درس لن ينساه أبي

إخترتُ العَيش مع أبي بعد انفصال والدَيّ، لأنّ الإبنة تفضّل عادةً والدها على أمّها، ولأنّه لطالما كان يُجيد التعامل معي على عكس والدتي التي كانت توبّخُني باستمرار ولا تفوّتُ فرصةً لِمنعي عن الذي اُريدُ فعله. كنتُ في السادسة عشرة آنذاك، وتحمّستُ لِفكرة الإنتقال إلى شقّة أكون لوحدي فيها مع أبي.

بقيتُ طبعًا أزورُ والدتي وبدأَ البعُد يُحسّنُ علاقتنا. لَم أعرِف سبب طلاق والديَّ بالتحديد، ولَم أُشغِل بالي بالأمر بعد أن سئمتُ مِن مُشاجراتهما غير المُتناهية، لكنّني علِمتُ السبب لاحقًا أي بعد ثلاثة أشهر مِن مكوثي في شقّة أبي... وكان السّبب إسمه "داليا".

كانت تلك المرأة جميلة للغاية... وشابّة على عكس أمّي. للحقيقة، لَم أستلطفُها حين جلبَها أبي إلى البيت ليُعرّفها عليّ، لكنّي لَم أُظهِر شيئًا كي لا أفقِد حبّ والدي الذي كان مفتونًا بِداليا إلى أقصى درجة. تبادَلنا بضع كلمات ومِن ثمّ دخلتُ غرفتي بحجّة إنهاء فروضي المدرسيّة. لكنّ قلبي كان قد امتلأ بالحزن على والدتي وعلى نفسي بعدما فهمتُ أنّ هناك مَن سيُقاسمُني أبي. تمنَّيتُ طبعًا أن تكون تلك مرحلة عابرة، إلا أنّ والدي كان مُغرمًا بِداليا بالفعل وينوي الزواج منها، ومَن يدري، إنجاب الأولاد معها.

عندما استيقظتُ في اليوم التالي خطَرَ ببالي أن تكون داليا جزءًا مِن حلم رأيتُه خلال الليل، لكنّ والدي كان بانتظاري في المطبخ لتناول الفطور معي وليسألَني مُبتسمًا عن رأيي بِضيفتنا. وهو أصرَّ على إجابة منّي قائلاً:

 

- أتمنّى أن تحبّيها لأنّها ستعيش معنا قريبًا... أجل، سنتزوّج بعد أسبوع.

 

لَم أتصوّر أنّ يُقرّرَ أبي الزواج مُجدّدًا بهذه السرعة، لكنّه كان قد دبَّرَ الأمر منذ حوالي السنة أي عندما كان لا يزال مع أمّي. أجبتُه بأنّني وجدتُها جميلة ولطيفة، وهو أكَّدَ لي أنّها إنسانة رائعة وستثبتُ لي الأيّام ذلك. تمنَّيتُ له السعادة، فما عساني أفعل غير ذلك؟ رفضي لِزواجه كان يعني رجوعي إلى أمّي، الأمر الذي لَم أكن أُريدُه. لِذا قرّرتُ إعطاء داليا فرصةً لتُبيّن لي حسن نوياها.

 


تزوَّجَ أبي مِن داليا التي جاءَت إلى البيت مُحمّلةً بالحقائب. رحَّبتُ بها وهي شكَرتني على ذلك. وبعد أن وضعَت أمتعتها في خزائن الغرفة الزوجيّة قالَت لي داليا بِلطف:

 

- أنا لا أُريدُ أخذ أبيكِ منكِ أو أخذ مكان والدتكِ... إعتبريني صديقةً وحسب. أعدُكِ بألا أتدخّل في حياتكِ أو بِعلاقتكِ بِأبيكِ. سترَين... سنعيش نحن الثلاثة بِسلام ومحبّة.

 

طمأنَني حديثها ورجَوتُ أن يكون صحيحًا.

