حياة مليئة بالأكاذيب

دخَلَ فراس أخي حياتي مِن جديد بعد سنوات انقطاع، ولَم أعرِف كيف أشعُر حيال ذلك. فالواقِع أنّ أخي كان إنسانًا مزاجيًّا ذا سلوك لَم يعتَد أيّ فرد مِن عائلتنا عليه، ولطالما هو فاجأنا بأمور وتصرّفات رفضناها وخجِلنا منها، وقد فعَلَ ما يحلو له مُتحَجِّجًا بأنّها حياته ويُريد عَيشها كما يُريد. وفي آخِر المطاف، سافَرَ فراس إلى الخارج، وتنقَّلَ مِن بلَد لآخَر حتّى اختفى تمامًا. للحقيقة، لَم ينشَغِل بالي عليه، لأنّني تزوّجتُ وأنجَبتُ وباتَت عائلتي الصغيرة هي همّي الوحيد، خاصّة وحيدي مازن الذي عنى لي الكثير، لأنّ الأطبّاء قالوا لي إنّني لن أنجِبَ غيره على الاطلاق. مرَّت السنوات بهدوء وكنتُ سعيدة.

لَم أتكلّم كثيرًا عن أخي خلال زواجي، ولَم يكن زوجي يعرفُ الكثير عن فراس سوى أنّه مُغامِر سافَرَ ولَم يعُد. فعندما إتّصَلَ بي فراس قائلًا إنّه في البلَد وطالِبًا رؤيتي وعائلتي، تحمَّسَ زوجي وطلَبَ أن أدعوه لتناول العشاء عندنا، ليسمَع منه قصصًا إستدعَت فضوله. لَم أشارِك زوجي حماسه، فبعد كلّ هذه السنوات شعرتُ أنّ أخي باتَ إنسانًا غريبًا عنّي، فكان بإمكانه الاتّصال بي أو بأهلي مِن حين إلى آخَر بدلًا مِن ذلك الانقطاع الكلّيّ. لكنّ المُسامِح كريم ولذلك دعوتُه إلى بيتنا.

تفاجأتُ بأخي عندما وقَفَ قُبالتي عند الباب، إذ أنّه بدا لي نحيلًا وأكبَر مِن سنّه بسنوات، لكنّني لَم أقُل له شيئًا، بل استقبلتُه بحرارة واضِحة، وكذلك زوجي. نادَيتُ مازن ليُلقي التحيّة على خاله، ثمّ جلَسنا كلّنا في الصالون وبدأ فراس بالكلام عن نفسه وسفراته. إهتّمّ ابني كثيرًا بكلامه، لأنّه كان مُراهِقًا يُحبّ المغامرات كأبيه... وخاله! فوجدتُ نفسي الوحيدة التي لَم تتأثّر بتلك القصص التي وجدتُها أقرَب إلى الخيال. فهكذا كان فراس، يُحبّ أن يُضفي على الأمور قسمًا مِن الخيال ليجعلها أكثر جاذبيّة.

إنتهى العشاء وغادَرَ فراس، وقبَل أن نخلد للنوم، قالَ لي زوجي:

ـ أنتِ قاسية بعض الشيء على أخيكِ، إنّه رجُل مُميّز، وأودّ رؤيته مُجدّدًا خاصّة أنّ مازن أحبَّه. ألّا تعتقدين أنّ مِن حقّه أن يتعرّف أكثر على خاله؟

 

لَم أمانِع لكنّني لَم أكن مسرورة أيضًا، فمَن أكثر منّي يعرفُ أخي؟ أعطَيتُه فرصة ليُثبِتَ أنّه مُخالِف للفكرة الموجودة لدَيّ عنه، وهكذا صارَ فراس يزورُنا باستمرار في المساء ونصطحبُه معنا حين نخرج ليلًا.

في الفترة الأولى، بدأتُ أرى جوانِب إيجابيّة لعلاقة فراس بنا، ففي آخِر المطاف هو كان أخي، أي إنسان كبرتُ معه في بيت واحِد. إضافة إلى ذلك، هو أعطى لعائلتي فرَحًا وحماسًا كان ينقصُنا، فباتَ زوجي وكأنّه مُراهِق وهو برفقته، ومازن وكأنّه وجَدَ بطَلَه.

لكن بعد فترة، صِرتُ أرى الجوانب السلبيّة لعلاقتنا بأخي، إذ أنّ مازن بدأ يتصوَّر أنّ الحياة هي سهلة ومُريحة ومرِحة، ولا ينبغي عليه أن يتكبَّد أيّ عناء للوصول إلى مُبتغاه، بل كلّ ما يجب فعله هو المُغامرة مِن دون خطّة مُسبقة، فبدأت علاماته في المدرسة تتراجَع وباتَ يرفضُ أن يدرس كما في السابق.

