خطفني وأعد لي مصيراً فظيعاً

كلّما أتذكّر ذلك اليوم المشؤوم، تتسارعُ دقّات قلبي ويضيقُ نفسي، تمامًا كما حدَثَ لي حين ألقى بي باسم في صندوق سيّارته وأقفَلَ الغطاء عليّ تاركَني في الظلمة. أجل، لقد خطفَني ذلك الوحش، لأنّه كان مِن هؤلاء الذين يظنّون أنّ كلّ النساء مُباحة له ويستطيع الإستفادة منهنّ.

بدأ باسم العمَل كجامع قمامة في حيّنا قبل سنة، بعد أن التحقَ بعمّه في المدينة. هو لَم يجد عملاً أفضل بسبب قلّة علمه، إذ بالكاد دخَلَ المدرسة وصبَّ اهتمامه على رعاية مواشي أهل القرية مُقابل بعض المال. لكن مع الوقت، باعَ هؤلاء مواشيهم وقصدوا المدينة، ففرغَت القرية تقريبًا مِن سكّانها.

دقَّ عمّ باسم بابنا ذات مساء وفتَحَ له أبي. رأينا برفقته شابًّا واقفًا وراءه بالكاد ينظرُ إلينا. قال لنا العمّ إنّ باسم سيتولّى لمّ القمامة مكانه مِن الآن وصاعدًا. لَم يتصوّر أحدٌ أنّ إنسانًا بهذا الكمّ مِن الخجَل والتهذيب بإمكانه أن يكون ماكرًا يُخطّطُ ليلاً نهارًا لنَيل مراده. فباسم لَم يكن أبدًا كما ادّعى أمامنا أو حتى أمام عمّه الذي لَم يكن قد رآه على مدى سنوات طويلة.

وهكذا صارَ باسم يأتي في كلّ يوم إلى بابنا ويأخذُ كيس القمامة ليرميه في المُستوعب الذي كان بعيدًا عن المبنى. في بعض الأحيان، كان يضطرُّ لنقر الجرس إن لَم يكن الكيس جاهزًا، وأنا كنت أركضُ آسفةً لتجهيز القمامة بسرعة مُرفقة ذلك بابتسامة لطيفة بداعي التهذيب وتقديرًا لعمله. مِن ناحيته، هو لَم يحدّق فيّ يومًا أو يُسمعني كلامًا غير لائق، بل يكتفي بهزّ رأسه بخجل ثمّ يُسرِعُ بالرحيل. لَم أُلاحظ طبعًا أنّ باسم الهادئ والخجول كان يُراقبني على صعيد يوميّ، ويلحقُ بي إلى الجامعة وإلى حيث أذهب مشيًا على الأقدام. مرّة أو إثنتَين ظننتُ أنّني لمحتُه لكنّني لَم أتأكّد مِن الأمر.

في هذه الأثناء، كان باسم يسكنُ مع عمّه وزوجته في مكان ضيّق ويتقاسم معهم أيّامهم وأكلهم، وسرعان ما أصبَحَ بمثابة إبنهما فهما لَم يُرزقا بولد. كان العمّ قد أوكلَ إليه الإهتمام بلّم قمامة حيّنا ليُؤمّن له عملاً فلا يبقى بلا مدخول بل يشعرُ بأنّه مُنتج. أمّا بالنسبة لوالدَي باسم، فعلمنا لاحقًا أنّهما شعرا بارتياح كبير لدى تركه القرية، فهو إنسان ماكر لا يُشبه بشيء أخوَته بل يتحلّى بطباع حادّة وحبّ فائق لإيذاء مَن حوله مجّانًا. وهي طباعٌ لَم يعرف بها عمّه وزوجته.

 


أمّا أنا، فكنتُ ولا أزال إبنة وحيدة لأبوَين مُحبَّين، فعَلا جهدهما لإعطائي كلّ ما تطلبُه نفسي بالعمَل بجهد وكدّ حتى وصلا إلى درجة اكتفاء لا بأس بها. لَم نكن أغنياء، لكنّ باسم إعتقدَ ذلك بعد أن انبهَرَ بالمبنى الذي نسكنُه وبالأثاث الجميل الذي رآه مرارًا مِن باب المنزل. أرادَ باسم وضع يدَه عليّ وعلى ما نملكه ووسيلته الوحيدة كانت خطفي، فلَم يكن بإمكانه حملي على حبّه أو طلَب يدي بسبب الفرق الإجتماعيّ بيننا.

