درس أعدّه الله لابني

المشاكل التي دارَت بين ابني سالم وزوجته بلغَت نقطة اللاعودة، الأمر الذي أحزنَني إلى أقصى درجة، فهما كانا على وفاق تام إلى حين سافَرَ سالم إلى الخارج بسبب الأوضاع الاقتصاديّة التي ضربَت بلادنا. وبدأَت الأمور تتالى لأنّ سالم اعتقَدَ نفسه عازبًا وصارَت له علاقات غراميّة اكتشفَتها زوجته، ووقفَت بالطبع في وجهه طالبةً منه الكفّ عن الذي يفعله أو العودة. فالمسكينة كانت تتحمّل لوحدها مسؤوليّة أولادها الثلاثة ومُتطلّبات البيت. حاولتُ التحدّث مع ابني عبر الهاتف بشأن الذي يفعله، إلا أنّه كان عدائيًّا معي لِدرجة أفزعَتني، وبالكاد استطَعتُ التعرّف إلى الرجل الهادئ والمُحِبّ الذي ربَّيتُه على أسُس سليمة وخلوقة. كيف تحوّلَ سالم بهذه السرعة إلى إنسان أنانيّ يركضُ وراء شهواته؟ لستُ أدري.

وبعد أشهر قليلة، قرَّرَت كنّتي الانفصال عن سالم، ولَم أقدِر سوى الموافقة على هذه الخطوة على أمَل أن يُعيد ذلك لابني رشده.

لكنّ سالم لَم يتّعِظ بل وجَدَ أنّه أصبَحَ أكثر حرّيّة للعَيش كما يحلو له. وهو لَم يعُد يُجيبُ على مُكالماتي خوفًا مِن سماع التأنيبات. تركتُه وشأنّه بعد أن أقنَعتُ نفسي بأنّه سيهدأ مِن تلقاء نفسه لكنّ بالي بقيَ مشغولاً به على الدوام.

لَم أترُك كنّتي وأحفادي بل زرتُهم يوميًّا تقريبًا وواسيتُ زوجة ابني لأساعدها على مُسامحة سالم حين يعودُ إليها. فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّهما سيرجعان إلى بعضهما بعد أن تبتعد عنهما تلك الغيمة السوداء. خلتُ حقًّا أنّني أعرفُ ابني تمام المعرفة لكنّني كنتُ مُخطئة. فهو أقامَ دعوى طلاق ضدّ زوجته مُطالبًا بحضانة أولادهما الحصرّية. مرّة أخرى وقفتُ بوجهه، فكانت كنّتي أمًّا مثاليّة. على كلّ الأحوال أرى أنّ جميع الأولاد يجب أن يربوا مع أمّهم، إلا في حالات استثنائيّة طبعًا.

حاوَلَ سالم "شراء" أولاده، أيّ أنّه عرَضَ على طليقته مبلغًا مِن المال لا بأس به، لكنّها رفضَت. لكن ما كان سرّ تعلّق سالم بالأولاد فجأةً؟ صحيح أنّه كان يُحبّهم لكن ليس بصورة خاصّة. وكيف له أن يُربّيهما لوحده؟ لوحده... ما لَم أكن أعرفُه في تلك الفترة هو أنّه تعرّفَ في الغربة على امرأة مِن بلدنا كانت تعيشُ هناك هي الأخرى واتّفقا على الزواج. وعلِمتُ لاحقًّا أنّها لا تستطيع الإنجاب، وكانت السبب لإصرار ابني على الحضانة، فهي أرادَت وضع يدها على عائلة غيرها، الأمر الذي لَم أكن لأقبله أبدًا! لو كانت كنّتي ميتة، لا قدَّرَ الله، لفرِحتُ لوجود أمّ بديلة لأولادها، لكنّها لا تزال حيّة وبألف خير!

 


خسِرَ سالم دعوى الحضانة ولَم أتفاجأ أبدًا، فسيرة كنّتي كانت مُمتازة وحجّة ابني بأنّه قادر على تأمين حياة أفضل لأولاده في الخارج لَم تُقنِع القاضي بل العكس، فهو أعطى الحضانة لوالدتهم مِن دون أيّ اعتبار لأعمارهم. غضِبَ سالم لأقصى حدّ مُعتبرًا ذلك عثرة في درب سعادته مع التي تزوّجَها في الخارج، والتي كانت تنتظرُ بفارغ الصبر وصول "أولادها الجاهزين".

وحصَلَ ما لَم أظنّه مُمكنًا.

فذات يوم، وصَلَ سالم بيتي ومعه أولاده الثلاثة. تفاجأتُ كثيرًا لقدومه معهم، فسألتُه طبعًا إن كانت أمّهم على علم بما يجري. فأجابَني:

 

ـ إسمعي... أنا إبنكِ لا هي!

 

ـ وأنتَ مُخطئ بالذي فعلتَه بها وبعائلتكَ يا حبيبي. وكلّ ذلك بسبب امرأة بلا...

