حياة إبنتيّ الصاخبة

مِن الشائع أن تواجِه الأم مشاكل مع إبنتها، فهناك تنافس طبيعيّ بين الإناث. لكنّ الأمور تهدأ مع الوقت، فكم بالأحرى إن كان لدَيها توأم بنات وزوج غير مسؤول ومُحيط أصِفُه بالمُتساهل؟ أعترفُ أنّ لدَيّ دخلاً بما حصَلَ، لكنّ زمام الأمور أفلَتَ مِن يدَيَّ بشكل مُخيف وتسارعَت الأحداث. إليكم قصّتي:

بعد زواجي بسنتَين تبّينَ أنّني غير قادرة على الحَمل بصورة تلقائيّة، بل تلزمُني علاجات عديدة خارج وداخل المشفى. وصارَ لدَيّ إصرار مرَضيّ على الإنجاب وكأنّ الأمر يعني أنّني غير فالحة أو غير كاملة كإمرأة. ربمّا كان عقري رسالة مِن الله الذي، بحكمته المُطلقة، لَم يُرِدني أن أُنجِب. إلا أنّ كبرياء الإنسان يحملُه على التصميم لإثبات نفسه أمام أفراد مُجتمع لا يرحَم.

وبعد مجهود كبير وتعَب لا يوصَف، إن كان جسديًّا أو معنويًّا، حمِلتُ أخيرًا وبتوأمَين كما يحدثُ غالبًا في هكذا ظروف. أردتُ أن تكونن بنتَين ولَم يَخِب ظنّي. ويوم عدنا بِيارا ولينا إلى البيت، تحضّرتُ لحياة هنيئة مليئة بالفرَح والسعادة. لكن ما ينتظرُني لاحقًا كان بالفعل رهيبًا.

عمِلَت عائلتي وعائلة زوجي على مُساعدتي بالتوأمَين، وشكرتُهم على ذلك، غير دارية أنّ هؤلاء سيتدخّلون بشكل يوميّ بتربيتي لِبنتَيّ ويسلبون منّي، ولو غير إراديًّا، حقّي الأموميّ. فالواقع أنّ لا أحد يفعلُ شيئًا مجّانًا، بل ينتظرُ المرء دائمًا أن نردُّ له الجميل أو أن نُعطيه سلطة ما مُقابل ما فعلَه. فكيف لي أن أقولُ لأمّي أو أختي أو حماتي أن تكفّنَّ عن إبداء رأيهنّ وأخذ قرارات لا دخل لهنّ فيها، في حين كنّ إلى جانبي في أصعب الأوقات؟

زوجي مِن جانبه كان مُستقيلاً مِن واجباته الأبويّة، لأنّه منذ البدء لَم يكن مُصرًّا على الإنجاب ولَم يُعجِبه أنّني ولدتُ توأمَين، ما عنى ضجيجًا في البيت ومصروفًا إضافيًّا. لِذا ترَكَ عبء القرار لمَن يشأ، فكلّ ما كان يُريدُه أن يُترك بسلام. أنا الأخرى أخطأتُ، فبعد أن صارَت يارا ولينا تتصرّفان بتحدٍّ واضح لي ودافَعَ عنهما الآخرون، إستسلمتُ لوضع رجَوت أن يتغيّر مع الوقت. فالكّل أكّدَ لي أنّها مرحلة عابرة، وعليّ ترك إبنتَيّ تكوّنان شخصّيتهما.

مرَّت السنوات ولَم يتغيّر شيء بل زادَ الوضع سوءًا، إذ أنّني صرتُ وكأنّني أعمَل لدى يارا ولينا أو أنّني إبنتهما. حاولتُ استدراك الأمور بوضع حدود لطبعهما وما هو مسموح وما هو ممنوع، مِن دون نتيجة. فعند أيّ قرار منّي لا يُعجبُهما، كانت إبنتايَ تركضان لطلَب النجدة لدى أمّي وأختي وزوجي. عندها كانت قراراتي تُمحى بلحظة، وتحصلان على الإذن المطلوب لتفعلا ما تشاءان.

 


صبرتُ ورجَوتُ ومَررتُ بمراحل نفسيّة عديدة، لكنّني وقفتُ وقفة صارمة عندما علمتُ أنّ الفتاتَين ذاهباتان إلى حفل راقص برفقة صديقاتهما ومِن دون وجود راشد. كنتُ أعلمُ ما يدورُ عادة في تلك المُناسبات، خاصّة لبنات في سنّ الثالثة عشرة، ولَم أُرِد أن أخسِرَ يارا ولينا أو أن تُصابا بصدمة نفسيّة أو حتى تعتادا على هكذا نمَط حياة. لكنّ والدهما تدخَّل ونعَتني أمامهما بالمتأخّرة والمُتعجرفة، وتابع قائلاً: "لو كنتِ أكثر مرونة لأنجبنا باكرًا وبطريقة طبيعيّة".

