حبّ وخيانة

حصلَت هذه القصّة منذ زمَن بعيد، إلا أنّها تتناول موضوعًا لا حدود زمنيّة أو جغرافيّة له. فالطبيعة الإنسانيّة هي نفسها لا تتغيّر عبر العصور أو الحدود.

كان لجدّي بيت جميل خارج البلدة، وكلّ مَن رآه ينبَهر به. فالجدير بالذكر أنّ والد أمّي كان مرتاحًا ماديًّا، ويتمتّع بنفوذ لا يُستهان به، وكانت عائلته معروفة بكرمها ومساعدتها للمحتاجين ولقد حسّن أفرادها بشكل ملحوظ أحوال العديد مِن أهالي البلدة.

لكنّ حياة سكّان ذلك البيت الجميل لم تكن سعيدة، فخلَف جدرانه كانت تجري مأساة لا عِلم لأحد بها: جنون صاحب البيت.

أقول جنون، لأنّ المسألة كانت نفسيّة وليس عقليّة لكنّها تفاقمَت لاحقًا لتبلغ حدّها الأخطر. في البدء، كان جدّي صعب المزاج وضيّق الخلق، لا يتردّد بالصّراخ على زوجته وأذيّتها أثناء نوباته. لم يكن أحد يعلم بعد أنّ ذلك الرجل البشع الطباع كان يُعاني مِن اضطراب حاد، ففي ذلك الوقت وعند أمثال هؤلاء، كان مِن العار أن تعرف الناس ما يدور في البيوت، لِذا كانت جدّتي المسكينة تُظهِر للعلَن سعادة مُصطنعة حسدَها الجميع عليها.

في السّنوات الأولى لزواجهما، لم تُنجب جدّتي، ربمّا بسبب توتّرها الدائم وخوفها مِن تقلّبات جدّي التي باتَت متزايدة. لذلك صبَّت إهتمامها كلّه على الحديقة الضخمة التي كانت تُحيط بالبيت. هناك وجَدَت الرّاحة واستطاعَت إطلاق العنان لأحلامها. وهي كانت إنسانة حالمة ورومنسيّة تحبّ الناس والطبيعة والحيوانات، على عكس زوجها الذي لم يكن يهوى سوى جمع المال والتواجد بين كلّ مَن شاركَه حبّه للمادّة.

وسط تلك الأجواء، قَدِمَ زَين إلى حياة جدّتي وجدّي وحياتنا كلّنا.

فذات يوم، بينما كانت جدّتي في الحديقة، رأت رجلاً متّجهًا نحوها، فتوقّفَت عن عملها وانتظرَت حتى اقترَبَ منها. فهو كان غريبًا عن البلدة ووسيمًا للغاية، وظهوره المفاجئ كان بمثابة لمسة اضافيّة على جمال الحديقة، على الأقلّ بنظر سيّدة تعيسة بحياتها الزوجيّة.

كان زَين يبحث عن عمل كحدائقيّ، ووصَلَ بيت جدّي بعد أن نصحَه أهل البلدة بأن يقصد "السيّد الكريم وزوجته الجميلة".

 


ـ مرحبًا... هل أنتما بحاجة إلى حدائقيّ؟

 

ـ للحقيقة أنا أهتمّ شخصيًّا بالحديقة لكنّها كبيرة للغاية... وقد أحتاج فعلاً إلى مساعدة. عُد في الغد، فعليّ أخذ رأي وموافقة زوجي أوّلاً."

 

كانت تعلم جدّتي أنّ جدّي لن يُمانع، لأنّه لطالما طالَب بمَن يهتمّ بالحديقة ليس لإراحة زوجته لكن مِن أجل صورته الإجتماعيّة.

وهكذا بدأ زَين العمل باليوم التالي، واستقرّ في البيت الصغير الموجود إلى جانب الحديقة. ولو رأى أحد وسامة ذلك الرجل أو كيف تنظر جدّتي إليه، لشعَرَ على الفور أنّه كان مِن المحتوم أن يحصل شيء بينهما.

