حب مُعدٍ

جرَت العادة أن تكون هناك عداوة بين الحماة والكنّة، والأمثلة لا تُحصى. وحتى بما يخصُّني، فلقد عانَيتُ الأمرَّين مِن أمّ زوجي، رحمها الله. لكنّ قصّة أمال جارتي أذهلَت ليس فقط جميع سكّان المبنى بل الحَي بأسره. فخلافًا للمفهوم العام، علاقتها بحماتها والذي فعلَته مِن أجلها جديرٌ بأن يؤخَذ عبرة لجميع الحموات والكنّات. إليكم تلك القصّة:

كنتُ عروسة جديدة حين تزوّجَت أمال وانتقلَت للعَيش في الطابق الرابع مع زوجها فايز وأمّه عايدة. فرِحتُ كثيرًا، فباقي سكّان المبنى كانوا أكبر منّي سنًّا، وأملِتُ طبعًا أن تصبحَ أمال صديقتي ونقضي بعض الوقت سويًّا، إلى حين أُنجِب ولا يعود لي مُتّسع مِن الوقت للتسلية. للحقيقة، إنشغَلَ بالي على جارتي الجديدة، إذ أنّ عايدة، حماتها، كانت سيّدة حادّة الطباع وقويّة الشخصيّة، فهي أجبرَت إبنها على العَيش معها حين يختارُ عروسة، مع أنّه كان يملكُ شقّة خاصّة به بعيدًا فرَشَها بالكامل قبل سنة.

وفي أوّل جلسة لي مع أمال، سألتُها:

 

ـ كيف علاقتكِ مع حماتكِ؟

 

ـ جيّدة والحمد لله.

 

ـ إحترسي منها يا أمال، فتلك المرأة لا يجِب أن يُستهان بها.

 

ـ أجل، لقد لاحظتُ ذلك، إلا أنّ تركيزي كلّه هو على إسعاد فايز الذي أحبُّه مِن كلّ قلبي. وليس مِن الصعب عليّ أن أُحبّ التي أعطَته الحياة وربَّته.

 

ـ أرى أنّكِ طيّبة القلب.

 

للصراحة، كنتُ قد وصَفتَها في رأسي بالساذجة، وأسفتُ أن يكون بعض الناس غير قادرين على رؤية أبعاد الأمور وشخصيّات الآخرين أو تصرّفاتهم. فكنتُ أصفُ نفسي بالذكيّة والمُنتبّهة، وشكرتُ ربّي أنّني وقفتُ في وجه حماتي وإلا ابتلعَتني وتحكّمَت بحياتي ومصير زواجي. إلا أنّ أمّ زوجي توفّيَت بعد سنتَين على معرفتي بها، الأمر الذي أراحَني بالرّغم مِن حزن أبنها عليها.

أنجبتُ، وكذلك أمال، وصارَ ولدانا يلعبان سويًّا حين بدآ بالمشي. كنتُ قد لاحظتُ وبشكل ظاهر، أنّ فرَح جارتي قد حلّ مكانه حزن ملموس. وحين سألتُها عن السبب، أجابَت:

 


ـ بعض الإرهاق، ليس أكثر.

 

ـ إرهاق أو مشاكل مع عايدة؟

 

ـ صحيح أنّها صعبة المزاج ومُتطلّبة، لكنّها جدّة ممتازة لإبني.

 

ـ ما بكِ يا أمال؟!؟ ألا تطلُبين السعادة إلا لِغيركِ؟ وماذا عن سعادتكِ؟

 

ـ عندما تكون عائلتي سعيدة، أكون أنا سعيدة.

 

هزَزتُ برأسي أسفًا على تلك الجارة التي صارَت صديقتي الوحيدة في المبنى، وتمنَّيتُ أن تثبتَ نفسها أكثر قَبل أن يضربها اليأس. أردتُ تعليمها بعض الحَيل والمواقف لتخفِّف مِن هيمنة حماتها على حياتها، إلا أنّني لَم أفعَل بل قرّرتُ مُراقبة الأحوال للتدخّل في الوقت المُناسب.

صارَ لأمال ولدٌ ثانِ وكذلك حصَلَ لي، فكانت حياتنا تسيرُ بشكل متوازٍ، لكنّني كنتُ سيّدة بيتي على خلافها.

ساءَت صحّة عايدة فجأةً، وعمِلَت أمال على الاهتمام بها، الأمر الذي أرهقَها طبعًا بوجود ولدَيها الصغار، لكنّها لَم تشتكِ بل بقيَت تجِد القوّة لإبقاء أجواء البيت إيجابيّة حولها. فاجأني هذا الكمّ مِن الصبر، خاصّة أنّني لمستُ أثناء زياراتي لها، كَم أنّ حماتها كانت قليلة التقدير لجهودها. وحين شُخِّصَ لِعايدة مرضٌ عضالٌ نادر الوجود وطويل الأمَد، أسِفتُ لصديقتي للغاية، فهي كانت ستُعاني لِسنوات طويلة.