بقيَت داليا على وعدها لي، إلا أنّها تجاهلَتني كُليًّا وتصرّفَت وكأنّني غير موجودة بتاتًا. هل كانت بذلك تبيّنُ لي أنّها لا تُريدُ التدخّل بِحياتي بِداعي احترام خصوصيّتي؟ شعرتُ بالوحدة، فقد كان أبي مُنهمكًا بِعروسه ويعيشان حبّهما وكأنّهما لوحدهما في البيت. للحقيقة، لَم يكن هناك ما أشكو منه، فكانت طلباتي تُنفّذ كلّها.

مِن جانبها، غرِقَت أمّي بكآبة صامتة وزياراتي لها باتَت تُزعجُني، لأنّني كنتُ أقضي وقتي معها أحاولُ مواساتها، وذلك حملٌ ثقيلٌ على فتاة بسنّي.

باختصار، لَم أكن سعيدة. كنتُ ضائعة بين أمّي التي لَم تقبَل أن يجِد زوجها الحبّ وبين أبي الذي نسِيَ أمري. حاولتُ التقرّب مِن داليا التي وعدَتني بأن تكون صديقتي إلا أنّها استمرَّت بِتجاهلي خاصّة بعد أن علِمَت بِحَملها.

وذات يوم، عرّفَتني داليا على ابن خالتها، شابٌ وسيمٌ إسمه فارس. لَم نسمَع به مِن قَبل لأنّه كان يعيشُ في الولايات المتّحدة حيث يعمل في البورصة. هو قرَّرَ زيارة البلَد ليَجِد لِنفسه عروسًا. وخطَرَ ببال داليا أن يكون فارس زوجًا مناسبًا لي. فرِحَ والدي للأمر خاصةً بعدما تعرّفَ إليه ووجدَه شابًّا مسؤولاً ومُكتفيًا مادّيًّا لكنّه لَم يُجبِرني على شيء. لَم يكن بِحاجة إلى ذلك، فلقد أُعجِبتُ على الفور بِفارس الذي كان يعرفُ كيف يُسوّقُ نفسه.

هل كان افتتاني بِفارس له دخل بالأجواء العائليّة التي كنتُ أعيشُ فيها وقدوم طفل إلى العائلة؟ بالطبع، لذلك أمِلتُ أن أجِد أخيرًا مكاني في قلب أحد وأن أبتعدَ قدر المُستطاع عن أبي وزوجته وأمّي.

صارَ فارس يزورُنا باستمرار، ونجلسُ سويًّا ويروي لي مُغامراته في أمريكا ويأتي لي بالهدايا الثمينة، وينظرُ إليّ وكأنّني الفتاة الوحيدة في الكون أسره. وقعتُ في حبّ ذلك الشاب ولَم أشعر بأيّ ذنب، فكان حبّي هذا مسموحًا لا بل مرغوبًا به مِن قِبَل الجميع. لِذا قبلتُ بِفارس بِسرور وتزوّجنا. أقامَ لنا أبي فرَحًا كبيرًا حضرَته والدتي طبعًا. كنتُ سعيدة أن يكون زواجي قد لمّ شَمل العائلة ولو ليوم واحد.

قضَينا شهر عسلنا في البلد لأنّ فارس كان مُشتاقًا لِوطنه، بعدما قضى سنينًا طويلة بعيدًا عنه ووجدتُ الأمر رومانسيًّا للغاية. ومِن ثمّ استأجّر زوجي شقّةً جميلةً حيث مكثتُ بينما هو عادَ إلى الولايات المُتحّدة ليُنهي أوراقي القانونيّة كي أتمكّن مِن اللحاق به. لكنّ فارس عادَ ومعه خبرٌ سيّئ: كان قد خسِرَ كلّ شيء في البورصة فجأةً وينوي العَيش بِصورة دائمة في البلد. تفاجأتُ بالخبر لكنّني لَم أزعَل كثيرًا، فكنتُ قد بدأتُ أسأل نفسي إن كنتُ قادرة على تَرك وطني وذويّ وأصدقائي والعَيش في مكان لا أعرفُه مع زوج لا أعرفُه هو الآخر.