وبعد حوالي السنة، ولِدَت أمّي وسط فرحة لا تُقاس. لكنّ جدّي، إلى جانب عدَم كونه زوجًا صالحًا، لم يكن أيضًا أبًا حنونًا، فبالكاد كان يُلاعب إبنته أو حتى يسأل عنها، إلا أمام الناس طبعًا.

مِن حسن حظ جدّتي أنّ ابنتها كانت تشبهُها وحدها، وإلا فُضِحَ أمرها وأمر الحدائقيّ، أي جدّي الحقيقيّ.

ومرَّت سنتَين عاشوا فيها جميعًا كعائلة كبيرة، وكان زَين يُعوّض لأمّي نقص الحنان الأبويّ، وكانت جدّتي تنظر إليهما بحنان لأنّ حياتها كانت قد اكتملَت. بغرابة، هي لَم تشعر بالذنب لإنجابها مِن عشيقها، لأنّ زوجها كان، كما ذكرتُ سابقًا، إنسانًا بغيضًا للغاية ولَم يكن مِن الجائز أبدًا على النساء آنذاك طلَب الطلاق أو ترك أزواجهنّ. فرأت جدّتي أنّ تلك المعادلة هي الأفضل، خاصّة أنّ جميع الأطراف سعداء.

لكنّ الزوج بدأ ومِن غير سبب، ينزعج مِن وجود زَين وقرَّرَ طرده. خافَت جدّتي مِن أن يكون قد اكتشفَ شيئًا، لكنّه لم يبدُ غاضبًا منها بل فقط مِن الحدائقيّ.

إرتعبَت جدّتي لفكرة ابتعاد الرّجل الذي تحبُّه عنها وعن إبنته، فحاولَت تغيير رأي زوجها بالحجج والبراهين، الأمر الذي هدَّأ مِن روعه بعض الشيء. لكن في الليلة نفسها، سمِعَت جدّتي أصواتًا ترتفع مِن مسكن الحدائقيّ وركضَت لترى ما الموضوع. إختبأَت خلف الشبّاك بعد أن رأَت زوجها في الداخل يصرخ على زَين:

 

ـ خُذ أمتعتكَ وغادر أملاكي في الحال!

 

ـ لن يحصل ذلك، أنا باقٍ.

 

ـ لقد انتهَت مهمّتكَ ولا داعٍ لأن تبقى. ألَم تقبض أجر خدماتكَ؟

 

ـ بلى، إلا أنّني لن أغادر مِن دونهما.

 

ـ هاهاها! ومنذ متى أنتَ عاطفيّ هكذا؟ أذكرُ أنّكَ لطالما كنتَ مِن دون ضمير أو عواطف.

 

ـ هذا قبل أن التقي بها وتُعطيني إبنة بغاية الجمال.

 

ـ هذه إبنتي أنا فلقد دفعتُ لكَ ثمَن إنجابها. أنتَ تعلم أنّني لا أستطيع الإنجاب. ولم يكن تعلّقَكَ بزوجتي جزئاً مِن الإتفاق. ستغادر أو...

 

ـ أنتَ لا تُخيفُني، وتعرف ذلك تمامًا. لم أخَف مِمَّن هم أكبر منكَ وأقوى.

 


لم تصدّق جدّتي أذنَيها! هل يُعقل أن يكون زوجها قد "وظّفَ" زَين لتحمل منه؟ أيّ إنسان يفعل ذلك؟ مَن يقبل على نفسه أن يُمارس رجل آخر الحب مع زوجته؟ وكيف استطاع زَين غشّها؟ صحيح أنّه قال إنّه تعلّق بها وبابنتها ولكن...

ركضَت جدّتي إلى البيت لتدّعي النوم قبل عودة زوجها إلى الفراش، وبدأت تبكي على حياتها التي لم تتصوّرها هكذا عندما قبِلَت الزواج مِن رجل وعدَها بإسعادها وحمايتها. صحيح أنّها خانَته، لكنّه دفَعَها إلى ذلك بتصرّفاته القبيحة، وبإرسال عشيق لها حين كانت وحيدة وضعيفة.