وحصَلَت الكارثة. فلقد لقيَ فايز حتفه في حادث سَير، وعمَّ الحزن حياة أمال، فهي كانت تُحبّه لدرجة كبيرة، ناهيكَ عن كونه ربّ البيت والمُعيل الوحيد لعائلته. وبعد أن مرَّت فترة الحداد والبكاء الشديد، إضطرَّت أمال للبحث عن عمل لتربية ولدَيها والصرف على البيت وعلاج حماتها... وهو حملٌ ثقيلٌ لامرأة هشّة. بدأَت صديقتي بالعمَل في مصنع، وكان دوامها طويلاً. ولمساعدتها، كنتُ أجلِبُ ولدَيها إلى شقّتي وأتفقَّد عايدة خلال النهار، لتعود هي وتُنظّف البيت وتطهو، وتُعطي الحمّام لولدَيها ولحماتها وتطعمُهم جميعًا.

حين دخَلَ الصغيران المدرسة، إرتاحَت أمال قليلاً وأنا كذلك، فلقد تعِبتُ مِن إسكات أربعة أولاد أو الترفيه عنهم. فأنا الأخرى كنتُ مُنهمكة بإدارة بيتي.

في تلك الفترة بالذات، تطوّرَ مرَض عايدة بشكل كبير. كان الأطبّاء قد حذّروا صديقتي من أنّ حماتها ستفقدُ استعمال رجلَيها ومِن بعد ذلك يدَيها، وتدريجاً كلّ الوظائف العضليّة. مسكينة يا عايدة... ومسكينة يا أمال! عرضتُ على جارتي وضع حماتها في مؤسّسة مجّانيّة، حيث بإمكان أخصائيين الاهتمام بها، فصرَخَت:

 

ـ أبدًا! لِحماتي كرامتها! لو بقيَ فايز على قيد الحياة، لمَا قبِلَ بذلك أبدًا!

 

ـ لكنّه ماتَ يا أمال، وصارَ الحِملُ كلّه على كتفيكِ. سيأتي يوم وتنهارين. مَن سيهتمّ بكِ حينها؟

 

ـ الله.

 

هل ندِمَت أمال لاحقًا على حماسها هذا؟ لا أظنُّ ذلك، فهناك أناس يمتلكون كمّيّة هائلة مِن الحبّ تخوّلُهم إيجاد الطاقة اللازمة لخدمة الآخرين. أعترفُ أنّني لستُ مِن هذا الصنف ولن أكون يومًا.

 


وفي أحد الأيّام، رحتُ وولدَيّ لزيارة أمال، وحين أدخلَنا أحد إبنَيها، وقفتُ مذهولة أمام المشهد الرهيب الذي وقعَت عليه عينايَ: كانت أمال تحملُ عايدة على ظهرها لتوصلها إلى الحمّام. لَم أتصوّر أبدًا أنّ كنّة قد تفعلُ ذلك مِن أجل حماتها، التي لَم تُسهّل لها حياتها منذ يومها الأوّل. ركضتُ لمساعدتها، إلا أنّ صديقتي قالَت لي مُبتسمة:

 

ـ شكرًا، فلقد اعتدتُ على ذلك. إضافة إلى ذلك، المسكينة خفيفة الوزن بسبب مرضها. إجلسي في الصالون وسأكون معكِ بعد قليل.

 

وفي تلك اللحظة، شعرتُ بالغيرة. نعم، بالغيرة. فلَم تعُد أمال بالنسبة لي امرأة ساذجة تُديرُ حياتها حماتها، بل صارت ملاكًا في نظري. وتمنَّيتُ لو كنتُ أملكُ ولو جزءًا بسيطًا مِن تلك البركة التي أهداها إيّاها الله. فلَم يكن حمَل أمال لِعايدة وحده الذي أثَرَ بي، بل فرحتها وهي تحملُها. هي لَم تكن تتذمّر أو تتباهى، بل تُعطي لأمّ زوجها حبًّا صافيًّا.

ومنذ ذلك اليوم، صِرتُ أهتمّ بعايدة خلال وجود كنّتها في عملها. لَم أتصوّر يومًا أنّني سأفعلُ ذلك مِن تلقاء نفسي، فعايدة لَم تكن إنسانة لطيفة أو محبوبة. لكنّني استطعتُ أن أرى ما رأَته أمال فيها: الإنسان.

تنهالُ دموعي الآن وأنا أروي هذه القصّة، ليس مِن الحزن بل مِن الفرَح، فلقد أدخلَت أمال إلى قلبي سعادة لَم أملكها يومًا.

شاهدتُ صديقتي وهي تُنظِّف حماتها وتحملُها مِن مكان لآخر، وتُطعمُها وهي تُغنّي لها وتروي لها القصص. وما شاهدتُه أيضًا، والذي أعطى لِحياتي مفهومًا آخر، هو كيف كانت عايدة تنظرُ بدورها إليها: رأيتُ كيف بادلَتها هذا الحبّ. ولو كانت أمال ابنتها الحقيقيّة، لمَا نظرَت إليها بهذا الكمّ مِن الحبّ.