 

ـ إيّاكِ أن تُهيني زوجتي! سيبقى الأولاد عندكِ حتى الغد وإيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة لأحد!

 

ـ ماذا تنوي فعله؟!؟

 

ـ سأُهرّبُهم إلى ما وراء الحدود برًّا، ومِن ثمّ نركب الطائرة إلى حيث أعيشُ وزوجتي.

 

ـ لن أسمَحَ بذلك! والقانون نفسه لن يسمَح لكَ بخطف الأولاد مِن أمّهم!

 

أدخَلَ سالم أولاده إلى إحدى الغرَف، وعادَ ليقول لي بنبرة غريبة ونظرة أخافَتني:

 

ـ إن وقفتِ في دربي سأقتلُ الثلاثة! أقسمُ بالله...

 

ـ أسكُت! ما الذي جرى لكَ؟!؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ تُهدِّد بقتل أولادكَ يا سالم؟ أين ذهَبَ ابني العاقل والمُحبّ؟ ما الذي فعلَته بكَ ولكَ تلك الساحرة؟ هؤلاء قطعة منكَ! أيّ أب أنتَ؟!؟ إستغفِر الله وأعِدهم إلى أمّهم!

 

ـ لن يحصَلَ ذلك! وإن رفضتِ كتمان الأمر، ستكونين السبب بإراقة دمائهم!

 

للحقيقة خفتُ كثيرًا على أحفادي، فكما دمَّرَ أبوهم العائلة بأسرها وخطَّطَ لخطفهم، بإمكانه أذيّتهم، فمِن الواضح أنّه فقَدَ صوابه كليًّا.

دخلتُ الغرفة حيث كان الأولاد ورتّبتُ لهم مكانًا ليناموا فيه، وحضّرتُ لهم قالب حلوى لذيذ آملةً بأنّ يُزيل ذلك بعض القلَق الذي كان بائنًا على وجوههم. طمأنتُهم بأنّه سيرون أمّهم قريبًا، لكنّني لَم أكن مُتأكّدة مِن الذي أقولُه. يا رب! أنِر عقل ابني!

رحَلَ سالم لبضع ساعات وعادَ لتناول وجبة العشاء معنا. كانت كنّتي قد اتّصلَت بي مئة مرّة بعد أن قيل لها في المدرسة إنّ أباهم جاء ليأخذهم حين هي انتظرَتهم أمام المدخل فترة طويلة. أرادَت المسكينة طلَب الشرطة فأقنعتُها بألا تفعل، ليس خوفًا على إبني مِن السجن وحسب بل لأنّني وثقتُ بربّي وأوكلتُه مساعدتي.

 


وعدتُ كنّتي بأنّني سأُعيدُ لها أولادها بأسرع وقت وطلبتُ منها الوثوق بي. فهَل خذلتُها مِن قبل؟ للحقيقة، كنتُ قد أعدَدتُ خطّة بديلة في حال لَم يعدُل ابني عمّا في باله وهي الادّعاء بالإصابة بنوبة قلبيّة حادّة لينشغلَ بي. هل كان حبّه لي يفوقُ حبّه لزوجته الجديدة ورغبته بإيذاء طليقته؟ لَم أكن أعلَم الجواب. إلا أنّني لَم أحتَج لمعرفة ذلك الجواب فلقد تدخَّلَ الله، سبحانه وتعالى.

في تلك الليلة، نامَ أخيرًا أحفادي بعد أن بكوا كثيرًا وسألوني مئة سؤال، ورحتُ بدوري أنام في غرفتي. عادَ سالم بعد أن خرَجَ مجدّدًا ولَم يشأ إيقاظي أو أولاده فافترشَ الأريكة الموجودة في الصالون.

وبعد حوالي الساعتَين، شعرتُ بأحد يصعدُ إلى سريري. كان حفيدي الصغير قد استيقظَ وسط الليل خائفًا، وأحبَّ الشعور بالأمان بالنوم بالقرب منّي. قبّلتُه وعانقتُه بقوّة، وبعد دقائق قليلة لحِقَ به أخواه وصرنا كلنّا نائمين مُتعانقين. بكيتُ بصمت، فهؤلاء المساكين أدركوا أنّهم قد لا يرون أمّهم بعد ذلك، فلا بّد لهم أنّهم سمعوا أباهم وهو يقولُ لي إنّه سيأخذُهم بعيدًا.

