حوّلَني زوج أمي إلى خادمته!

زواج أمّي مِن هاني لَم يكن موفّقًا، وخاصّة بالنسبة لي ولأخي. بالطبع تفهّمنا حاجة والدتنا لوجود رجل في حياتها بعد موت أبينا، لكنّ حياتنا أخَذَت مُنعطفًا لَم نكن نُريده مع دخول هاني عائلتنا الصغيرة. في البدء كان ذلك الرجل بغاية اللطف، يأتي لنا بالهدايا والأطايب ولَم يبخل علينا بشيء. فهو كان إنسانًا ثريًّا يعمل في مجال العقارات الفخمة، وله شركة تملك فروعًا كثيرة في أكبر وأهمّ المدن. لكنّه كان أيضًا متسلّطًا يُريد أن يُطاع مِن الجميع، ولا يسمح لأحد بأن يتخطّى إرادته، حتى لو كان هو على خطأ.

لَم يحصل شيء يُذكر خلال السنوات الأولى، سوى أنّنا رأينا أمّنا تذبل يومًا بعد يوم مِن دون أن نعرف السبب الحقيقيّ، لكنّنا ردَدنا الأمر إلى حياتها الجديدة ومسؤوليّاتها الكثيرة، بعدما ارتبطَت برجل لدَيه العديد مِن المعارف والنشاطات الإجتماعيّة.

وجاءَ هاني لنا بمربيّة مع أنّنا كنّا قد أصبحنا مراهقَين، لكنّها كانت طريقة ابتكَرَها لمراقبتنا ومُحاسبتنا لو ابتعَدنا عن القوانين التي سنّها. وما اكتشفَته أمّنا المسكينة، هو أنّ زوجها ليس مثاليًّا قط، بل العكس تمامًا، أي أنّه يُحبّ النساء، كلّ النساء، ويُحبّ أن يُنفق ماله عليهنّ بشكل غير مسؤول. وصارَ هاني يحرمُها مِن أبسط الأشياء ليُعطيها لعشيقاته. لَم تهتمّ والدتنا بالهدايا والمال، بل كانت تتوق إلى حنان رجلها الذي باتَ فكره بعيدًا عنها.

وماتَت والدتنا فجأة، الأمر الذي أغرقَنا في حيرة وضياع كاملَين، فلَم نعد نعلم شيئًا عن مصيرنا. هل كان زوج أمّنا سيتخلّى عنّا، فنحن لَم نكن مِن لحمه ودمه بل مجرّد شخصَين دخلا حياته في يوم مِن الأيّام.

أوّل شيء فعلتُه كان مصارحة هاني بالأمر، إذ كان لا بدّ لي أن أعرف ماذا سيحلّ بي وبأخي الصغير الذي وجَبَ عليّ حمايته حتى لو كنتُ لا أكبرُه سوى بسنة واحدة. نظَرَ إليّ زوج أمّي وقال لي، وكأنّني أسأله عمّا يُريد أكلَه في المساء:

 

ـ لا يهمّ، إفعلا ما تريدان... لا يهمّ.

 


ـ شكرًا يا عمّي، لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فالتي كانت تربط بيننا رحلَت وأخشى أن...

 

ـ لا تخشي يا حبيبتي، لا تخشي... تعرفين وأخوكِ قواعدَ هذا البيت، أليس كذلك؟

 

ـ أجل يا عمّي، نعرفُها... علينا أن نُطيع أوامركَ ونُلبّي رغباتكَ مِن دون جدل.

 

ـ مئة في المئة!

 

لَم نعُد نرى هاني كثيرًا، فهو باتَ يقضي معظم وقته عند نوال، عشيقته المفضّلة، راقصة معروفة بعض الشيء والتي أعطَته ما كان يُريده: الطاعة والدّلَع والجنس غير المشروط. وسرعان ما تعلَّقَ بها لدرجة نسيان مكانته الإجتماعيّة وبيته وطبعًا ولدَي زوجته المتوفّاة.

تساءلتُ كثيرًا عن السبب الذي حمَلَ هاني على إبقائنا في بيته، فحسب ما أعرفُه عن شخصيّته، كان مِن الأفضل والأسهل له أن يطردنا أو يُبعدنا عنه ليتفرّغ لعلاقته مع راقصته. لكنّه كان يُعلّق أهميّة قصوى على السيطرة على مَن هم حوله، فلَم يكن مِن الجائز بالنسبة له أن أفلِتَ وأخي مِن قبضته على حياتنا. وبعد أن تعوّدنا على السّكن الجميل والمال الوفير، صارَ صعبًا علينا العَيش بطريقة أخرى، الأمر الذي حمَلنا على قبول الكثير مِن الأمور غير المقبولة. ولَم أتصوّر يومًا أنّني سأدفعُ الثمن غاليًا.