ماذا؟!؟ هل نسيَ ذلك الرّجُل أنّ عُقمي لا دخل له بمزاجي أو ولَعي بممارسة الجنس أو عدمه؟!؟ إنزعجتُ لأقصى درجة مِن ملاحظته البشعة التي كانت تنِمُّ عمّا كان في داخله لسنوات، ولقوله أمام الفتاتَين اللتَين كانتا ستستعملانها لاحقًا مرارًا لِنَيل مرادهما. قصدتُ غرفتي لأبكي وأُطلِق العنان لِغضبي، وراحَت إبنتاي إلى ذلك الحفل لوحدهما لترجعا بعد ساعات طويلة ورائحة الكحول تفوحُّ منهما. أنّبتُهما بشدّة لكنّهما تجاهلتاني وغرِقتا في النوم بسرعة. في اليوم التالي منعتُهما مِن الخروج إلى أيّ مكان... ولكن سدىً طبعًا.

تراجعَت علامات التوأمَين في المدرسة بعد ذلك، لإنشغالهما بمظهرهما الذي لَم يكن يُناسب سنّهما، وقد إتّصلَت بي المديرة لتراني. قالَت لي تلك السيّدة:

 

ـ تصرّفات إبنتَيكِ في الصفّ والمدرسة ليست لائقة وكذلك لبسهما... لا أدري إن كنتِ مشغولة لِدرجة عدَم الإهتمام بهما، لكنّني لا أجِدُ لكِ أيّ عذر. أعلمُ أنّكِ أنجبتِهما في مرحلة مُتأخّرة، لكنّ ذلك ليس عذرًا للسماح لهما بفعل ما تشاءان. هذا إنذار لكِ ولهما، وإن استمرَّ الوضع على حاله، سأضطرّ لطردهما.

 

حاولتُ إفهامها بأنّ لا سلطة فعليّة لي عليهما، وأنّني فعلتُ جهدي لإحتواء سلوكهما، إلا أنّها لَم تُصدّقني بل هزَّت برأسها أسفًا.

بعد فترة، تمّ طرد إبنتَيّ، ورحتُ أركضُ لأجِدَ لهما مدرسة تقبلهما في وسط السنة الدراسيّة لكنّني لَم أفلَح في ذلك. والنتيجة كانت أنّهما بقيَتا مِن دون علم إلى حين بداية السنة التالية. وبالطبع، في تلك الأثاء، تصرّفتا بشكل فظيع ولَم تقبلا أن أُدرّسهما في البيت.

رحتُ إلى أمّي وأختي طالبة منهما التدخّل لإنقاذ هاتَين الصبيّتَين إلا أنّهما قالتا لي:

 

- نحن لسنا أمّهما... وهذا واجبكِ". واجبي؟!؟ ألَم تكونان مَن حرّضَهما عليّ منذ البدء؟ لماذا تدخّلتُما حينها؟

 

ومنذ ذلك الوقت تمّ عزلي مِن قِبَل زوجي وإبنتَيّ، فصارَ الأمر وكأنّني غير موجودة إلا لتدبير أمور المنزل. فالقرارات كانت تؤخَذ مِن غير علمي وتُنفَّذ مِن غير موافقتي. شعرتُ بغضب كبير واستنكار شديد، إذ أنّني وقفتُ كشاهد صامت أمام تدمير حياة فتاتَين في مُستهلّ حياتهما. وإلى جانب السّهرات الصاخبة والرحلات الطويلة مع شلّة لَم أتعرّف إليها، قرّرَت يارا ولينا ترك المدرسة نهائيًّا للإلتحاق بمعهد لتدريس تصميم الأزياء. كنتُ أعلَم ما يعني ذلك، فهما إختارتا مجالاً تحدثُ فيه أحيانًا أمور تتوافق مع نمط حياتهما. لاحقًا، إنخرطتا في شركة لِعرض الأزياء وليس للتصميم كما قرّرَتا سابقًا.

لَم أستسلِم كلّيًّا بل بقيتُ أُنبِّه توأمَيّ مِن مخاطر النهج الذي اتّخذتاه، حتى لو بتُّ مصدر إزعاج دائم لهما، آملةً أن يلقى كلامي صدىً في مكان ما مِن عقلهما. إلا أنّهما أخبرتاني يومًا أنّهما مسافرتان إلى الخارج لِعرض تصاميم محليّة. علِمتُ بالأمر قَبل يوم واحد مِن سفرهما، وأنّ أباهما وقّعَ لهما الإذن اللازم كونهما لا تزالان قاصرتَين. عندها وقفتُ في وجههم جميعًا مُهدّدة زوجي:

 

- إن سافرَت يارا ولينا، فسأتركُ المنزل مِن غير عودة!

 


لَم يتأثّر أحد بما قلتُه، ففهمتُ أنّني لستُ مُهمّة لأيّ منهم.

لَم أترك المنزل بعد أن أدركتُ أنّ ذلك هو ما يريدونه بالفعل، وأنّ رحيلي يعني ضياع عائلتي الكلّيّ وأنّ القبطان لا يترك سفينته حين تغرق.