كان لي صديق أشبه بالحبيب، لكن علاقتنا كانت غير رسميّة لأنّنا لَم نُقرّر إن كنّا سنربط حياتنا سويًّا، بل ركَّزنا على علمنا ومُستقبلنا المهنيّ، وهو كان يقصد منزلنا لندرس سويًّا خاصّة قبل الإمتحانات. كان والدايَ يُحبّانه لأنّه كان مُجتهدًا وجادًّا، وأكّدا لي أنّهما سيُوافقان على زواجنا لو حصَل، أي أنّ حياتي كانت جميلة وواعدة.

لاحظَ باسم أنّ شابًّا كان يتردّد إلى منزلنا، ففهِمَ أنّ لدَيه مُنافسًا فصارَ يلحقُ به.

كان يُبرّرُ باسم غيابه طوال النهار لعمّه وزوجته بأنّه يبحث عن عمل، فافتخرا به حتى لو لَم يجد ما يبحثُ عنه، فالنيّة كانت على الأقل موجودة وتُعبّر عن إرادة لتحسين حالته. إلا أنّ شغل باسم الشاغل كان بكلّ بساطة أنا، وكيفية النَيل منّي ليدخل عالمنا وينعَم بحياة مُريحة. فمخطّطه كان خطفي وإجباري على الزواج منه بعد أن يغتصبني وأرضخُ للأمر الواقع، ولاحقًا طبعًا على حملي على الإنجاب ليفرض نفسه على أهلي مِن خلالي وخلال حفيدهما. هي خطّة بعيدة الأمَد صحيح، لكن هكذا كان باسم، يُعدّ كلّ شيء بحذافيره ويختبئ في الظلام شأنه شأن كلّ مُفترِس.

وفي اليوم المشؤوم، نفّذَ باسم ما في باله.

حصل ذلك في يوم عاديّ وحين كنتُ عائدة كعادتي مشيًا مِن الجامعة. كنتُ سعيدة للغاية بعدما أطلعنا أستاذنا على علامتنا ونلتُ منه تهنئة. كنتُ بعيدة كلّ البُعد عن تصوّر ما سيجري لي بعد دقائق قليلة. ففي لحظة، وحين بلغتُ المُنعطف الذي يُؤدّي إلى حيّنا، شعرتُ بأحد يُمسكُني بقوّة ويحملُني ليرميني في صندوق سيّارة. لَم يتسنّى لي فهم ما يحصل إلا عندما مشَت المركبة. بدأتُ أخبطُ على غطاء الصندوق وأصرخُ بكلّ قوايَ، لكن مِن دون جدوى. كان المشوار طويلاً أو هكذا تراءى لي مِن كثرة خوفي. لَم يخطر ببالي أنّ خاطفي هو باسم ولَم أجد لأحد أيّ سبب لفعل ذلك بي. للحظة ظننتُ أنّ حبيبي أرادَ ان يُمازحني، إلا أنّني عدتُ وأدركتُ أنّه لن يفعل ما قد يؤذيني ولو نفسيًّا.

توقّفَت السيّارة فجأة وسمعتُ بابها يُفتح ثمّ يُقفَل بقوّة، ورأيتُ الصندوق يُرفَع ليظهَر باسم أمامي. أطلقتُ صرخة فوضَعَ خاطفي فوطة في فمي وحملَني عنوةً إلى بيت شبه مهجور. هناك قامَ بربطي على سرير وهو لَم يأبه لحالتي بل راحَ يُحضّر الشاي بهدوء.

بعد حوالي الساعة، سمعتُ دقًّا ناعمًا على الباب، ورجوتُ أن يكون قد سمعَني أحد وجاء ليُخلّصني مِن ذلك الوحش. تفاجأتُ برؤية إمرأة في الستّين مِن عمرها، علِمتُ لاحقًا أنّها زوجة عمّ باسم. هي نظَرت إليّ وأنا مُقيّدة بتعجّب تام وهلَع، وسألَت باسم عمّا يجري وهو قال لها:

 

- إنها إبنة أناس أثرياء... سأفتعلُ بها وأجبرها على الزواج والإنجاب. إنّها أفضل طريقة لتأمين عيشة هانئة.

 

- ما هذا المكان يا باسم؟؟؟؟ جئتُ لأنّكَ قلتَ لي إنّ لدَيكَ مُفاجأة تُحضّرُها لعّمكَ عليها أن تبقى سرّيّة.

 

- لقد استأجرتُه لفترة قصيرة وكذلك السيّارة.

 

- أيّ سيّارة؟

 

- هذا ليس مهمًّا. طلبتُكِ لِتساعديني، فأنا بحاجة إلى مَن يُقنعُ تلك الفاسقة بِعدَم مُعاندتي، فالنساء تفهم بعضهنّ.