فأوّل ما عمله هاني كان طرد العاملين لدَينا، أي عاملة النظافة والمربّية والطاهي والسائق، ومِن ثمّ جلَبَ نوال للعيش معه ومعنا بصورة دائمة ورسميّة. ووصول تلك المرأة المُنحلّة أخلاقيًّا لتنام وتعيش مكان أمّي الطاهرة، كان صعبًا علينا للغاية ولكنّنا قبلنا بالأمر الواقع.

لَم يأتِ زوج أمّي بعاملين جُدد، بل أسنَدَ لي ولشقيقي مهامهم، فإذ به يقول لنا بكل بساطة ووقاحة: "لقد صرفتُ وأصرفُ عليكما الكثير مِن المال ولَم أحصل على شيء بالمُقابل، وحان وقت جني استثماري". وعلِمنا منه أنّني سأقوم بالتنظيف والطهو والخدمة، بينما يهتمّ أخي بأعمال الصيانة وقيادة هاني وعشيقته إلى حيث يشاءان وفي أيّ وقت. ومع أنّني لم أصدّق أذنَيّ، لَم أتفاجأ كثيرًا، فكما ذكرتُ سابقًا، تساءلتُ مرارًا عن سبب إبقاء زوج أمّي لنا في بيته.

بالطبع رفضتُ القيام بما طُلِبَ منّي، وتوقّعتُ مِن أخي أن يثور مثلي، إلا أنّه قال لي إنّه غير مستعدّ لترك مكان حيث كلّ وسائل الراحة مؤمّنة. لَم أفهم كيف بإمكانه أن يقبل بهكذا ذلّ، وغضبتُ جدًّا منه لأنّني لَم أكن قادرة على الرحيل مِن دونه والعَيش لوحدي. فكيف ستكون نظرة المجتمع إليّ، ومَن سيقبل بالزواج مِن شابة تركَت البيت لتعيش بمفردها؟ لِذا مسحتُ دموعي وبدأتُ بالعمل. ولكثرة واجباتي المنزليّة وطلبات "سيّدة البيت"، لَم أعد قادرة على مواصلة دراستي، فتركتُ الجامعة على مضض. أمّا بالنسبة لأخي، فهو كان على ما يبدو سعيدًا بمنصبه الجديد، خاصّة أنّه لَم يكن فالحًا أو راغبًا بالدراسة.

وما لَم أكن أعرفُه، هو أنّ هاني أوكَلَ أخي بمراقبة عملي و"التصرّف عند الحاجة"... مُقابل مبلغ شهريّ. وهكذا أصبَحَ أخي العزيز مراقبًا لي وأخَذَ مهمّته على محمل الجدّ. وتعجّبتُ كيف لشقيقي أن ينقلب ضدّي بعدما ربينا سويًّا وبكينا أمّنا كثيرًا. حاولتُ إعادته إلى صوابه لكنّه قال لي:

 

- ماذا تريدن أن أفعل؟ إنّني أتقاضى أجرًا مُحترمًا وأعيشُ في فيلا فخمة وأقود سيّارة حديثة. هل أتركُ كلّ ذلك إكرامًا لكِ؟ ماذا فعلتِ مِن أجلي؟ لا شيء، فأنتِ أختي الكبرى ولَم تقومي سوى بواجبكِ تجاهي".

 


نظرتُ إلى شقيقي وكأنّني أراه لأوّل مرّة. هل يُعقَل أن ينسى كلّ شيء بلحظة واحدة، وينصاع لأوامر إنسان بغيض ومُنحط؟ بكيتُ كثيرًا لأنّني شعرتُ أنّني وحيدة فعلاً، وأنّ حياتي أخذَت منحىً لَم يخطر ببالي قط.

مرَّت الأشهر برتابة، أي أنّني خدمتُ كل سكّان البيت بمَن فيهم أخي، وصرتُ أعملُ كالآلة بعدما فقدتُ بهجتي وإرادتي بالعيش بسعادة. لكنّ حدثًا مفاجئًا جاء يقلبُ المقاييس.

