حَرّضَت إبني عليَّ

عندما تزوّجني محسن أخَذَني للعيش مع أخيه وزوجة أخيه. لم أمانع لأنّني كنتُ قد تعرّفتُ إلى سامية ووجدتُها جميلة ولطيفة. ومع أنّها كانت تكبرني ببضع سنوات ولديَها ثلاثة أولاد، تخيّلتُ أنّنا سنؤلّف عائلة واحدة سعيدة ومتناغمة. ولكنّني كنتُ مخطئة.

فبعد قدومي بوقت قصير صارت سامية تغار منّي وبشدّة واستغرَبتُ الأمر لأنّني لم أكن أملك شيئًا لتغار منه. وصارَت تلك المرأة تطالب زوجها بأن يجلب لها ما يشتريه لي محسن وتقلّد طريقتي باللبس والمشي والكلام.

وبدأ الناس يسخرون مِن حركاتها ويتكلّمون عن غيرتها لي، إلى أن قرَّرَت سامية أنّها لا تريد رؤيتي في "بيتها" وأقنعَت زوجها ببناء جدار ومدخل مستقلّ.

إستغربتُ الأمر جدًّا بل وجدتُه مضحكًا ولكنّني قبلتُ به. على كلّ حال لم يكن بمقدوري الرفض، فقد كانت سامية أكبر منّي أي لدَيها الأولويّة بأخذ القرارات. وهكذا صِرنا نعيش في شقَّتَين متلازمتَين داخل بيت واحد، ما حَمَلَ الجيران على الاستهزاء بنا.

وأنجبتُ ولدي الأوّل ومِن ثم الثاني وسط مناخ متشنّج، وركّزتُ على عائلتي ونسيان ما يجري خلف ذلك الجدار. ومنَعَت سامية أولادها مِن الاختلاط بولدَيَّ، وإن حصل ورأتهم يتكلّمون معي أو معهما كانت تبرّحهم ضربًا كي لا يُعاودوا الكرّة.

الأمر الأصعب كان خلال المناسبات العائليّة أو الأعياد الدينيّة، أي عندما كان علينا أن نتواجد سويًّا. في البدء كانت سامية تجلس وتدير ظهرها إليّ ولا توجّه لي الكلام بتاتًا، ومِن ثمّ قرَّرَت عدم المشاركة. لِذا طلَبَ منّي زوجي أن أتناوب معها كي يتسنّى لها الاحتفال مع الباقين. وبالرّغم مِن أنّني وجدتُ الأمر بغاية السخافة، قبِلتُ أن أبقى في البيت خلال نصف الاحتفالات.

 


وبقيَت الأوضاع على حالها إلى حين علِمتُ أنّني حامل بولدي الثالث، أي أنّ سيكون لنا العدد نفسه مِن الأولاد، الأمر الذي حمَلَ سامية على كرهي بشكل لا رجوع عنه. فعندما ساءَت حالتي وأنا في شهري السابع ولم أجد مَن يأخذني إلى المشفى، رفضَت سلفتي مساعدتي. لم يؤثّر بها بكائي وصراخي، بل ركض الجيران على صوتي ووجدوني ملقاة على الأرض وسامية واقفة أمامي تنظر إليّ بشماتة وتقول لي: "أفضّل رؤيتكِ ميتَة على أن أساعدكِ".

ولم يُصدّق الجيران آذانهم، فهم لم يتصوّروا أن يوجد هذا الكم مِن الكره في قلب امرأة، خاصّة أنّ الأمر يتعلّق بحياة امرأة ثانية وربما بجنينها. لِذا حملوني إلى قسم الطوارئ وبقوا معي حتى وصول زوجي. ووُلِدَ ابني الثالث قبل أوانه وكانت حالتي الصحيّة دقيقة جدًّا فلم أكن قادرة حتى على رؤيته بالحاضنة حيث وضعوه ليُكمل نموّه.