غرقَت جدّتي في النوم لكثرة بكائها، وحين استيقظَت كان الضوء قد طلعَ. وبعد أن تحقّقَت مِن أنّ زوجها غادَرَ إلى أعماله، أسرعَت إلى بيت الحديقة لتُوَبّخ زَين وتطلب منه تفسيرًا لِما سمعَته.

إلا أنّ البيت كان خاليًا ولا أثَر لزَين، مع أنّ أمتعته كانت لا تزال موجودة في مكانها.

فتّشَت جدّتي عن أب ابنتها في كلّ مكان مِن دون نتيجة، وقرّرَت الإنتظار حتى المساء أو اليوم التالي كحدّ أقصى.

لكنّ زَين لم يعُد. وحين سألَت جدّتي زوجها عن الحدائقيّ، أجابَها بأنّه غادَرَ مِن دون أن يُعطي تفسيرًا. بالطبع علِمَت أنّه يكذب، لكنّها لم تجادله.

وتأكَّدَ لها، بعد التفكير، أنّ زَين لم يكن ليرحَل هكذا، خاصّة بعدما سمعَته يرفض المغادرة بشكل قطعيّ ويتحدّى زوجها بشهامة. كان مِن الواضح أنّ لزوجها دخلاً باختفاء حبيبها.

منذ ذلك الحين باتَت جدّتي تكره زوجها بشكل فظيع، ولم تعد تكلّمه إلا عند الضرورة وانتقلَت للنوم في غرفة إبنتها. ومع الوقت، تفاقَم مرض زوجها النفسيّ حتى أصابَه ما أسماه سكّان البلدة بالجنون، ممّا إستَدعى نقله إلى المصحّ.

كانت أمّي في السّابعة مِن عمرها، فلَم تتأثّر بابتعاد أبيها عنها لأنّه لم يُبدِ يومًا أيّ عاطفة تجاهها. لم تكن تعلم بعد السّبب، فجدّتي لَم تُخبرها عمَّن هو أبوها الحقيقيّ إلا عندما كانت هذه الأخيرة على فراش الموت.

أسِفَت أمّي كثيرًا لأنّها لم تكن تتذكّر بوضوح زَين، بل كانت تحتفظ ببعض الذكريات البعيدة عن رجل طيّب وحنون كان يُلاعبُها، وحاولَت معرفة مكانه لعلّه كان لا يزال على قَيد الحياة.

لكن كان مِن الواضح أنّ زوج أمّها تخلّص منه، على الأرجح في ليلة شجارهما، بالغدر حتمًا لأنّ الحدائقيّ كان كبير القامة وقويّ البنية.

مَن كان زَين في الحقيقة؟ إستنادًا لِمَا رَوَته جدّتي، كان على الأرجح رجلاً لا يتردّد عن تنفيذ ما يُطلَب منه مقابل المال، وأنّه قد يكون قد قضى فترة في السجن. لكنّه كان ذا قلب كبير ومعدَن طيّب. مِن أين تعرَّفَ إلى زوج جدّتي؟ هذا الجزء أيضًا بقيَ غامضًا.

أخبرَتني أمّي قصّة أبيها، وها أنا أخبركم بها لأنّ وسط الخيانة والبَيع والتخطيط، هناك قصّة حبّ جميلة وعميقة أثمَرت طفلة، ودفَعَ أحدهم ثمنها بدمائه.

لا أحد يبدو لنا فعلاً كما هو. فزوج جدّتي كان رجلاً مُحترمًا لكنّه كان بالحقيقة سافلاً، وزَين، الذي لَم يكن يتردّد عن القيام بأبشع الأمور وقَعَ في الحب ورفض ترك "عائلته" حتى أنّه ضحّى بحياته مِن أجلها.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button