رسالة غيّرَت كل حياتي

كم كانت دهشتي كبيرة عندما وجدتُ الرسالة لأنّ كل ما كنتُ أعرفه تبدّدَ في لحظة وأخَذَت مكانه حقيقة غيّرَت حياتي كلّها. وكانت تلك الرسالة المُغطّاة بالغبار مخبّأة وراء درج دولاب جدّتي ومِن الطوابع وختم البريد علِمتُ أنّها أُرسِلَت مِن كندا مِن سنين عديدة مِن قِبل سيّدة إسمها نجوى م.

كنتُ قد أخَذتُ على عاتقي توضيب أمتعة العجوز بعدما فارقَت الحياة لإعطائها للمؤسّسات الخيريّة.

ولم تكن هذه الرسالة قد وقعَت سهواً وراء الدرج بل كانت مركّزة بواسطة شريط لاصق بقصد إخفاءها عن الأنظار. لِمَ لم تقرأها أو حتى تتلفها جدّتي؟ لستُ أدري فلم تعد موجودة لأسألها ولكنّني لا أظنّ أنّها كانت تنوي إطلاعي عليها وألاّ كانت فَعَلَت ذلك مِن وقت طويل لأنّني كنتُ أعيش عندها منذ ما تَرَكَني أهلي لها عندما كنتُ في الثالثة مِن عمري.

لماذا فعلا ذلك؟ قيلَ لي أنّ أمّي هجرَتنا أنا وأبي لِتلحق برجل آخر وأنّ والدي مِن كثرة حزنه قبِلَ وظيفة في بلد آخر وأنّه سيعود بعد فترة ليست طويلة. وأذكر أنّني رأيتُه مرّة أو أثنتين فقط عندما جاء خلال فرصة العيد ومِن ثمّ إختفى كليّاً.

 

وعمِلَت جدّتي جهدها لِتعوّض لي عن غياب والدَيّ ولكنّ ذلك ام يكن كافياً خاصة عندما بدأتُ أذهب إلى المدرسة وأرى رفاقي محاطين بأهلهم وعندما كانوا يسألوني لماذا كانت جدّتي هي التي تحضر حفلاتنا وتقابل الأساتذة. وكنتُ قد إختلقتُ لهم قصّة جميلة ورومانسيّة حوّلت بها والدَيّ إلى بطلَين وقعا ضحيّة حبّهما وأنّهما الآن سويّاً في الجنة. ووصلتُ حتى إلى تصديق روايتي لأنّها كانت أفضل بكثير مِن الحقيقة البشعة.

وكبرتُ مع خوف عميق مِن أن يهجرني أحد آخر فزادَ تعلقي بجدّتي التي كانت الوحيدة المتبّقّية لي. وعندما أصبحتُ في سنّ تقعَ فيه الفتيات في الحب فضّلتُ الإبتعاد عن الرجال لألاّ يتركني الذي سأُغرَم به.

وتابعتُ دراستي وكانت حياتي تقتصر على الجامعة و البيت. كان لي صديقة واحدة فقط وحتى معها لم أكن مطمئنّة أنتظر اليوم الذي ستنتهي فيه صداقتنا.

 


ولكنّ جدّتي أصبحَت كبيرة في السنّ ومريضة وبالرغم أنّها كانت تعلَم أنّ أيّامها معدودة لم تخبرني الحقيقة مع أنّها لو فعَلت لكانت أراحَت ضميرها وواجَهت خالقها نظيفة القلب. ولكنّ الكبرياء هو أكبر عدوّ لنا والإعتراف بالخطأ أصعب أمر على الإنسان.

وهكذا ماتَت وبكيتُ على التي ربَّتني وأحبَّتني مِن كل قلبها. وجاءَ الأقارب والجيران للتعزية وإنتظرتُ أن يأتي أبي ولكنّه لم يفعل ربّما لكي لا يراني ويضطر لتبرير نفسه عالماً أنّ كل حجج العالم لن تكفي لإقناعي بأنّه لم يكن قادراً على رؤيتي خلال كل ذلك الوقت.

