حوارٌ بين امرأتَين

كانت جالسة مع والدتها، كما فعلَت لسنوات لا تُحصى في المقهى نفسه أو أينما وُجِدَت. الفرق الوحيد كانت التجاعيد التي وجدَت طريقها إلى وجهها يومًا بعد يوم، سنة بعد سنة. الشَيب اعتلى شعرها هو الآخَر، فالزمَن لا يرحمُ أحَدًا سوى الذين خطفَهم الموت قَبل أوانهم. أشعلَت الأمّ سيجارة ونظرَت بقساوة باتجاه الطريق بينما استدارَت البنت نحوي، وكأنّها قرأَت أفكاري وعلِمَت أنّني أُراقبُها وأُحلّل حياتها مِن دون سبَب، فقط لأتسلّى أو ربّما لأُبرهِنَ لنفسي أنّني أعرفُ الناس وحياتهم، بمُجرد النظَر إليهم. لكنّ نظرات البنت التي أسمَيتُها في سرّي "نجاة"، كانت مليئة بمعنى لَم أفهَمه، بل شعرتُ به. هي لَم تستأ منّي لأنّني أُحدِّقُ بها وبأمّها، بل العكس، هي أرادَت أن تروي لي قصّتها، أن أعرفَ مَن هي وكيف حياتها. إلّا أنّ أمّها أطفأت سيجارتها وأومَأت لها برأسها أنّ الوقت حان للعودة إلى البيت، أو للرحيل فقط مِن المقهى الذي بدأ يمتلئ بالزبائن. أرادَت أنّ تبقى "نجاة" وتُكلّمني، لكن كيف تفعلُ ذلك بوجود التي درّبَتها على الطاعة والاستسلام؟ فهكذا فسَّرتُ العلاقة التي تجمعُ بينهما، وكلّ ما إحتَجتُ له كان التأكيد لنظريّة واضحة للعيان.

قامَت المرأتان مِن مكانهما، وقَبل أن تبلغا الطريق، إستدارَت "نجاة" وأومَأت لي بيَدها أنّها عائدة في اليوم التالي. إمتلأتُ بحماس لا يُقاس، فلَم أتوقّع أبدًا أن تكون تلك المرأة بالفعل تُريدُ التكلّم معي. لَم أنَم في تلك الليلة وأنا أعِدُّ السيناريوهات بشأن الحديث الذي سيجري بينتا بعد ساعات معدودة، ولَم تغمُض عَينايَ إلّا بعد أن استنفَدتُ كلّ الاحتمالات.

وصلتُ المقهى قَبل ساعة مِن الموعد، أقول الموعِد لأنّني استنتجتُ أنّ "نجاة" ستأتي في الوقت نفسه الذي قدِمَت فيه قَبل يوم، ولَم أكن مُخطئة، وحَمدتُ ربّي أنّها كانت هذه المرّة لوحدها وليس مع تلك الأمّ المُستبِدّة!

جلسَت "نجاة" إلى طاولتي بعد أن ألقَت التحيّة عليّ بشيء مِن الخجَل، وسادَ بيننا صمتٌ مُزعِج. فكيف أقولُ لها إنّني أعتبرُها لغزًا وفي الوقت نفسه أعلمُ تمام العِلم أنّ والدتها إستحوَذَت على حياتها بدافِع الأنانيّة؟ بعد حوالي الدقيقة، بدأَت "نجاة" بالكلام:

ـ أراكِ في الجوار وفي هذا المقهى منذ فترة طويلة... أظنّ أنّكِ تسكنين بالقرب مِن هنا، أليس كذلك؟

 

ـ تمامًا... وأنا أراكِ منذ سنوات... مع أمّكِ... دائمًا برفقتها.

 

ـ وأنا أراكِ لوحدكِ في مُعظم الوقت.

 

لَم أتوقّع منها أن تقول لي ذلك، فالحقيقة أنّني لَم أُفكِّر مِن قَبل بأنّني قد أكون محطّ تساؤلات الناس، بل العكس. فانتابَني شعور مُزعِج دفعَني للقول:

ـ نحن لسنا هنا لنتكلّم عنّي!

 

ـ لماذا نحن هنا؟

 

ـ لنتكلّم عنكِ!

 

ـ ومَن قال ذلك؟!؟

 

ـ اعذريني، "نجاة"... عفوًا، ما اسمكِ؟ فلقد اختَرتُ هذا الاسم لكِ.

 

ـ إسمي سارة، وأنتِ؟

 

ـ أنا وفاء... تشرّفتُ بمعرفتكِ يا سارة. لكن، قولي لي، لماذا أومأتِ لي كي نلتقي هنا عندما خرجتِ مِن المقهى البارحة مع والدتكِ؟

 

ـ لأنّني شعرتُ بأنّكِ تُريدين التكلّم! فأنا أراكِ دائمًا تُحدّقين بي أينما إلتقَينا.

