حلم مزعج للغاية

كانت أمَيمة فائقة الجمال، وأذكر أنّني وقفتُ مذهولة أمامها أحدّق بها وكأنّها مخلوقة آتية مِن إحدى القصص الخرافيّة. كذلك فعَلَ منير أخي الأكبر، وكنّا سنبقى هكذا مسمّرَين لولا تدخّل أبي الذي قال لنا ضاحكًا: "أليست رائعة؟"

كان والدي مفتونًا بعروسته الجديدة بعد أن قضى خمس سنوات وحيدًا. الكل كان قد تنبّأ له بأنّه سيتزوّج فور موت أمّي، إلا أنّه انتظر حتى نكبر قليلاً ليجد شريكة لحياته.

ما كان شعوري الحقيقيّ لِما جرى؟ كنتُ قلقة طبعًا، ولكن أيضًا فرحة لقدوم امرأة إلى البيت، آملة أن نستعيد الأيّام الجميلة التي عرفناها حين كانت والدتي موجودة بيننا.

لم أنتظر مِن أمَيمة أن تعاملني كابنتها، لأنّني كنتُ قد بلغتُ السادسة عشرة وتخطَّيتُ السن الذي يحتاج إلى الدّلَع، لكنّني توقّعتُ طبعًا أن نعيش جميعًا وسط تناغم سليم. إلا أنّ أمَيمة لم تكن تنوي أبدًا لعب دور المرأة الحنونة والمتفهّمة مع أولاد غيرها، فجابهَتنا ببرودة لا مثيل لها. كنتُ وأخي وكأنّنا غير موجودَين، الأمر الذي أوجعَنا إلى أقصى درجة. أمّا أبي، فكان قد وقَعَ تحت سحرها، وبدأ هو الآخر بتجاهلنا لكثرة انشغاله بإرضاء التي عرفَت كيف تعيد إلى قلبه الفرحة.

إنكبَبنا على دروسنا، خاصّة منير الذي كان في سنته الدراسيّة الأخيرة، وركّزنا على علاقتنا مع أصدقائنا الذين كانوا يُمازحوننا بشأن أمَيمة التي أثَّرَت على الجميع بجمالها وأناقتها. فالحيّ كلّه كان يتكلّم عنها، وعن "المسكين" أبي الذي لن يستطيع إرضاء هكذا امرأة مطوّلاً.

وأنا، في قرارة نفسي، كنتُ أعلم أنّ ذلك الزواج لم يكن ناجحًا ولن يكون، ربمّا بسبب خضوع والدي الكامل لأمَيمة واستفادتها مِن ذلك الوضع للزيادة مِن طلباتها التي باتَت شبه تعجيزيّة. فبالرغم مِن أنّ حالتنا الماديّة كانت جيّدة جدًّا، إلا أنّنا لم نكن أثرياء وكان لا بدّ مِن أن ينفذ المال الذي إدّخرَه والدي. وهو ليستمرّ بارضاء زوجته، إضطرّ لبيع قطعة أرض كانت ملك والدتي ورثناها كلّنا بعد مماتها، وكانت مخصّصة لدفع تكاليف دراستنا الجامعيّة لاحقًا.

 


فعندما أخبرَنا والدنا أنّه ينوي بيعها، عارضنا بقوّة ولكن مِن دون جدوى، لأنّنا كنّا لا نزال قاصرَين، أي لا نملك شيئًا فعليًّا. أذكر أنّني قلتُ لأبي:

 

ـ هذه القطعة مِن أمّي! كيف لكَ أن تصرف ثمنها على امرأة غريبة وتحرمنا مِن فرصتنا بالتعلّم؟ هل فقدتَ عقلكَ؟ الناس تتكلّم عنكَ بازدراء... وأحيانًا أخجل بكَ.

 

ـ إخرسي! كيف تكلّميني هكذا؟ أنسيتِ أنّني والدكِ؟

 

ـ بل أنتَ نسيتَ أنّنا ولدَاكَ يا... أبي!

 

وسمعتُ أمَيمة تقول له بعد أن وافاها إلى غرفة النوم: "هل ستدع فتاة صغيرة تملي عليكَ ما تفعله؟ خلتُكَ رجلاً بكلّ معنى للكلمة. ربمّا أسأتُ الإختيار عندما تزوّجتكَ.