 

- بالطبع يا حبيبي، فأنتَ بمثابة إبني وأنا فرحة مِن أجلكَ. إنّها عروس جميلة وهي ستجلبُ لكَ أولادًا جميلين للغاية. أنا فخورة بك!!

 


بدأتُ بالبكاء بعد أن استنتجتُ أنّ المرأة لن تُساعدني بل هي شريكته، وصلّيتُ كي يُنهي الله حياتي قبل أن يُنفّذ باسم ما في رأسه.

راحَت المرأة إلى المطبخ بعد أن رأت أنّ الشاي الذي حضّرَه باسم باتَ باردًا لِتصنع غيره، فأخذَت الإبريق النحاسيّ معها. إلا أنّها استدارَت فجأة واسندَت لباسم ضربة قويّة للغاية بواسطة الإبريق، الأمر الذي ألقاه أرضًا لكنّه بقيَ واعيًا يسألُها عمّا تفعله. عندها عادَت المرأة تضربه بقوّة على رأسه ووجهه حتى فقَدَ أخيرًا وعيَه. ثمّ ركضَت تجلبُ سكّينًا لفكّ رباطي. حصَلَ ذلك بسرعة فائقة لدرجة أنّني بالكاد أستوعب أنّني كنتُ سأصبح حرّة وأنجو مِن خاطفي. صرَخَت بي المرأة: "هيّا! بسرعة! هل تُجيدين القيادة؟!؟ لقد جئتُ بالباص ثمّ مشيًا على الأقدام". شكرتُ ربّي ضمنيًّا أنّ أبي أجبرَني على تعلّم القيادة بالرغم مِن رفضي إقتناء سيّارة!

وجدَت المرأة مُفتاح سيّارة باسم في جيب سرواله وركضنا سويًّا إلى الخارج. قدتُ كالمجنونة حتى بعدما صرنا بعيدتَين مِن ذلك البيت البغيض، ورحنا على الفور إلى قسم الشرطة كي لا يتسنّى لباسم الفرار والإنتقام منّي ومِن زوجة عمّه أو اللجوء إلى مكان لا يعرفه سواه.

في تلك الأثناء، كان أهلي قد فتّشوا عنّي في كلّ مكان، وجنّدوا الشرطة وحبيبي لإيجادي بعدما سألوا عنّي في المستشفيات كلّها. كان مِن الواضح أنّ فقدان أثَري يعني أنّني اختُطِفتُ.

بعد الإستماع إلينا، توجهَّت الشرطة إلى ذلك البيت اللعين ووجدوا باسم يخرجُ لتوّه مِن إغمائه فكبّلوه واقتادوه إلى القسم للتحقيق. عانقتُ ذويّ الذين ركضوا كالمجانين ليروني وشكرتُ التي أنقذتني. هي أسفَت أن يكون باسم قد غشّها لهذه الدرجة وأنّه تصوّر ولو للحظة أنّها قد تصبح شريكته. أضافَت: "عندما رأيتُكِ مُكبّلة هكذا على السرير تخايلتُ لو كنتِ إبنتي، فهل أرضى أن يحصل لها ذلك؟ بالطبع لا بالرغم مِن حبّي لباسم، فلا يجوز أن تُنتهَك الأعراض لأيّ سبب." حقَّقَ المُفتّش مع عمّ باسم واتضَحَ أنّ لا معرفة له بما جرى، فكان إبن أخته يضَع المال الذي يجنيه جانبًا لاستئجار البيت والسيّارة مِن دون أن يُخبر أحدًا بل يُخطّطُ سرًّا لوحده.

شكرتُ ربّي أنّ العمّ وزوجته أناس طيّبون، وإلا كنتُ قد لاقَيتُ مصيرًا بغيضًا للغاية.

حاوَل محامي باسم تصويره وكأنّه مريض نفسيّ، إلا أنّ الخبراء أكّدوا أنّه كان يعلم تمامًا ما يفعله فألقوا به في السجن لسنوات عديدة.

تزوّجتُ مِن حبيبي وعملتُ جهدي لنُسافر بعيدًا، فقد بقيَ في قلبي خوف مِن ردّة فعل باسم حين يخرج مِن السجن. بعد بضع سنوات، لحِقَ بي والدايَ ونحن نعيش اليوم كلّنا سعداء.

هل كان بإمكاني تفادي الوقوع فريسة باسم؟ لا أظنّ ذلك، فهو اختار صبيّة مثّلَت بالنسبة له الراحة الماديّة السريعة، وكان بالإمكان أن تكون ضحيّته أيّ فتاة أخرى. أرجو فقط أن يكون قد تعلّمَ الدرس خلال وجوده وراء القضبان وألا يُعاود محاولته مع أخرى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button