عندها أوكَلَ محسن مهام الاهتمام بابننا لسامية بالرغم مِن ممانعتي وبكائي. ولكن لم يكن هناك مِن شخص آخر. فأمّي كانت قد توفّيَت منذ فترة وأختي متزوّجة وتسكن في بلد بعيد. وسكَتُّ كعادتي وقبِلتُ أن تهتمّ عدوّتي بإبني كمال.

عدتُ إلى بيتنا وبقيَت هي تذهب يوميًّا إلى المشفى لتبقى مع كمال، وتحدّثه وتغنّي له كما أملى عليها الأطبّاء أن تفعل. ولتتمكّن سامية مِن قضاء ذلك الوقت كلّه مع ابني، بعَثَت بأولادها إلى أختها وتفرّغَت للقيام بدور الأم.

ولو كانت صحّتي تسمح لي، لركضتُ إلى المشفى وطردتُها مِن المكان الذي هو من حقّي، ولكن لم تتحسّن حالتي الصحيّة بسبب تعقيدات أصبتُ بها بعد الولادة. كنتُ بالكاد قادرة على الذهاب إلى الحمّام وفقدتُ شهيّتي على الأكل.

وجزء كبير مِن مرضي كان سببه معرفتي بأنّ كمال كان مع سامية، لأنّني كنتُ أعلم أنّ ما تفعله لا ينبع مِن حبّها له كونه ابني بل انتقامًا منّي، وكنتُ أخشى عليه منها. تصوّرتُ الأفظع وكنتُ أستفيق في الليالي صارخة بعدما أراها في حلمي تخنق كمال أو تؤذيه بشكل فظيع.

ولكنّها لم تفعل وأتذكّر أنّ زوجي قال لي:

 

ـ سامية عظيمة... تركَت كلّ شيء مِن أجل كمال... كم كنتِ مخطئة بشأنها! قد تصبحان أعزّ الصديقات!

 

ـ هذا لن يحصل أبدًا! أنا امرأة وأفهم بنات جنسي... أشعر أّنّها تحضّر شيئًا... لن أصدّق أنّها تحوّلَت بهذه السرعة... الله يستر!

 


وعاد أخيرًا إبني مِن المشفى ولكنّه ذهَبَ إلى بيت سامية لأنّني لم أكن قد تعافيت بعد، وكانت تأتي به إليّ حين تقرّر هي ذلك أي لبضع دقائق يوميًّا بذريعة أنّني لا أزال ضعيفة. وكان محسن يذهب إلى شقّة أخيه مع ولدَينا ليروا الطفل، ويمكثون هناك لساعات تاركيني لوحدي أبكي مِن القهر.

ولأنّني كنتُ أريد أن أشفى بِسرعة، زرتُ أطبّاء كثر إلى أن وجَدَ أحدهم لي العلاج المناسب بعدما علِمتُ أنّني التقطتُ بكتيريا مِن غرفة العمليات، الأمر الذي يتطلّب علاجًا قويًّا وطويلاً، فتلك البكتيريا تكون عادة قد طوّرَت مناعة على المضادات الحيويّة التقليديّة.

لزمَني حوالي السنة حتى استطَعتُ أخيرًا أن أقف على رجلَيّ والقيام بمهامي كزوجة وكأم. وكانت سامية قد استفادَت مِن تلك الفترة لتربية كمال كباقي أولادها أي على الكره والغيرة.

فعندما عادَ ابني إليّ كان قد بدأ يكرهني ويخاف منّي. إعتقَدتُ أنّه لن يلبث أن ينسى سامية وتعاليمها، ولكنّني كنتُ مخطئة. كيف استطاعَت تلك المرأة أن تدسّ البغض في قلبه الصغير؟ لستُ أدري، ولكنّه لم يحبّني قط. كان يرفض أن أحمله أو أضمّه أو حتى أقبّله. ومع أنّه كان بالكاد يمشي، كان يبذل جهده للذهاب إلى الشقّة المجاورة. وأذكر أنّني أضَعتُه مرارًا لأجده عند سامية أو بالأحرى في أحضانها. وكانت هي تنظر إليّ بانتصار وكأنّها تقول لي: "أخذتُ منكِ ابنكِ ولن تستطيعي فعل شيئًا تجاه ذلك".