لم أسمع جواب أبي بوضوح، بل فقط تمتمات وتوسّلات ومِن ثمّ قبلات. هززتُ برأسي وذرفتُ الدموع على المرحومة أمّي وعلى نفسي.

بعد أشهر قليلة، دخَلَ منير جامعة حكوميّة، وكان مِن الواضح أنّه غير مسرور بما يحصل له بعد أن كان قد اختار اختصاصًا آخر ليس موجودًا إلا في جامعات خاصّة. وفي إحدى الليالي قال لي:

 

ـ علينا وضع حدّ لممارسات أمَيمة وإلا سيأتي خرابنا على يدها...

 

ـ ماذا تنوي فعله يا أخي؟

 

ـ لستُ أدري بعد ولكنّ عليّ التصرّف... لا عليكِ... ثقي بأخيكِ الأكبر.

 

في تلك اللحظة، شعرتُ بفخر عميق خاصّة بعد أن خاب أملي بأبي ورجولته التي محَتها زوجته. إنتظرتُ بفارغ الصبر أي تغيير بوضعنا، وحين أتى التغيير لم يكن أبدًا ما توقّعتُه.

فقد بدأتُ ألاحظ النظرات التي صارَ أخي يتبادلها مع زوجة أبيه، ولم يُعجبني الأمر بتاتًا، فكان مِن الواضح أنّها كانت تحمل معانٍ كثيرة بعيدة كل البعد عن الغضب والبغض. فما رأيتُه كان أقرب إلى الاعجاب والحب أو حتى الشهوة. وعندما سألتُ منير عن سَير خطّته، تلبّكَ وبدأ يجد لأمَيمة أعذارًا سخيفة، واضعًا اللوم على أبينا.

 


هكذا إذًا... كانت أمَيمة قد ألقَت شباكها على أخي لإبعاد نقمته عنها وكسبه كحليف. أي مدى بلغَت علاقتهما؟ لم أكن أعلم، ولكن كان عليّ معرفة الجواب. لِذا أخذتُ أراقب أخي وزوجة أبي بطريقة خفيّة جدًّا، لأنّني كنتُ أدركَ مدى ذكاء أمَيمة وخبرتها التي تفوق بأشواط خبرتي.

ورأيتُ ما لم يكن مِن المفروض أن أراه أبدًا، أي أخي وأمَيمة في سرير واحد وكدتُ أصرخ مِن الاشمئزاز. ركضتُ خارج المنزل وندمتُ لأنّني عدتُ باكرًا مِن المدرسة، حتى لو كان ذلك بغرض مفاجأة العشيقَين.

وصارَت لدَيَّ أزمة كبيرة، إذ لم أكن أعلم ما أفعل بالذي أعرفه: هل أسكت أم أخبر أبي؟ لكنّ إخبار والدي كان يعني خلق كارثة قد تصل إلى القتل، ولم أكن مستعدّة للتسبّب بمصيبة بهذا الحجم. فقد كان مِن الواضح أنّ أخي لم يكن يهوى أمَيمة أو يُريد إيذاء أبيه، بل هي التي أقنعَته بأسلوبها الوسخ بأن يُصبح عشيقها. وكيف لشاب في الثامنة عشرة مِن عمره أن يُقاوم امرأة ناضجة فائقة الجمال ولعينة؟

الحلّ الوحيد لديّ كان إبعاد أخي عن المنزل، والطريقة الأنسب كانت مِن خلال ما لطالما أراده، وهو الدرس في جامعة خاصّة. لِذا أخذتُ والدي جانبًا وتكلّمتُ معه لساعات عمّا فعَلَه بإرث أمّي عسى يتحرّك ضميره الأبويّ. ذرفتُ الدموع بغزارة، وتوسّلتُ إليه كي يعطي منير فرصة لبلوغ مستقبل لامع... ونجحتُ بذلك: قبِلَ والدي أن يُعطي ما تبقّى مِن ثمَن الأرض لأخي حتى لو كلّفه ذلك إغضاب زوجته. بقيَ عليّ إقناع أخي بالرحيل. لم يكن الأمر صعبًا، فبحتُ له بما أعرفه عن علاقته بأمَيمة، ملوّحة له بما سيحصل لو عَلِمَ أبي بالحقيقة.