 

ـ وأنا شعرتُ بأنّكِ أنتِ تريدين التكلّم! أمرٌ مُضحِك! للحقيقة، ليس لدَيّ شيء أتكلّم عنه معكِ، فحياتي عاديّة للغاية وأستطيع القول إنّني سعيدة عامّةً.

 

ـ يعني ذلك أنّكِ تحسبين أنّني لستُ سعيدة؟

 

ـ لَم أقُل ذلك لكن... أمّكِ... أعني أنّها سيّدة... كيف أقولُ ذلك... قويّة الطباع وتُرافقُكِ في كلّ مكان. إضافة إلى ذلك، لَم يبدُ لي أنّكِ تزوّجتِ وأنجَبتِ وإلّا رأيتُكِ مع زوجٍ وأولاد.

 

ـ وما الغريب في الأمر؟ هل أنّ كلّ الناس يتزوّجون ويُنجبون؟

 

ـ لا، لا، لكن... أمّكِ... سأكون صريحة معكِ... أظنّ أنّ لوالدتكِ دخلًا في الموضوع.

 

ـ غريب أمركِ يا وفاء، إستنتجتِ كلّ ذلك مِن دون أن تعرفي أيّ شيء آخَر عنّي، أو تتبادَلي معي ولو كلمة واحدة؟

 

ـ الأمر واضح للعيان!

 

أطلقَت سارة ضحكة عالية، ونظرَت إليّ بشيء مِن الشفقة وتابعَت:

ـ قولي لي... هل أنتِ مُتزوّجة ولدَيكِ أولاد؟

 

ـ بالطبع! فقلتُ لكِ منذ دقائق إنّ حياتي سعيدة.

 

ـ حسنًا... أين زوجكِ وأولادكِ، إذًا؟ فأنتِ لوحدكِ في غالِب الأحيان، ولقد رأيُتكِ مرّات قليلة برفقة صديقة أو اثنتَين.

 

ـ زوجي مشغول للغاية، وأولادي صاروا شبابًا ولدَيهم انشغالاتهم الخاصّة.

 

ـ وماذا عن أهلكِ؟

 

ـ أهلي؟ يعيشون بعيدًا... ولقد فقدتُ والدي منذ بضع سنوات. إخوَتي يعيشون في المهجَر.

 

ـ وأمّكِ؟

 

ـ أمّي إنسانة بسيطة تُحبّ المكوث في البلدة حيث هي حياتها. لكن مهلًا! نحن هنا لنتكلّم عنكِ وليس عنّي!

 

ـ هل أزعجَتكِ أسئلتي؟

 

ـ بالطبع لا! فمِمّا أنزعِج؟

 

سكتُّ لثوانٍ بعد أن أدركتُ أنّني بالفعل انزعجتُ، ليس لأنّ تلك المرأة سألَتني عن عائلتي وأهلي، بل لأنّني كنتُ قد أدركتُ أمرًا مُهمًّا أبعدَتُه عنّي ليختفي مِن أمام عَينَيّ. لكنّ سارة لَم تنتهِ مِن الكلام:

ـ تتساءلين بشأن أمّي... حسنًا، سأقولُ لكِ مَن هي ولماذا هي حاضِرة في حياتي هكذا. حين كنتُ صغيرة، أصِبتُ بداء أقعدَني لفترة طويلة، ولزِمَتني سنوات مِن التمارين والمُعالجة الفيزيائيّة لأمشي مِن جديد. وأمّي كانت حافزي الوحيد لأنّها مَن آمنَت بي، في وقت حتّى الأطبّاء ظنّوا جدّيًّا أنّني سأبقى مُقعدة مدى الحياة. وأمّي هي التي ربَّتني وأخوَتي بعد أن رحَلَ أبي مع امرأة أخرى، هرَبًا مِن مسؤوليّة تربية أربعة أولاد مِن بينهم ابنة مُعوّقة. هي التي عمِلَت طوال النهار في مصنع حقير لتأتي لنا بالمال حتى نأكُل ونتعلّم.