حاولتُ المستحيل لاستمالة كمال إليّ، بإعطائه الألعاب والسكاكر وبأخذه في مشاوير إلى الحديقة ومدينة الملاهي ولكن مِن دون جدوى. فقد كان يفرح قليلاً ثمّ يُبدي رغبته بالذهاب إليها. ولم يُحبّ كمال أخوَيه بل أولاد عمّه الذين اعتبرَهم أخوَته الأصليّين. ما كان موقف محسن تجاه ذلك؟ لم يرَ في الأمر أيّ داعٍ للقلَق، لأنّه كان يعتبر أنّنا نؤلّف مع عائلة أخيه بيتًا واحدًا بالرّغم مِن الجدار الذي يفصلنا والذي ردّ سببه إلى "صغر عقلي".

والجدير بالذكر أنّ كمال لم ينادِني ولو مرّة واحدة "ماما". وعندما سمعتُه يقولها عندما تكلّم عن سامية صفعتُه على فمه. لم أستطع تمالك نفسي وندِمتُ كثيرًا لأنّه ركَضَ يختبئ عندها.

ولكنّ الله يُمهل ولا يُهمل وأخَذَ لي حقّي منها. فذات نهار أصيبَت سامية بجلطة نصفيّة، الأمر الذي مَنَعها مِن القيام بأبسط الأمور ومِن بينها طبعًا القيام بواجباتها كأم. وإنعكسَت الأدوار بعدما جاء أولادها إلى بيتنا لأهتم أنا بهم. ولكنّني لم أبادلها بالمثل، فلم أحرّض أولادها ضدّها بل بقيتُ أكلّمهم عنها بالخير وأطمئنهم بأنّها ستتعافى قريبًا. أمّا كمال فتغيّر معي بعدما ابتعَدَ عنها، فصار يجلس بقربي ويكلّمني ويلعب معي ومع أخوَيه.

لم أكن أزور سامية كثيرًا لأنّني، وبكلّ صراحة، لم أكن حزينة عليها. ولكن خلال إحدى زياراتي القليلة لها، نظَرَت إليّ وقالت لي بصعوبة:

 

ـ هل أنتِ سعيدة الآن؟ لقد انتقَمتِ منّي.

 

ـ لا بل الله هو الذي فعل... كرهتِني مِن دون سبب... كان بإمكاننا أن نصبح كالأختَين ولكنّكِ رأيتِ بي عدوّة... قسَمتِ البيت ورفضتِ التواجد معي... لم تسعفيني حين سقطتُ أرضًا بل وقفتِ تتفرّجين عليّ... أخذتِ ابني منّي وحرّضتِه عليّ... هل تعتقدين أنّكِ ستكافَئين على كلّ ذلك؟ أنظري إلى نفسكِ الآن... ولكن بالرّغم مِن الذي فعلتيه بي، فأنا أهتمّ جيّدًا بأولادكِ لأنّني إنسانة طيّبة وأخاف ربّي، على عكسكِ... ستتحسّنين يومًا بفضل العلاج الفيزيائي، ولكن إعلمي أنّني لن أدَعكِ تكملين ما بدأتِه... أمامكِ امرأة مختلفة... فإن اقترَبتِ مِن عائلتي سأعمل جهدي على تدميركِ وبشتّى الطرق... وهذا وعد منّي.

 

نظَرَت إليّ سامية ورأيتُ لأوّل مرّة الخوف في عينيَها. إبتسَمتُ وعدتُ إلى عائلتي منتصرة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button