تغيّرَت حياتي بشكل ملحوظ بفضل أمال. فعلاقتي بأسرتي تحسّنَت بشكل ملحوظ، إذ صرتُ أكثر تفهمًّا مع ولدَيّ وزوجي. فالحبّ يُعطي القوّة اللازمة لتحمّل كلّ ما يحدثُ لنا بشكل يوميّ، فيخفُّ وقع الأمور علينا لنراها بوضوح ونُعالجها بهدوء. إختفى ذلك الغضب الدائم والمُستتِر الذي كان يسكنُ قلبي، وتفاجأتُ بنفسي أتمنّى لو حماتي كانت لا تزال حيّة، فأسِفتُ أنّني حاربتُها لمُجرّد كونها حماتي.

قبل موت عايدة، كانت المسكينة قد صارَت غير قادرة على القيام بأبسط الأمور، وعمِلَت أمال على تنظيفها مِن كلّ ما كان يفرزُه جسدها، الأمر الذي لا يفعله الانسان حتى لأقرب الناس.

لَم أرَ يومًا كنّة تبكي موت حماتها بهذا القدر، ولقد ذرفتُ أنا أيضًا الدموع على عايدة، لأنّني أنا الأخرى أحبَبتُها وأسِفتُ على ما عانَت منه في سنواتها الأخيرة.

وبعد رحيل حماتها بأيّام قليلة، تغيّرَت حياة أمال بشكل مُفاجئ. أُريدُ التنويه بأنّني أروي القصّة تمامًا كما حصلَت، وليس لِدفع الكنّات على حبّ حماتهنّ بإضافة تفاصيل غير واقعيّة.

فبعد أيّام على دفن عايدة، جاء إبن صاحب المبنى مِن الغربة بِهدف استرجاع شقّة أمال التي كانت تسكنُ فيها بالإيجار. كان بِنيّته طردها بعد إعطائها تعويضًا بسيطًا وبَيع العقار، لأنّه يُريد تخليص كلّ أموره في البلَد للاستقرار نهائيًّا في الولايات المُتحّدة. لكن حين قرَعَ بابها وفتحَت له أمال، وقفَ أمامها صامتًا ومُحرَجًا. هو كان يعلَم أنّ أرملة وولدَيها يسكنون الشقّة ولَم يُزعِجه أمر طردهم، لأنّه كان أوّلاً رجل أعمال ولا تهمّه سوى الأرقام والمبالغ. لكنّ شيئًا فيها لمَسه، واكتفى بالقول لها: "سأعودُ في الغد"، ورحَلَ بسرعة. عادَ الرجل في اليوم التالي ومعه الحلوى للولدَين، وجلَسَ مع جارتي في الصالون وأخَذَ يروي لها ظروف سفره ومعاناته في الغربة، وهي استمعَت إليه غير عالمة بما يُريدُه منها تمامًا. في الزيارة التالية، حكى الرجل لها عن أحلامه وطموحاته، وهي استمعَت إليه. وبعد أسبوع بالتمام، عرَضَ عليها الزواج. إبتسمَت أمال له وطلَبَت منه السفَر ثمّ العودة بعد ثلاثة أشهر، وهو سمِعَ منها. هدَف طلبها هذا كان مُزدوجًا: مِن جهّة أرادَت التفكير في الأمر، إذ أنّها كانت أمًّا لولدَين، وقضَت سنوات في البكاء على زوجها والاهتمام بحماتها، ومِن جهّة أخرى أرادَت أن يتأكّد هو مِن نواياه وليس التسرّع بهكذا خطوة.

عادَ صاحب الشقّة بالفعل بعد ثلاثة أشهر، ومعه خاتم رائع لأمال، وهي قبِلَت الزواج منه. أرَتني جارتي الخاتم حين زارَتني لتخبرني بكلّ ما حصل. تفاجأتُ طبعًا لكن ليس كثيرًا، فكنتُ مُتأكّدة مِن أنّ هكذا إنسانة ستُكافأ يومًا وأنّ حبّها الكبير لكلّ الناس مِن دون استثناء لا يُمكن أن يبقى خفيًّا مُطوّلاً. سافرَت أمال مع ولدَيها وودّعتُها باكية، فمِمَّن سأستمِدُّ قوتي بعد رحيلها؟

عاشَت أمال سعيدة مع زوجها الجديد الذي أحبَّها بالفعل، وبقينا على اتّصال هاتفيّ لسنوات. أحبَّها الجميع هناك، فهي انخرطَت في جمعيّات خيريّة عديدة وقدّمَت المُساعدة حيث استطاعَت. فبعض الناس وُلِدوا ليُحبّوا ولهذا السبب بالذات. هم للأسف قليلون، لكنّهم مُعديّون، فالذين التمسوا حبّهم العظيم، حتى ولو بصورة غير مُباشرة، يصيرون قادرين على إعطاء الحبّ بدورهم. وهذا ما أفعلُه مع أفراد عائلتي ومُحيطي، على أمل أن ينتشِرَ الحبّ في كلّ الأنحاء ويُزيلُ مِن قلوب الناس الحقد والغضب والحزن.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button