لدى عودة إبنتَيّ مِن تلك السفرة، علِمتُ على الفور مِن تصرّفاتهما أنّ أشياء رهيبة حصلَت حيث كانتا، فكان الأمر وكأنّهما صارتا راشدتَين إذ أنّهما فقدتا براءة المُراهقة. بكيتُ كثيرًا ورجوتُ الله أنّ يتدخّل وبسرعة.

هل أنّ الخالق سمِعَ رجائي أم أنّ الأمر كان مُجرّد صدفة، إلا أنّ زوجي توفّيَ بصورة مُفاجئة بسبب نوبة قلبيّة. لَم أرَ في الحال تداعيات موته على إبنتَيه لكثرة حزني، فبالرّغم مِن كلّ شيء كنتُ أحبُّه. وطالَت الصّدمة التوأمَين فأصابهما إحباط شديد. أسرعتُ لمواساتهما والوقوف إلى جانبهما كما تفعلُ أيّ أمّ في هكذا حالة ولقَيتُ تجاوبًا غير مُتوقّع. كان الأمر وكأنّهما إكتشفتا لتوّهما حنان الأم الذي لَم أكفّ يومًا عن إعطائه لهما. لكنّ وجود أبيهما ومواقفه في ما يخصّهما، كان قد حجَبَ عنهما دوري المهمّ في حياتهما.

وهكذا تعلّمنا جميعًا العَيش مِن دون ربّ عائلة، فعادَت اللّحمة شيئًا فشيئًا، وأصبحتُ حافظة أسرار يارا ولينا اللتَين كانتا تأتيان للبكاء على كتفي ليس فقط على أبيهما بل على ما فعلتاه بنفسهما وبي. لَم أوبّخهما حتى بعدما علِمتُ، وبالتفاصيل، ما قامتا به خاصّة أثناء السفَر، فما النفع؟ الذي حصَلَ قد حصَل ولا منفعة مِن العودة إلى الوراء. ما يهمّ هو التعلّم مِن الأخطاء مهما كانت جسيمة، فأيّ منّا لا يُخطئ؟

أقنعتُ إبنتَيّ بضرورة العودة إلى المدرسة، حتى لو عنى ذلك أن تتواجدا في صفّ مع رفيقات أصغر سنًّا منهما. وحمدتُ ربّي أنّني استطعتُ إعادتهما إلى مسارهما الأصليّ، وعمِلتُ جهدي لمُساعدتهما على إجتياز الصعوبات التعليميّة. في تلك الأثناء، عزلتُ نفسي وإبنتَيّ عن أمّي وأختي وأهل زوجي، كَي لا يُفسدُ أحد ما أنوي بناءه حتى لو عنى ذلك خلق فجوة عائليّة وإمتعاض عام. ما بالي وبالهم؟ أريدُ إنقاذ تؤامَيّ!

حين مرَّت السّنة الدراسيّة بسلام، إستطعتُ تنفّس الصعداء، فكنتُ قد ربحتُ المعركة ولكن ليس الحرب. فالخطر كان لا يزال موجودًا مِن جانب أصدقاء إبنتَيّ. لِذا أخذتُهما إلى بيتنا في القرية الذي لَم نطأه منذ فترة طويلة. هناك عملنا على ترتيبه وتحضيره لقضاء الفرصة الصيفيّة فيه. ورحنا لزيارة الأقرباء والجيران، وزرعنا سويًّا الخضار واهتمَّينا بالعصافير التي صارَت تأتي يوميًّا للأكل والشرب. في كلمة، عرّفتُ يارا ولينا إلى الحياة البسيطة والسليمة، وعلى العلاقات بين أبناء البلدة الواحدة. لن تتخيّلوا مدى تأثير تلك الأسابيع على طفلتَيّ! وحين جاء موعد العودة إلى مسكننا في المدينة، بكَتا وهما تودّعان أهالي القرية والعصافير الصغيرة. عندها علِمتُ أنّني نجحتُ أخيرًا.

لَم نأتِ يومًا على ذكر حياة إبنتَيّ السابقة، فقد كان الأمر وكأنّ تلك المرحلة لَم تحصل قط، بل ركّزنا على المُستقبل. وبعد جهد جهيد، دخلَت يارا ولينا الجامعة ومِن ثمّ تخرّجتا.

أنا اليوم جدّة سعيدة، بعد أن أنقذتُ توأمَيّ مِن الضياع والآلام التي كانت بإنتظارهما. أيّها الأهل، لا تُساوموا مع أولادكم، ولا تسمحوا لأيّ كان التدخّل في طريقة تربيتكم لهم. فالولد كالريشة الخفيفة، يتغيّر مسار حياته عند أقل هبوب للريح. حافظوا على تماسك عائلتكم بالحوار والتفاهم والحب. أجل، الحب الذي هو علاج جميع المشاكل ودواء القلوب المُحتارة والمُتألّمة والضائعة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button