أمّا في ما يخصّ زوجي، فتغيّرَت طريقة لبسه ومشيَته وأولويّاته، ولَم أعُد أتعرّف على الرجُل الذي اخترتُه زوجًا لي. فهو بدا لي وكأنّه يستعيد الأيّام التي سبقَت زواجنا، فأهمَل ابنه واتبعَدَ عنّي شيئًا فشيئًا.

لِذا قرّرتُ أن أُبعِد فراس عنّا، لأنّه بالفعل بدأ يخرِب الذي بنَيتُه مع عائلتي. لكنّ زوجي وابني اعترضا بقوّة على قراري، وصوّراني وكأنّني أمنعُهما مِن الفرَح والمرَح والاستمتاع بالحياة. وقال لي زوجي بِنبرة لن أنساها:

ـ لطالما كنتِ هكذا... جدّيّة فوق الحاجة ولا تعرفين كيف تعيشي حياة لن نحظى بها إلّا مرّة واحِدة... أجل، أنتِ تُعكّرين علينا مزاجنا... لا أفهم كيف نحن مُتزوّجان، فكلّ شيء فيكِ مُختلِف عنّي.

 

بكيتُ في تلك الليلة لأنّني فهمتُ أنّني على وشك أن أخسرَ زوجي وابني. لِذا قرّرتُ في اليوم التالي أنّ عليّ أن أثبتَ لهما أنّ الحياة التي يعيشُها فراس ليست مثاليّة كما يتصوّران، بل حلمًا باعَه أخي لهما ليدخل حياتنا ولا يبقى وحيدًا.

إحتَرتُ مَن أسأل عن فراس، فوالدَيّ كانا قد توفّيا وباقي أفراد العائلة الكبيرة غير قريبين منّا، فاستنتَجتُ أنّ الطريقة الوحيدة لمعرفة المزيد كانت أن أُراقِبه بنفسي. تردّدتُ كثيرًا، لأنّني شعرتُ أنّ الأمر ليس لائقًا لسيّدة مثلي، كما أنّه غير عمَليّ، إذ أنّني كنتُ امرأة عامِلة ولدَيّ التزامات. لكنّني استطعتُ أخذ إجازة صغيرة مِن الشركة التي أنا موظّفة فيها، وبدأتُ ألحَق فراس أينما ذهب. كِذبتُ على زوجي ولَم أكن فخورة بذلك، لكنّني كنتُ مُصمِّمة على إنقاذ زواجي وعائلتي. فشيء في داخلي قالَ لي إنّ زوجي بدأ يندَم على اختياره لي، على الأقلّ قليلًا، وقد ينوي إيجاد امرأة أخرى "أكثر فرَحًا" منّي. وإبني هو الآخَر صارَ يجِدُني "مُزعِجة"، وكان على شفير الرسوب في المدرسة وتدمير مُستقبله.

وأثناء مُراقبتي لأخي، وجدتُ أنّه لا يفعلُ شيئًا خلال أيّامه سوى الذهاب إلى مطعم يقضي نهاره فيه، ربّما لِلقاء أناس يُشبهونَه، أيّ لا عمَل لدَيهم. كنتُ أودّ دخول ذلك المكان ورؤية ما يفعله هناك، لكنّني خفتُ أن يراني ويوبّخني، أو يقولَ لزوجي إنّني ألحقُ به فيغضب منّي. لِذا دبّرتُ أن أدعو فراس إلى بيتنا خلال النهار على غير عادة، حين كان زوجي في إجازة مرضيّة ليقضي الرجُلان بعض الوقت سويًّا ويتسنّى لي الذهاب إلى ذلك المطعم.

دخلتُ المكان فوجدتُه ظريفًا، وجلَستُ إلى إحدى الطاولات وطلَبتُ طبَقًا أُحبُّه. كانت النادِلة لطيفة معي فمزَحتُ معها ثمّ سألتُها:

ـ دلََّني صديق لي على هذا المكان، ولَم يكن مُخطئًا عندما قالَ لي إنّه مطعم جيّد. إسمه فراس م. هل تعرفينَه؟ إنّه مُتواجِد هنا باستمرار.

 

ـ فراس م.؟ بالطبع! فهو يعمَل هنا! لكنّه أخَذَ إجازة اليوم.

 

ـ يعملُ هنا؟ ماذا يفعل؟

 

ـ إنّه نادِل مثلي. للحقيقة، أنا جئتُ به إلى هذا المطعم، بعد أن عمِلنا سويًّا لسنوات في مطعم آخَر في منطقة تقَع في شمال البلاد.

