دفعت ثمن أخطاء أبي

لَم تحبّني أمّي يوماً بالرغم مِن ادّعاءاتها، وكلّ الذي فعلَته لإثبات ذلك للعالم بأسره. فبنظر الجميع، كانت أمّي الأمّ المثاليّة التي تفانَت لزوجها حتى مماته ولابنها حتى يومنا هذا. ولكنّني كنتُ أعرفُها أكثر مِن أيّ شخص آخر، ولم أعد أصدّقُ أيّة كلمة لطيفة تخرجُ مِن فمها بعدما كشفتُ حقيقة قلبها الأسود، وكم تمنَّيتُ أن يكون لي أخ أو أخت لينزاح عنّي ثقل ممارسات تلك المرأة.

كلّ شيء بدأ عندما توفّيَ أبي. كنتُ في الثالثة مِن عمري أي صغيرًا لأفهم حقيقة ظروف موته، لكنّني اكتشفتُ لاحقًا أنّ والدي لفَظَ آخر نفَس له بين ذراعَي إمرأة أخرى. علمتُ ذلك مِن رفاقي الصغار في المدرسة. فقد كان مِن الواضح أنّ الجميع يعرفُ الذي حصل في ذلك اليوم... إلا أنا. فكيف للناس أن تسكت عن موت رجل إدّعى طوال حياته إتّباع تعاليم الله وحبّ زوجته، في حين وجِدَ مِن دون حياء في سرير إمرأة خفيفة الأخلاق؟ عندها فهمتُ سبب حزن والدتي الذي كان لا يُقاس، ويتأرجح بين ألَم فقدان شخص عزيز وغضب لا مثيل له. لكنّني لَم أفهم لماذا اعتبرَتني عدوّها منذ ذلك الحين. ألأنّني أُذكّرُها بالخائن أم فقط لأنّني ذكر؟

ففي الفترة الأولى مِن ترمّلها، أهملَتني والدتي لدرجة أنّ خالتي أخذَت تأتي يوميًّا لتُغسلني وتُغسل ملابسي وتبقى معي وتُلاعبُني. في تلك الأثناء كانت أمّي تجلس في غرفتها وأسمعُها تبكي بصمت حينًا وتصرخُ حينًا آخر. لو كنتُ بسنّ أكبر، لأخذتُها إلى طبيب نفسيّ ليُعطيها مُهدّئات ليُخفّف عليها العذاب الذي عانَت منه.

وصرتُ أنتظر بفارغ الصبر قدوم خالتي، فهي الوحيدة التي كانت تُكلّمني وتهتمّ بي. إلا أنّها تزوّجَت بعد سنة وغادرَت البلاد إلى أوروبا. أذكرُ تمامًا يوم جاءَت لِتوديعي ... بكينا سويًّا وطلبتُ منها أن تأخذني معها، لكنّها تمتمَت: "يا ليت يا حبيبي... يا ليت... كُن شُجاعًا فأمّكَ بحال يرثى له."

 


بعد رحيل خالتي، وجدتُ نفسي مع أمّ تكرهُني، وكأنّني الذي خانَها، إذ أنّها لَم تعُد قادرة على محاسبة أبي أو مُعاقبته. إضطررتُ لتعلّم الإعتناء بنفسي منذ صغري، أي البقاء نظيفًا قدر المُستطاع وتحضير أكلي لوحدي. كيف تركَتني والدتي أُشعِل النار تحت المقلاة أو الحلل هكذا، أو استعمال الغسّالة والأدوات الكهربائيّة مِن دون مُراقبة، في حين لَم أكن سوى في الخامسة مِن عمري؟ لستُ أدري. إلا أنّها كانت قد قرّرَت أنّ حياتها مِن دوني كانت أفضل.

وحين علِمتُ بظروف موت أبي، شعرتُ بخجل كبير وفهمتُ سبب كره أمّي للدّنيا بأسرها. حاولتُ أن أعذرها إلا أنّها لَم تُتِح لي الفرصة لأفعل، بل زادَت شرًّا مع الوقت إذ قرّرَت أنّ عليّ أن أخدمها ما دمتُ حيًّا، وكان عليها تحمّل وجودي معها. وهكذا صرتُ أُنظّف وأغسل الصحون والملابس وأكوي وأُحضّر بعض الأكلات. ومرَّت سنوات على هذا النحو لَم أسمعَ خلالها مِن والدتي أيّة كلمة جميلة أو عربون شكر. كنتُ عبدها وحسب.

