وأشهرًا وسنينًا. وفي تلك الأثناء، كانت عمّاتي قد بدأنَ بشرح حقيقة أمّي البشعة لي، وأدركتُ أنّ تلك المرأة لا تُريدُني في حياتها.

مِن تلك اللحظة ارتدَت حياتي ثوب الحزن. فكيف لأمّ أن تتخلّصَ هكذا مِن إبنتها وكأنّها عبء ثقيل عليها، ولا تسألُ عنها أو تُساعدُها حتى؟ فالذي عرفتُه هو أنّ زوجها رجل ميسور، وأنّها تعيش معه ومع ولدَيهما حياة أكثر مِن هنيئة.

حاولَت جدّتي وبناتها الترفيه عنّي بشتّى الطرق، إلا أنّني كنت قد أصبحتُ فتاة يائسة لا تؤمِنُ بشيء وتتوقّعُ الخذلان مِن أيّ كان. لكن في داخلي، نما شيء آخر، وهو إرادة قويّة بالنجاح. فكان عليّ أن أثبتَ لأمّي أنّها أخطأَت حين تركَتني، وأنّني سأصبحُ أفضل بكثير مِن ولدَيها اللذَين فضّلَتهما عليّ.

 


لِذا اجتهدتُ في المدرسة، وقضيتُ وقتي بالقراءة والدرس إلى أن صرتُ مِن أوائل صفّي، الأمر الذي قادَني إلى الحصول على منحة جامعيّة. نعم، البنت المتروكة والفقيرة دخَلت إحدى أفضل جامعات العاصمة مع إقامة مجانيّة في حرَمها. ودّعتُ اللواتي ربَّتني والدموع تكرجُ على خدَّيَّ. وعدتُهنّ بأنّني لن أنَساهنّ أو أتركُهنّ في العوز، بل سأبذلُ جهدي لردّ جميلهنّ.

دخلتُ كليّة الطبّ وسجنتُ نفسي في الغرفة التي أتقاسمُها مع إحدى زميلاتي، ولأدرس وأدرس وأدرس. فبينما كان باقي التلامذة يلتقون في المطاعم والسهرات، كنتُ أبقى لوحدي أصبُّ اهتمامي على الكتب والمراجع.

مرّت السنوات ببطء، وكنتُ أزورُ جدّتي وعمّاتي في كلّ نهاية أسبوع لأستعيد الزمَن حين كنتُ الطفلة المدللة لدَيهنّ. لَم نفتح يومًا سيرة والدتي، وتصرّفنا جميعًا وكأنّها ماتَت مع أبي في ذلك الحادث.

وحين رحتُ أتمرّن في المشفى قبل تخرّجي بسنة، تعرّفتُ إلى جواد، طبيب شاب كان قد دخَلَ الكليّة قَبلي بسنتَين. وكان أيضًا قد لاحظَني وأنا في الجامعة لكثرة إعجابه بي. وحين صِرنا نعمل في المشفى نفسه ، تقرَّبَ جواد منّي وصارَ يهتمُّ بي ويُعطيني النصائح ويُشجّعني على المثابرة. وكنتُ قد بدأتُ تمريني في قسم الطوارئ، مكان حيث الألَم والخطَر موجودان يوميًّا. لَم أفكّر أنّ جواد سيُصبحُ شخصًا مهمًّا في حياتي، فلقد كنتُ قد أغلقتُ قلبي للجميع كي لا يُحطَّم مُجدّدًا، لكنّني وقعتُ أخيرًا في حبّه لأنّني لَم أستطع عدَم تقدير شخصه الممتاز مِن كلّ النواحي. كان جواد فعلاً إنسانًا عظيمًا. عندها فهمتُ أنّ الله لا يتركُ أحدًا، بل يُعوّضُ عليه عن مصائب الدنيا.

شرطي الوحيد لجواد لقبولي الزواج منه كان أن يعتبر عائلة جدّتي جزءًا لا يتجزّأ مِن حياتي وأن يُساعدهنّ معي ماليًّا. قبِلَ معي بِفرَح بعدما عرِفَ قصّتي الأليمة.

أقَمنا فرَحًا كبيرًا، ودعوتُ كلّ مَن ساهَم ولو بشيء قليل في حياتي... إلا أمّي. لكنّها سمعَت بأمر زواجي، وبحثَت عن رقمي واتّصلَت بي:

 

ـ آلو... هذا أنا، أمّكِ.

 

ـ أمّي؟ آسفة لكنّ أمّي ماتَت حين كنتُ طفلة.

 

ـ كفى مزاحًا... أردتُ تهنئتكِ على زواجكِ... صرتِ طبيبة وزوجكِ طبيب أيضًا... شيء مثير للإهتمام...

 

ـ لَم أفهَم.

 

ـ أعني أنّ مكانتكما الإجتماعيّة عالية والإستفادة منكما مهمّة.

 

ـ الإستفادة؟

 

ـ أجل، فإبنتي طبيبة! وصهري طبيب!

 

ـ مِن فضلكِ، لا تُناديني إبنتكِ... ولمعلوماتكِ، مَن سيستفيد مِن مهنتي ومهنة زوجي هنّ اللواتي ربَّتني ووقَفنَ إلى جانبي وأطعمنَني وعمَلنَ بكدّ لتعليمي. أمّا أنتِ، فلقد وقفتِ مُتفرّجة عليّ وأنا جائعة وخائفة وغير فاهمة ما فعلتِه بي.

 

ـ هذا في ما مضى... الآن أصبحتِ إمرأة ناجحة و...

 

ـ كفى أرجوكِ، لا أريدُ إهانتكِ، فلَم أتربَّ هكذا. لا تتّصلي بي مُجدّدًا! عودي إلى العائلة التي فضّلتِها عليّ ودَعيني وشأني. لا مكان لكِ في حياة أيٍّ منّا. أنتِ عارٌ على مفهوم الأمومة، ولقد لطّختِه بقلّة مسؤوليّتكِ وانعدام حنانكِ... هيّا!

 

وأقفلتُ الخطّ بوجهها. كنتُ قد أشفيتُ غليلي ولو بعض الشيء، إلا أنّني عمِلتُ جهدي لأنسى هذه المُكالمة، وأركّز على زواجي ومهنتي وعائلتي. فلقد أعطاني الله فرصة لا تُقدَّر، ولَم يكن مِن الوارد أن أضيّعُها.

تذكّرتُ والدتي حين بلغَت إبنتي البكر شهرها التاسع، وحملتُها بين ذراعَيَّ ونظرتُ إليها وهي نائمة. سألتُ نفسي كيف لأمّ أن تترك مخلوقًا بهذا الحجم والرقّة، فحتّى الحيوانات لا يفعلون ذلك بصغارهم. قبّلتُ إبنتي على أنفها الصغير، وأقسمتُ أن أبقى إلى جانبها وأحميها طالما بقيَ لي نفَس واحد في صدري. فهذه هي مهمّة الأمّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button