 

ـ لسنوات... ظننتُه كان مُسافِرًا بعيدًا، فانقطعَت أخباره لفترة.

 

ـ هاهاها... هذا هو فراس! يُحِبّ اختراع القصص والمُغامرات، إسألي الكلّ عنه! لكنّه اعترفَ لي أنّه لَم يخرج مِن البلَد قط! يا لخياله الواسِع! وهذا بالذات ما كان سبب ترك زوجته له.

 

ـ زوجته؟!؟

 

ـ ألّا تعلمين أنّه كان مُتزوِّجًا ولدَيه أولاد؟!؟ قلتِ إنّه صديقكِ.

 

ـ بلى، بلى... لكنّني لا أعرفُ ما حلّ بهم.

 

ـ عائلته تعيش في الشمال حيث هو كان. هل تريدين بعض الحلوى أم فنجان قهوة؟

 

خرَجتُ مِن المطعم مذهولة، فحياة أخي كانت كذبة كبيرة أحزنَت قلب والدَيّ، إذ أنّهما ماتا مِن دون أن يرياه مع أنّه كان يعيش في البلَد نفسه! كيف هو لَم يقُل لهما ولي إنّه تزوّجَ وأنجَبَ؟ هل لأنّه أرادَ ان يُحافِظ على صورة المُغامِر الحرّ التي رسمَها لنفسه؟ لكن بأيّ ثمَن؟ وعمَله البسيط الذي مارسَه منذ سنوات والذي لَم يتقدّم به أبدًا؟ أين طموحه؟ هل أنّ خياله استحوَذَ على حياته لدرجة أنّه صارَ يُصدِّق كذبه؟

إنتظَرتُ أن يُغادِر فراس بيتنا ويعود ابني مِن المدرسة، لأقول له ولأبيه ما اكتشفتُه عن أخي. في البدء، هما وبّخاني على ما فعلتُه، لكنّني قلتُ لهما:

ـ أعطاكما فراس صورة عن حياة بعيدة كلّ البُعد عن الحقيقة، وذلك بانتحال شخصيّة مُغامِر سعيد فهِمَ الحياة وعاشَها بطولها وعرضها، بينما هو بالفعل إنسان عاديّ لَم تطأ قدمُه مكانًا واحِدًا خارج الحدود. إضافة إلى ذلك، هو دمَّرَ زواجه بسبب كذبه... الأمر الذي أرادَ فعله بنا. لا تُناقشاني مِن فضلكما! أنتَ يا زوجي العزيز... أنظُر إلى نفسكَ، تظنّ أنّكَ مُغامِر شابّ وتتضايَق مِن وجودي الذي تجِده مُزعِجًا، وكأنّني عثرة في طريقكَ إلى السعادة. وأنتَ يا إبني، تظنّ أنّ خالكَ وجَدَ الوصفة السحريّة لتجنّب أيّ عناء تفرضه علينا الحياة للوصول إلى ما يتمنّاه المرء. كلاكما على خطأ طبعًا، لِذا إضطرِرتُ لفعل ما فعلتُه، لأثبِتَ لكما أنّه تمّ تلاعب بكما وكأنّكما ولدان صغيران. لقد خذلتُماني فانقلبتُما عليّ بسرعة فائقة، وكأنّني العدوّ الذي يجب إبعاده بأسرع وقت. إسمَع يا زوجي، إن لَم تكن سعيدًا معي فبإمكانكَ الرحيل، فأنا لَم أتغيّر، بل بقيتُ المرأة نفسها التي أحبَبتها وتوسَّلتَ إليها لتتزوّجكَ. وإسمَع يا مازن، لن أترككَ تُدمّر مُستقبلكَ، بل سأظلّ أقومُ بواجباتي معكَ لأنّني أمّكَ وأحبّكَ، فستذهب الآن إلى غرفتكَ وتبدأ بالدرس. وإن لَم تفعل، فسيكون عقابكَ كبيرًا! هيّا بكما أنتما الاثنان!

 

عادَ الهدوء إلى البيت وزوجي إلى صوابه وابني إلى درسه في غضون أسبوع، بعد أن فهِما لعبة فراس تمامًا. أمّا بالنسبة لهذا الأخير، فطردتُه نهائيًّا بعد أن أخبرتُه بما عرفتُه عنه.

وبعد فترة، ترَكَ أخي المطعم واختفى مِن جديد. لا أظنُّ أنّه فهِمَ الدرس وعادَ إلى شمال البلاد ليسترجِع عائلته، بل هو راحَ يبحث عن جمهور جديد يُصدّق قصصه، ويُعطي أهمّيّة لحياته التي يعتبِرُها مِن دون طَعم أو لون. مسكين أنتَ، يا فراس!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button