بقيَت خالتي على صلة بي عبر الهاتف، وكانت تختار وقت قيلولة أمّي لتتّصل بي ونحكي قليلاً. كنتُ أخبُرها عن عذابي وهي تحثُّني على الصبر، وتعدُني بأنّ الأمور ستختلف حين أكبر، وأنّ ما يهمّ في الوقت الحاضر هو التركيز على دراستي. كنتُ أبكي حين تُقفل خالتي الخطّ لأنّ ذلك كان يُرجعُني إلى واقعي المرير.

لَم يكن مسموحًا لي أن أرى أصدقائي خارج الدوام المدرسيّ، فكنتُ أجلسُ في غرفتي بعد أتمام واجباتي المنزليّة. رفاقي الوحيدون كانوا كتبي المدرسيّة والروايات التي كانت موجودة في البيت والتي كانت أمّي تقرأها قبل الفاجعة. أذكرُ أنّني كنتُ أخافُ كثيرًا وأنا في سريري ليلاً مِن أن تأتي والدتي وتقتلُني أثناء نومي. فكان مِن الواضح أنّها تكرهُني وتتمنّى أن أختفي مِن عالمها.

في العلَن، أي خلال تواجدنا النادر بين الناس وأمام الجيران، كانت والدتي تتصرّف وكأنّها الأمّ الحنونة التي تخاف على إبنها وتُكرّس له حياتها، أي أنّها كانت تروي لمَن أرادَ سماعها أنّها تعيشُ مِن أجلي وتتفانى بخدمتي. وكانت تنظرُ حينها إليَّ بحبّ وحنان، وتُغرقُني بتلك الكلمات الجميلة التي تمنَّيتُ لو تقصدها ولو للحظة. أرَدتُ مرارًا فضحها وإخبار الدنيا بأسرها عمّا يجري حقًا داخل جدران بيتنا، إلا أنّني أدركتُ باكرًا أنّ لا أحد سيُصدّقني بل سيقولون عنّي إنّني إبنٌ عقوق. وحدها خالتي كانت تعلم الحقيقة وهي كانت، للأسف، بعيدة.

نتائجي في المدرسة كانت عظيمة، وذلك كان عزائي الوحيد ونافذتي إلى مُستقبل قد يكون أفضل مِن حاضري. أمّي لَم تكن تُريدُني أن أدخل الجامعة، إلا أنّني أقنعتُها بذلك قائلاً: "إن دخلتُ الجامعة فسأكون غائبًا عن البيت لوقت طويل، أي بعيدًا عنكِ خلال مُعظم النهار والليل لأنّني سأجدُ أيضًا عملاً لأدفع أقساطي، وأُعطيكِ كل ما تبقّى... إنّها صفقة رابحة صدّقيني". كنتُ أعلم تمام العلم أنّ والدتي تكره رؤيتي أمامها، وأنّ الفكرة ستُعجبُها، ناهيك عن حصولها على المال الإضافيّ بعد أن بقيَت تردّدُ لي لسنوات أنّها تصرفُ عليّ مالاً لا أستحقّه.

 


إخترتُ إدارة الأعمال كإختصاص لي، ووجدتُ عملاً بسيطًا في أحد المطاعم ليلاً. للحقيقة أنا الذي كان سعيدًا لعدَم تواجدي في البيت، إذ أنّني صرتُ أختلطُ بالناس، الأمر الذي ساعدَني على بناء شخصيّة عمِلَت أمّي على تحطيمها.

هدفي كان واحدًا: التفوّق في دراستي الجامعيّة لنَيل منحة تخوّلني السفر لإكمال تخصّصي في الخارج، وبالذات في البلد نفسه التي تعيشُ فيه خالتي. فجامعتي كانت مُتعاقدة مع جامعة أوروبيّة، وتُرسل أفضل طلابها على نفقتها إلى تلك الجامعة العريقة.

لَم يكن الأمر سهلاً، نظرًا إلى كوني أعمل إلى جانب دراستي وذلك حتى آخر الليل. لَم يكن يتبقّى لي سوى ساعات الفجر لمُراجعة درسي والقيام بفروضي. إلا أنّني لَم أستسلِم بل زدتُ عنادًا. لَم يكن مِن المسموح لي تفويت فرصة لن تأتي ثانية. فلقد أردتُ الفرار مِن سجني مهما كلّفَ الأمر.