كنتُ جالسة في غرفتي مُنهكة بعد يوم عمل شاق، حين دخَلَت عشيقة هاني مِن دون استئذان وجلسَت على حافة سريري وقالت:

 

ـ لا ينفعُ البكاء أو التحسّر يا عزيزتي، صدّقيني. فلقد بكيتُ كثيرًا في حياتي. هل تظنّين أنّني أصبحتُ راقصة لأنّني أردتُ ذلك؟ حلم حياتي كان أن أصير طبيبة لكنّ الحياة أرادَت عكس ذلك.

 

ـ ماذا تريدين؟ أن أغسل ملابسك؟ أن أسرّحَ شعركِ؟

 

ـ لا، بل أن تأخذي زمام حياتكِ بيدَيكِ. لا تظنّي أنّني سعيدة بمعاملتكِ هكذا، لكنّني مُجبرة على ذلك أمام هاني. أنا إنسانة طيّبة أقدّر الناس وتعبهم ولا أهوى تعذيب الغير. أتحمّل طبع هاني البشع لأنّني بحاجة إلى مَن يُؤمِّن لي حياة كريمة. أمّا أنتِ، فالحياة أمامكِ ويُمكنكِ فعل ما تشائين بها. لا تُذلّي نفسكِ بعد اليوم ولا تدَعي أخاكِ يُؤثّر عليكِ، فهو مثل زوج أمّه.

 

ـ ما عساني أفعل؟

 

ـ لديّ أمّ، أجل الراقصات لدَيهنّ أمّهات كسائر الناس. إذهبي إليها وامكثي عندها فهي امرأة طيّبة وشريفة. وسأبعثُ لكِ بالمال اللازم لتُكملي دراستكِ.

 

ـ ولماذا تساعديني؟ هل هو فخّ مِن أفخاخ زوج أمّي؟

 

ـ لا، بل هو إثبات أنّ الفرَج يأتِي غالبًا مِن مصادر غير متوقّعة. إسمعي، لا خيار لكِ سوى أن تثقي بي. لن تخسري شيئًا، فحياتكِ كما هي وصلَت إلى أدنى مستوى. سأعطيكِ عنوان أمّي، لكن إيّاكِ أن تُخبري أخاكِ بالأمر وإلا سنتحمّل سويًّا العواقب.

 

للحقيقة لم أصدّق نوال، لكنّني قبلتُ أن أذهب إلى أمّها لأنّ كل شيء كان أفضل مِن المكوث في هذا البيت. هربتُ في الصباح الباكر ورحتُ أدقّ باب العجوز التي استقبلَتني بسرور. بعد أسبوع، عُدتُ إلى الجامعة، بعد أن سدَدتُ القسط بالمال الذي أرسلَته نوال لي والذي كان بالفعل مال هاني. فهو كان، مِن دون أن يعلم، يُواصل الصرف عليّ. علِمتُ أنّ أخي بحَثَ عنّي في كلّ مكان ليُعيدني إلى البيت، كما أمرَه أن يفعل زوج أمّه، لكنّه لَم يجدني.

ومرَّت السنوات، وكنتُ أسعد فتاة في الدنيا مع تلك العجوز الطيّبة التي اعتبرَتني إبنتها. وذات نهار وصلَت نوال حاملة حقائبها. قالت:

 

ـ لقد تركتُ أخيرًا هاني وسأعيشُ معكما، هذا إذا استقبلتماني!

 

ـ لماذا تركتِه؟ وكيف ستعيشين؟

 

ـ لَم أعُد أحتمل قلّة احترامه وطغيانه... تركتُ البيت لكنّني لَم أنسَ أخذ مجوهراتي العديدة معي!

 

خلال السنوات التي تلَت، شعرتُ وكأنّ نوال هي أمّي وأمّها جدّتي، وعشنا في جوّ سليم للغاية. فقد كانت تلك المرأة إنسانة فعلاً جيّدة مِن كل النواحي، وكانت هي التي أنقذَتني في وقت خانَني مَن كان مِن لحمي ودمي.

وصلَني أنّ أخي دخَلَ أعمالاً مشبوهة يقودُها هاني سرًّا، وأسفتُ لأنّ شابًا ذا مستقبل واعد أفسَدَ حياته هكذا.

ما أغرب الدنيا... لقد كانت الراقصة أكثر حنانًا عليّ مِن أخي وأشرَف منه، في وقت كان يجدرُ به حمايتي ورعايتي. فرابط الدماء ليس دائمًا مقدّسًا، بل المهمّ هو في عروق مَن يجري.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button