وُلِدَ أخي مِن أبي وأحبَبتُه كثيرًا على عكس ما اعتقدتُ، لكنّ داليا لَم تكن تسمحُ لي بالإهتمام به أو حتى حَمله بين ذراعيّ. بقيَ فارس يُفتّش عن عمل جديد حتى أن نفَذَ المال الذي كان بِحوزته وصارَ على الحضيض. عندها طلَبَ زوجي منّي أن أُكلّم أبي كي يُساعدنا إلى حين يتمكّن مِن الوقوف على رجلَيه مِن جديد. لَم أضطّر لأن أتحدّث مع والدي بالأمر، فقد سبقَتني داليا إلى ذلك وصارَ والدي يمدُّنا بِمبلغ شهريّ.

كيف كانت علاقتي مع زوجي؟ فاترة بِمعظم الأحيان. فمنذ عودته بِصورة نهائيّة مِن أمريكا كان فارس يقضي وقته خارج البيت يفتّشُ عن مصدر رزق أو بِصحبة أصدقائه. لَم أوبّخه لأنّني كنتُ أعلم أنّ حالته النفسيّة كانت بأدنى مستوياتها بسبب أفلاسه وتمنَّيتُ أن يعود كما في السابق معي أي مُغرمًا بي.

 


بعد حوالي الستّة أشهر، عادَ فارس إلى البيت مُبتسمًا على عكس عادته، وأطلعَني على مشروع كبير قد يُنشلُنا مِن الفقر. لكن كان عليّ التصرّف، أي الطلَب مِن أبي أن يُعطينا مبلغًا كبيرًا ينطلقُ منه فارس ليجني المال الوفير. كان سيُعيدُ لوالدي استثماره بِوقت قصير وبأضعاف عديدة.

آمنتُ بِزوجي وكذلك أبي، خاصّة أنّنا سمِعنا مِن داليا عن مهارته بالتعامل بالعملة والأموال، لذلك أعطاه والدي ما طلبَه فارس وسافَرَ هذا الأخير إلى الولايات المُتحّدة... ولَم يعُد.

في البدء بقيَ زوجي على اتّصال هاتفيّ معي يُطمئنني على سَير العمل هناك إلى أن انقطعَت أخباره. ظننتُ طبعًا أنّ مكروهًا حصَلَ له لكنّ داليا أخبرَتني أنّ فارس بألف خير. وعندما سألتُها عن سبب انقطاع التواصل بيني وبين إبن خالتها قالَت لي أمام أبي:

 

ـ الحقّ يقَع عليكِ... لَم يعد يتحمّل فارس سوء مُعاملتكِ له.

 

ـ ماذا؟!؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ أنا أسأتُ مُعاملته؟

 

ـ أجل وكان يشتكي منكِ منذ البدء، إلا أنّني بقيتُ أطلبُ منه التريّث إلى أن طفَحَ كيلَه.

 

ـ ما الذي فعلتُ له؟!؟

 

ـ لن أقول شيئًا أمام أبيكِ لكن عليكِ أن تخجلي مِن نفسكِ. لقد عرّفتُكِ إلى أعزّ شخص على قلبي، وماذا فعلتِ؟ كنتِ زوجة سيّئة له! مِن حِسن حظّنا أنّكِ لا تعيشين معنا فأنتِ فتاة مُفتِنة تُضمرين الشرّ لمَن حولكِ.

 

ـ لِما لا تقولين إنّ ابن خالتكِ أخَذَ مال أبي واختفى به؟

 

إستدارَت داليا نحو والدي وقالَت له:

 

ـ أترى ما تريدُ فعله تلك الأفعى؟ ألَم أقل لكَ؟ مِن فضلكَ حبيبي، لا أريدُ أن تأتي إبنتكَ إلى هنا بعد الآن فأنا أخافُ على زواجنا منها وعلى طفلنا.

 

نظرتُ إلى أبي مُنتظرةً منه أن يقولَ شيئًا لكنّه بقيَ صامتًا. عندها صرختُ به:

 

ـ ما بكَ؟!؟ أنا ابنتكَ! ألا ترى ما يحصل؟ لقد أخَذَ فارس مالكَ وقد يكون قد أعطى زوجتكَ نصفه ورحَلَ بحجّة أنّني سيّئة؟!؟ داليا فعلَت كل ذلك لأبعادي والإستفادة منكَ قدر المُستطاع! قُل شيئًا!