 

إمتلأت عينايَ بالدموع وأنا أستمِع لسارة، وكنتُ أعرِف إلى ماذا ترمي تمامًا، لكنّني لَم أُقاطِعها، بل تشوّقتُ لمعرفة المزيد:

ـ وعندما كبِرتُ وصِرتُ أمشي بطريقة صحيحة، أسرعتُ بإيجاد عمَل لأُريحها، لكنّها رفضَت بقوّة وأجبرَتني على إكمال علمي كي يكون لي مُستقبل جيّد. تقدَّمَ لي عرسان كثر، لكنّني رفضتُهم وليس أمّي، فهي حثّتني على الزواج وتأسيس عائلة، إلّا أنّ خوفي مِن أن يتركني زوجي كما فعَلَ أبي بأمّي كان أقوى مِن كلّ شيء. بعد سنوات، فضّلتُ البقاء عزباء والعَيش في كنَف والدتي، الانسانة الوحيدة التي لن تؤذِني أبدًا، بل ستُحبُّني حتّى آخِر نفَس لها. مرَّت السنوات، وتزوَّجَ باقي إخوَتي وسافَروا، وصرتُ وأمّي لوحدنا، لكنّنا لَم نشعُر ولو للحظة بالوحدة، والشيء الوحيد الذي يُخيفُني هو اليوم الذي سأفقدُ فيه سلوَتي ودَعمي ورجائي، وأدعو الله أن يُطيل بعمر التي أعطَتني الحياة والأمان والحبّ وآمنَت بي.

 

نزلَت الدموع على خدَّيّ، لأنّني حسَدتُ سارة على حياتها مُقارنة بحياتي التي كان لا طَعم لها بوجود زوج غائب، وأولاد اعتبروني شيئًا مِن الماضي. أمّا بالنسبة لأمّي، فكنتُ أعرِف أنّها ليست كأمّ سارة، بل إنسانة أنانيّة لا تفعلُ شيئًا مِن دون مُقابِل. كانت حياتي فارِغة على عكس حياة المرأة الجالِسة أمامي، وشعرتُ بالوحدة العميقة وسط روّاد المقهى الذين كانوا يُحيطون بنا. ثمّ قلتُ لسارة:

ـ حسبتُكِ تعيسة مع أمّ طاغية... فهكذا اعتَدنا أن نظنّ بشأن مَن لَم يتزوّج. أتعرفين أمرًا؟ يا لَيتني لَم أتزوّج وأعيشُ الحياة التي تُسعدُني حقًّا، بعيدة عن الذي عليّ فعله أو عدَم فعله لإرضاء مُجتمع لا يعرفُ سوى الأبيض والأسوَد، ويجهل أن الحياة هي دائمًا رماديّة اللون. فأنا وحيدة وسط عائلتي، ولَم أتلَقَّ منهم الحبّ والحنان الذي أعطَيتُه لهم. بل أخذوا وأخذوا إلى أن فرِغتُ مِن كلّ شيء. كنتِ مُحقّة بشأني وأنا مُخطئة بشأنكِ يا سارة، أعذريني. أدعو الله أن يحفظَ لكِ تلك الجوهرة. عذرًا، عليّ العودة الآن... شكرًا لِمجيئكِ.

 

ـ مهلًا يا وفاء! لا تذهبي قَبل أن نتبادَل أرقام الهاتف!

 

ـ حقًّا؟ أهذا ما تُريدين؟

 

ـ بالطبع! أريدُ أن أراكِ مُجدّدًا وأن تزورينا، فأمّي ماهِرة في صنع الحلوى!

 

ـ بكلّ سرور، يا سارة، بكلّ سرور... أنا أتشوّق للتعرّف على والدتكِ العظيمة!

 

وهكذا صِرنا أعزّ صديقتَين، وحصَلَ لي شرَف الجلوس مع أمّ سارة، وبدأنا نقصدُ نحن الثلاثة ذلك المقهى ونتكلّم ونضحك سويًّا، مِمّا أنساني قليلًا حياتي الفارِغة. في الواقع، بدأتُ أعتبِر تلك السيّدة المُسِنّة بمثابة أمّي، الأمّ التي تُحبّ مِن دون حدود، حتّى الغرباء، وتُعطيهم أفضل ما لدَيها.

اليوم أمّ سارة في المشفى، ولهذا السبب أروي قصّتي، وكأنّها شهادة أخيرة لها، شهادة امتنان عميق للفرصة التي أُعطِيَت لي لتذوّق أوقات سعيدة مع إنسانة اعتَبرتُها قاسية ومُتسلِّطة لأنّني كنتُ، ولفترة طويلة، مثل باقي الناس، أحكمُ على المظاهر وأبني أفكاري على ما أراه مِن بعيد. أنا أدعو لها بالشفاء مع أنّها راحِلة على الأرجَح، لكن ليس قَبل أن تترك وراءها سيرة شريفة مليئة بالحبّ والتضحيات. سأكون سنَدًا قويًّا لسارة في الأيّام الصعبة التي ستواجِهُها، وقد يكون القدَر مَن جمَعنا في ذلك اليوم لنُعطي لبعضنا ما نفتقِدُ إليه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button