وكمّا قلتُ في بداية قصّتي قرّرتُ توزيع أمتعة جدّتي لكي يستفيد منها مَن هو بحاجة إليها ووجدتُ الرسالة. وعلِمتُ مِن طريقة خَفيها أنّها مهمّة ولكنّني لم أتصوّر أبداً أنّها مِن أمّي لأنّني كنتُ متأكدّة أنّها لم تحاول الإتصال بنا بأيّة طريقة وأتذكّر جدّتي تردّد لي ولكل مَن أرادَ سماعها أنّ"كنّتها الفاجرة تركَت الزوج والإبنة لِتلحق نزواتها ولم تزعج نفسها بالسؤال عن أحد".

 

وجلستُ على سرير العجوز وفتحتُ الظرف ببطء وأخرجتُ الأوراق مِن داخلها وبدأتُ بالقراءة. كان الخط جميل وواضح ما يدلّ على أنّ مَن كتب تلك السطور هو إنسان هادئ ورصين. وهذا ما كتبَته لي أمّي:

 

ـ حبيبتي نهى... لا أدري إن كانت جدّتكِ ستعطيكِ رسالتي لأنّها ليست الأولى التي أرسلها لكِ ولم أتلّقىَ أيّ ردّ مِنكِ ما يعني شيئين: إمّا أنّكِ لا تريدين التواصل معي أو أنّ العجوز قرّرَت محيي كليّاً مِن حياتكِ... لقد بلغتِ الثانية عشر مِن عمركِ وأعلم أنّه وبالرغم مِن سنّكِ تستطيعين فهم أمور كثيرة حتى لو كانت صعبة ومؤلمة... وهذه المرّة سأقول لكَ كل الحقيقة... إعلمي أنّني لم أتركَكِ كما يقولون لكِ بل أُجبِرتُ على ذلك... وكم أنا أسفة لأنّني إخترتُ الرجل الغير مناسب لي ولكِ... أردتُه أن يكون زوجاً مسؤولاً ومحبّاً كما وعدَني وأنّ يهتمّ بنا ولكنّ الوعود لا يحترمها إلاّ نبلاء القلوب... أكدَّ لي زوجي أنّه سيقبل بكِ وينسى أنّكِ لستِ إبنته... أجل لقد قرأتِ جيّداً... لستِ منه لأنّني حملتُ بكِ مِن آخر... لا تحكمي عليّ بسرعة فلم أكن آنذاك قد تعرّفتُ بعد على مَن تسمّينه أباكِ... كنتُ مغرمة بشاب لطيف وحنون وأحببتُه مِن كل قلبي ومِن كثرة شغفي له قبلتُ أن أسلمّه نفسي خاصة أنّنا كنّا سنتزوّج بعد فترة قصيرة.

 

وعندما علِمتُ أنّه لاقى حتفه في حادث سيّارة كنتُ حامل بكِ... بكيتُ كثيراً عليه وعلى نفسي لأنّني أدركتُ أنّني في ورطة كبيرة لأنّ مجتمعنا لا يرحم وخفتُ عليكِ مِن كلام الناس ولم أشأ أن يقولون عنكِ أنّكِ لقيطة ...لذا قبلتُ أن أتزوّج مِن الذي سيريدني مهما كان... ووجدوا لي سمير وبعد أن أخبروه عن حالتي طلبَ أن يراني وعندما فعل وقَعَ في حبّي وقَبِلَ أن يتزوّجني... أمّا أنا فلم أستطع أن أحبّه لأنّ هذه الأمور لا تُفترَض على أحد بل تأتي مِن تلقاء نفسها ولكنّني كنتُ سعيدة أن يكون لي عائلة وحياة طبيعيّة... وعَمِلتُ جهدي أن أكون زوجة صالحة للذي أنقَذَ سمعتي... وبعد أشهر قليلة جئتِ إلى الدنيا وإمتلأ قلبي بالفرح... في البدء أحبَّكِ سمير ربّما لأنّه إعتبركِ إبنته فعلاً ولكن مع الوقت تبدّدَ هذا الشعور ليتحوّل إلى إنزعاج مِن كل شيء يتعلّق بكِ... صراخكِ كان يفقده صوابه ومِن ثمّ التكاليف المتعلّقة بأكلكِ وزيارات الطبيب ومِن بعدها إهتمامي بكِ فكان يتهّمني أنّني أهمله بسببكِ...