 

ـ مالي هو ملك زوجتي وإبني... داليا على حقّ... أنتِ مصدر مشاكل ومِن المُستحسَن أن تعودي إلى أمّكِ.

 

رحلتُ إلى والدتي على الفور ورويتُ لها كلّ ما حصل وبكينا سويًّا. هي أخبرَتني أنّ سبب انفصالها وأبي كانت علاقته بِداليا التي لَم تتقبّلها طبعًا. قطعتُ صِلَتي بِوالدي وهو لَم يسأل عنّي لكنّه بقيَ يُرسِل لنا المال. وعندما وصلَتني أوراق الطلاق مِن فارس، شعرتُ بارتياح كبير، لأنّني صرتُ قادرة على طَيّ صفحةً مِن حياتي لَم يكن يجدرُ بها أن تُكتَب.

مرَّت حوالي السنتَين عشتُ خلالها مع أمّي بِسلام وألفة تامّة، مُركّزةً على دراستي الجامعيّة حين فاجأنا أبي بِزيارته لنا. كان مُحبطًا لأقصى درجة ويُمسكُ بيَده إبنه الصغير. أدخلَتهما والدتي وأبي بكى لأوّل مرّة أمامنا. ثمّ قال لنا:

 

ـ تركَتني داليا... وتركَت إبنها. كيف لَم أرَ الذي يحصل؟!؟ كيف فضّلتُها عليكِ وعلى أمّكِ؟ لقد حاولتُ إشباع غروري وذكوريّتي، الأمر الذي أعمى بصيرتي. رحَلت داليا بعدما أفرغَت حسابنا المصرفيّ بكامله. كانت قد طلبَت منّي أن أضَع كلّ مالي في حساب مُشترك كَعربون ثقة بيننا وأنا نفذّتُ رغبتها هذه. يا لِغبائي! مِن أيّ صنف هي لِتترك إبنها هكذا؟ ما ذنبه؟ لقد ظلمتُكما وظلمته وأنا آسف.

 

عندها أجبتُه:

 

ـ ستجِدها في الولايات المُتحّدة مع إبن خالتها إن كان فعلاً قريبها، فمَن يدري؟ لقد فكّرتُ مليًّا بأمر زوجي السابق وأعتقدُ أنّه عشيق داليا لكنّني لستُ متأكّدة. إلا أنّ هذا لا يهمّ فلقد رحلا الآن. المهمّ هو ما سيحصل مِن الآن وصاعدًا. أبي، أنتَ رجل ماهر في عملكَ ولن تموت جوعًا ولا نحن. علينا التفكير بأخي.

 

سادَ صمتٌ طويل ثمّ قالت أمّي لأبي:

 

ـ أترك الولد معنا وسنهتمّ به ونُعطيه الحنان والرعاية اللازمَين، فهو طفل بريء لا ذنب له بما فعلَته أمّه. وفي آخر المطاف هو أخ إبنتي.

 

إنفجرَ أبي بالبكاء وحاوَل تقبيل يَد أمّي قائلاَ: "أنتِ إمرأة عظيمة ولا أستحقُّكِ."

 

مرَّت حوالي العشر سنوات على تلك الحادثة ولقد تزوّجتُ وأنجبتُ فتاة جميلة. لا يزال أخي عند أمّي وهو ولد سعيد لا ينقصه شيء. نجتمعُ مع أبي مرّة في الأسبوع عند والدتي، ومَن يرانا لا يُمكنه التكهّنّ بما حصَلَ لنا لِكثرة التحامنا وتوافقنا. وعندما أنظرُ إلى والدَيَّ وهما سويًّا، يصعبُ عليَّ تصديق أنّهما لا يزالان مُنفصلَين. فبالرّغم مِن الذي فعلَه أبي بأمّي وبعُده عنها، مِن الواضح أنّ بينهما رباطًا قويّ لَم تقوَ عليه داليا. فأنا كنتُ واثقة مِن أنّه كان سيعودُ إلينا في كلّ الأحوال.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button