مرَّت ربمّا ساعتان وعمَّ السكوت البيت كلّه، حين سمعنا صوتًا رهيبًا لَم أسمعه مِن قَبل بتاتًا. صَرَخَ الأولاد عاليًا وقفزتُ كالمجنونة مِن السرير لأرى ما الذي يحدُث. لَم أكن أحلم، فحتى سالم قامَ عن أريكته ودخَلَ غرفتي مُستفسرًا. كنّا جميعًا بخير، فمِن أين أتى الصوت الذي كان يُشبه دويّ قنبُلة؟

رحنا جميعًا إلى الغرفة التي كان الأولاد نائمين بها قبل انتقالهم إلى غرفتي، ورأينا مشهدًا بالكاد صدّقناه: كان سقف الغرفة قد سقَطَ بأسره! ومِن جرّاء ذلك، تغطَّت الأسِرّة بالحجارة الثقيلة لدرجة أنّه كان مِن الصعب رؤيتها. أجل، لو أنّ أحفادي لَم يتركوا مكانهم، لَماتوا حتمًا! يا إلهي... وقَفنا مذهولين أمام ما كادَت أن تصبح مقبرة جماعيّة. ومِن السقف الذي هبَطَ، نظرتُ إلى السماء والنجوم شاكرةً الله على نجاة هؤلاء الصغار.

ثمّ نظرتُ إلى سالم ورأيتُه يبكي بحرارة مُعانقًا أولاده الثلاثة. فسألتُه:

 

ـ أنتَ تعلَم أنّ البيت ليس قديمًا كفاية ليهبط سقفه، فلقد بنَيناه بعد ولادتكَ. فما تفسيركَ؟

 

ـ لستُ أدري يا أمّي.

 

ـ وتعلَم أنّه كان مِن المُقدَّر أن ينامَ أولادكَ في هذه الغرفة طوال الليل.

 

ـ أجل يا أمّي.

 

ـ ومِن المنطقيُ أن نقول إنّهم كانوا قد لقوا حتفهم لو بقوا مكانهم.

 

ـ أجل يا أمّي.

 

ـ لكنّهم أحياء وها أنتَ تُعانقُهم. كانوا سيموتون ثلاثتهم! أتسمعُني؟!؟ كانت لحظاتهم الأخيرة ستكون مبلولة بالدموع لابتعادهم عن أمّهم! وكنتَ ستفقدُ ليس فقط أولادكَ بل روحكَ يا سالم! روحكَ!

 

ـ هل تظنّين أنّ...

 

ـ أجل، بل أنا واثقة مِن أنّ للخالق دورًا بما حصَلَ. فلقد صلَّيتُ وطلَبتُ وبكيتُ ورجوتُ منه التدخّل. إن الله يُلقّنٌنا دروسًا قد تكون قاسية أحيانًا لنستفيق ونفهَم. أفهمِتَ؟ أجِبني!

 

ـ سأُعيدُ الأولاد إلى أمّهم في الحال.

 

عادَ أحفادي إلى أمّهم وسالم إلى زوجته وارتاحَ قلبي. واعتبرتُ الذي حصَلَ في تلك الليلة بمثابة مُعجزة، فالمهندس الذي جلبتُه لتفقّد الأضرار وتصليحها، أكّدَ لي أنّ ما مِن سبب لِما جرى فهو لَم يجِد أي صدوع أو رطوبة في المكان، واحتارَ لأمره.

أجل، أؤمِن وبقوّة أنّ الله تدخَّلَ، فهو يسمَع نداءاتنا وهو يرفضُ الظلم على أشكاله. لكنّني مُحتارةً بأمر: هل هو أسقَطَ الحائط ليُعطي سالم درسًا مؤلمًا ويُعيده إلى الطريق الصحيح حتى لو اقتضى الأمر التضحيّة بأرواح ثلاثة؟ أم أنّ ربّي أنقَذَ الأولاد بإيقاظهم ليتركوا الغرفة؟ إن كان الاحتمال الثاني هو الصحيح، فلماذا وكيف سقَطَ السقف إذًا؟ أسئلة مُحيّرة للغاية، لكن قد تكون الإجابة عليها غير ضروريّة، فنحن كبشَر لا يمكنُنا استيعاب خالق الكون أبدًا، والحلّ الوحيد الذي نملكُه هو الإيمان به إلى أقصى درجة لأنّه الوحيد القادر والآمر الناهي.

بعد سنة واحدة طلّقَ سالم زوجته الثانية وعادَ إلى البلد. أرادَ أن يستعيد مكانته كزوج لدى كنّتي لكنّها رفضَت ذلك، فهي لَم تعُد تحبُّه أو تثقُ به. وهل بإمكان أحد لومها؟ إستأجَرَ ابني شقّة قريبة مِن مسكن طليقته وأولاده وهو يراهم يوميًّا. وحين سألتُه لماذا تركَ تلك المرأة وعمله وعادَ، أجابَني:

 

ـ لَم أنفكّ عن التفكير بالذي حصَلَ ليلة سقَطَ السقف يا أمّي، وكيف أنّني كدتُ أن أفقدَ أولادي... كنتُ قد أصبحتُ رجلاً شرّيرًا وأنانيًّا لأقصى درجة. كرهتُ نفسي وقرّرتُ العودة إلى هنا وإلى ما كنتُ عليه قبل أن أفقدَ عقلي. أشكرُ الله أنّه فتَحَ عينيَّ. هل تظنّين أنّه سيُسامحني؟

 

ـ بل أنا مُتأكّدة مِن ذلك، يا حبيبي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button