غادَرَ أخي المنزل بعد أسبوع ليلتحق بالجامعة التي اختارَها ويعيش في حرمها. لم يُودّع أمَيمة التي نظَرَت إليّ بحقد لا يوصف. كانت قد أعلَنَت الحرب عليّ وأصبَحَ هدفها الانتقام منّي. وجَبَ عليّ حماية نفسي مِن شرّها، لكنّ قبول أبي باقتراحي كان دليلاً عن خروجه، ولو قليلاً، عن سيطرة زوجته، وكان عليّ استغلال هذا الاستعداد وبأسرع وقت.

أخذتُ أغيب عن مدرستي متحجّجة بأمراض عديدة، وذلك لمراقبة زوجة أبي. فكما أغرَّت أخي وحملَته على ارتكاب الفحشاء معها، كان لا بدّ أن يكون لها عشيق جديد أو، لِما لا، عشيق قديم.

وسرعان ما لاحظتُ حركة مريبة أثناء فترة الصباح، وهي خروج أمَيمة مِن المنزل إلى البيت المجاور الذي يسكنه ثنائيّ أعرفهما منذ ولادتي. كان لهما أولاد كبروا وتركوا المنزل الذي أصبَحَ فارغًا. الزوجة كانت لا تزال تعمل كمديرة معهد، والرجل يُدير أعماله في البورصة مِن بيته. ماذا كانت تفعل أمَيمة في منزل يوجد فيه رجل لوحده؟ الجواب كان سهلاً للغاية وما كان عليّ فعله لم يكن صعبًا: الحصول على دليل على الخيانة للتخلّص مِن المصيبة الذي جاء بها أبي إلينا.

لزمَني وقت طويل وغيابات عديدة لأحصل أخيرًا على صوَر واضحة ومقنعة. إختبأتُ قرب المنزل، أتنقّل مِن شبّاك إلى آخر. وكان العاشقان حريصَين جدًّا على ألا يظهرا أمام الشبابيك. لكن بعد فترة، ولكثرة ثقتهما بنفسهما، إقترفا الخطأ الذي كنتُ أنتظره: خرجا عاريَين مِن غرفة النوم إلى المطبخ لشرب الماء وتناول الفواكه. وفي تلك اللحظة بالذات، أخذتُ بواسطة هاتفي صورًا عديدة لهما وركضتُ إلى مكتب أبي. كان لا بدّ لي أن أتصرّف بسرعة، أي قبل أن يتسنّى لأمَيمة أن تجد تفسيرًا لتلك الصوَر، هذا في حال رأتني خارج نافذة المطبخ.

بعد أن أرَيتُه الصّوَر، سكَتَ والدي مطوّلاً وامتلأت عيناه بالدموع، ومِن ثمّ قال لي:

 

ـ أنا المذنب... أردتُ إشباع غروري بالزواج مِن امرأة كأمَيمة... عملتُ المستحيل لتلبية طلباتها كي لا يحصل الذي حصل اليوم، فكنتُ أعرف في قرارة نفسي أنّني لن أقدر على هكذا إنسانة... أهملتُكِ وأخيكِ وكنتُ أعي ما أفعلُه ولكن غير قادر على العودة إلى ما قبل أمَيمة... أشكركِ يا ابنتي على ما فعلتِه الآن، لستُ غاضبًا منكِ بل خجل، فليس على الأولاد أن يحرصوا على أهلهم، بل العكس. سأتصرّف وبسرعة وأعدكِ بأن أكون أفضل أب مِن جديد. سامحيني، حبيبتي.

 

تعانقنا وبكينا واتصل أبي بالمحامي على الفور. وبعد أيّام قليلة جدًّا، غادرَت أمَيمة منزلنا بحقيبة صغيرة جدًّا فلم يدعها المحامي تأخذ شيئًا معها. وحين مرَّت بالقرب منّي، نظَرت المرأة إليّ بشراسة وتمتمَت: "أيّتها الفاجرة". أمّا أنا، فابتسَمتُ لها بتحدٍّ وأومأتُ لها بيدي.

لم أخبر أبي عمّا حصل بين زوجته وأخي، ولم يعرف بشيء حتى مماته الذي أتى بعد سنين طويلة، أي بعد أن تزوّجتُ وأنجبتُ وكذلك أخي. عاشَ والدنا معنا، ونسيَ بسرعة أمَيمة التي اعتبرناها حلمًا مزعجًا للغاية.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button