مِن جانبها، كانت أمّي في قمّة السعادة، لأنّها لَم تعُد تراني بتاتًا، فحين أعودُ في الليل إلى البيت تكون هي نائمة، وعندما أخرج منه تكون نائمة أيضًا، وهي مُعادلة كانت تُرضينا معًا.

علِمَت خالتي بخطّتي وكانت فرحتها لا تُقاس. صحيح أنّ الكليّة الموجودة في ذلك البلد كانت في مدينة بعيدة عن التي تعيش هي فيها، إلا أنّ معرفة تواجدي في البلد نفسه وبعيدًا عن أختها كانا أمرَين كافيَين للاطمئنان عليّ.

خلال دراستي في الجامعة تعرّفتُ إلى صبيّة أحبَّها قلبي كثيرًا وهي بادلَتني ذلك الحبّ. وخفتُ ألا أكون قادرًا على التعبير لها عن شعوري، فلَم يُحبّني أحدٌ فعليًّا. إلا أنّ مشاعري أتَت إليّ بالفطرة، فأعطَيتُها لِحبيبتي أيضًا بالفطرة، ونجحتُ في تكوين حياة عاطفيّة لنفسي، الأمر الذي كان بعيدًا كلّ البعد عن بالي. فلَم أتصوّر يومًا أن أكون سعيدًا مع إمرأة.

علاماتي كانت جميعها مُمتازة، ويوم استدعاني مُدير الجامعة إلى مكتبه، كنتُ أعرفُ مُسبقًا لأيّ غرَض أرادَ رؤيتي. أجل، حصلتُ على المنحة، ولم يكن عليّ سوى انتظار شهرَين قبل حَزم أمتعتي والركوب في الطائرة. بكيتُ كثيرًا كالسجين الذي يُفرجون عنه بعد أكثر مِن عشرين سنة في حين هو لَم يقترِف أيّ ذنب. وفي ذلك اليوم، أيقَنتُ قوّة عزم الإنسان وقدراته، وفهمتُ أنّ لا حدود لِما أنوي فعله إن أردتُ ذلك.

توديع والدتي لَم يكن صعبًا أبدًا. أخبرتُها بأنّني سأتركُ البيت وأُسافر بعيدًا، وهي أجابَتني بأنّها لا تُبالي للأمر لكن عليّ إرسال المال لها لأنّها أمّي وتعِبَت عليّ. ضحكتُ لذلك الوصف وأكّدتُ لها بأنّني لن أتركها مِن دون مال. وداعي لحبيبتي كان مليئًا بالدموع والأمل والوعود في آن واحد، وهي بدورها أقسمَت لي بأنّها ستنتظرُني مهما طالَ الوقت. سافرتُ وقلبي خفيف لمُلاقاة مُستقبلي.

إنتظرَتني خالتي في المطار، وكانت مُعانقتنا طويلة ومُفعمة بالشوق والحبّ. ومَن رآنا في ذلك اليوم، ظنّ حتمًا أنّها أمّي وأنا إبنها. ساعدَتني خالتي للاستقرار في حرَم الجامعة، وأوصَتني بالإنتباه لنفسي واتّفقنا أن أزورها في كلّ نهاية أسبوع.

أنا اليوم مدير عام شركة أوروبيّة كبيرة. لقد حقّقتُ حلمي بأصغر تفاصيله، وأستطيع القول إنّني رجل سعيد. فبعد إنهاء تخصّصي، إختَرتُ عملاً ومسكنًا في المدينة التي تعيشُ فيها خالتي لأكون على مقربة مِن الوحيدة التي أحبَّتني فعلاً وساعدَتني. جلَبتُ حبيبتي إلى حيث أنا وتزوّجنا وأنجبنا ابنًا جميلاً. بقيتُ أُرسل المال لأمّي بانتظام، لكنّها لَم تسأل يومًا عنّي وعن أحوالي بل اكتفَت بقبض المال.

فلَم يَلِن قلبها بل بقيَ مِن حجر، لكثرة حقدها على أبي وامتعاضها مِن الذي فعلَه بها. هذا ما يحصل لمَن لا يتغلّب على ضربات الحياة ويبقى عالقًا في عالم مِن الحقد والكبرياء. فهي لَم ترَ يومًا هنيئًا بل كرّسَت حياتها للبحث عن كبش محرقة للإنتقام منه على ما فعَلَه غيره بها. لَم أحذُ حذوَها، بل تغلبّتُ على عذابي وتساؤلاتي، لأصنَعَ لنفسي حياةً مليئة بالحبّ والنجاح.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button