 


...وأظنّ أنّ لجدّتكِ دور كبير بهذا التحوّل فكان سمير قد تزوّجني رغماً عنها لأنّها لم تكن تريد له زوجة حامل وأستطيع فهم ذلك ولكنّها بدأت تملئ رأسه بأشياء بغيضة حتى أن أصبح يكرهني ويكرهكِ... وبدأت المشاكل على صعيد يوميّ حتى أن بدأ يضربني لأي سبب... وخفتُ كثيراً عليكِ لأنّني كنتُ أعلم أن ّيوماً سيأتي وتلقين نفس المصير. إلتجأتُ لأهلي الذين طردوني مِن بيتهم لأنّهم"سئِموا مِن مشاكلي التي لم تجلب لهم سوى الهمّ والعار". لِذا ذهبتُ لجدّتكِ وطلبتُ منها أن تتدخّل لأنّها كانت الوحيدة التي تستطيع السيطرة عليه بعدما أصبحَ عنيفاً... وبعد أن توسّلتُ إليها وافقَت على أن تأخذكِ ولكن بشرط أن أرحل بعيداً. وبالطبع لم أوافق فلم أكن أنوي ترككِ بل إبعادكِ عن الوحش لفترة قصيرة ريثما يتسنّى لي إعادة الأمور معه على ما كانت عليه... ولكنّ جدتّكِ أقفلَت الباب بوجهنا وعدنا إلى البيت لنسمع الشتائم وأتلقّى الضربات... وإرتأيتُ أنّ الحياة هكذا خطرة على كلتَينا وأنّه مِن الأفضل أن أقبل عرض العجوز ولو لبضعة أشهر... وأقسم لكِ أنّني لم أكن أعلم أنّني سأُحرم منكِ هكذا... وأخذتُ وعداً مِن جدتّكِ بأنّها وفي حال تركتكِ لها ستبعد سمير عنكِ بشتّى الطرق... ورحلتُ إلى إبنة عمّي في كندا بعدما تأكدّتُ أنّ زوجي هو الآخر سافَرَ بعيداً عنكِ... بقيتُ أراسل جدّتكِ للإطمئنان عليكِ وكانت تجاوب على رسائلي حتى حين قلتُ لها أنّني أريد إستعادتكِ... عندها أرسلَت لي رسالة أخيرة تقول فيها أنّها وفي حال عدتُ لآخذَكِ سترسلكِ عند سمير ولن تعود مسؤولة عن أيّ شيئ قد يحصل لكِ وكنتُ متأكدّة أنّه لو فعَلَت ذلك كانت حياتكِ ستنقلب إلى جحيم... وبقيتُ أبعث مكاتيباً لكِ ولكن دون جدوى وسأظلّ أفعل حتى آخر أيّامي فلا بدّ أن يأتي يوم ويلين قلب جدّتكِ.

 

لم أصدّق عينيّ فبِلحظة تغيّر مفهومي لأحداث حياتي ورأيتُ الكل على حقيقته: فهمتُ دوافع أمّي المسكينة التي أرادَت تجنيبي عنف زوجها وفهمتُ لماذا الذي إعتقدتُه أبي لم يكن يحاول رؤيتي ولكنّني لم أفهم ما فعلَته جدّتي.

وبعد قراءة الرسالة قرّرتُ التواصل مع أمّي بِواسطة عنوانها المدوّن على الظرف. وأخذتُ قلم وورقة وكتبتُ لها كل ما جرى لي منذ طفولتي حتى اليوم الذي وجدتُ فيه الرسالة وإنتظرتُ ردّها بفارغ الصبر. ولكنّ الجواب لم يأتِ منها بل مِن إبنة عمّها لأنَّ والدتي كانت قد ماتَت مِن أكثر مَن خمس سنوات مِن سرطان أصابها في بطنها بعدما قضَت سنين تنتظر إشارة مِن جدّتي أو منّي.

وبالرغم أنّني لم أكن أعرفها إمتلكَني حزن عميق عليها لأنّني أدركتُ كم تعذّبَت بسبب جفاء قلب حماتها. وعزائي الوحيد كان أنّها لم تتركني لِتركض وراء الرجال بَل لِتحميني. وعلِمتُ حينها أنّني سأستطيع أخيراً متابعة حياتي والوثوق بالحب لأنّه فعلاً موجود.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button