حاسّتي السادسة

الفضل يعود أوّلاً إلى كلبي "بلاكي"... ومِن ثمّ إلى حاسّتي السّادسة. فذلك الحيوان ساعدَني، مِن دون أن يدري، على كشف ما كان يجري.

فإلى جانب شكله الجميل وحركاته المُسلّية، كان يعرفُ "بلاكي" مهامه جيّدًا، أي حراسة المكان وأصحابه مِن الغرباء. والويل لمَن يقترب مِن سياج الحديقة أو باب المدخل! حتى أنّه عضّ ساعي البريد الجديد يوم جاء ليُسلّمنا طردًا كنّا بانتظاره. لَم أهدّئ مِن شراسته ضدّ الغرباء عمدًا، فقد كنتُ، ولا أزال، مِن الذين يحترسون كثيرًا، الأمر الذي جلَبَ لي التأنيب مِن قِبَل طارق زوجي الذي، على عكسي، كان مُرتاحًا في أيّ وقت ومكان ولا يرى الشرّ في أحد.

وحصَلَ أن أقفلَت دار الحضانة التي أرسلُ ابني إليها، الأمر الذي أوقعَني في حيرة مِن أمري، فتلك المؤسّسة كانت الوحيدة الموجودة بالقرب منّا، واللجوء إلى غيرها سيُؤدّي إلى تأخّري وزوجي عن عملنا في الصباح. لِذا نصحَني أحدهم بالبحث عن حاضنة أطفال تأتي إلى البيت وتمكثُ مع الولد حتى عودتنا. وضعتُ إعلانًا في إحدى الصّحف وعلى الإنترنت، وبدأَ تدفّق الفتيات لمقابلتنا.

واحدة فقط نالَت إعجابي وكان اسمها سهام، تلميذة جامعيّة تسكن في الجوار. والذي أقنعَني بها، هو أنّها جاءَت برفقة أبيها، وهو رجل أنيق ومتعلّم كان يودّ أن يَطمئنّ على ابنته بالتعرّف إلى مستخدميها الجدد.

وهكذا بدأَت سهام بالمجيء إلينا في الصباح الباكر، لترحل في الخامسة مِن بعد الظهر حتى تلتحق بدروسها. وبالطبع إحتاج بلاكي إلى وقت طويل للتعوّد على سهام التي عرفَت كيف تتعامل معه وتُطَمئنُه. فبعد مرّات عديدة، لَم يعدُ ينبحُ عليها، بل صارَ يُراقبُها قبل أن يسمحَ لها أخيرًا بمداعبته. وصارا أعزّ الأصدقاء.

مرَّت الأسابيع ومِن ثمّ الأشهر، وطلبَت منّا سهام الإذن بأن تبيت عندنا لفترة قصيرة ريثما يعود أبوها مِن سفر ملحّ، فالفتاة كانت يتيمة الأم وإبنة وحيدة، وخافَت أن تنام لوحدها في بيتها. لَم نرَ مانعًا بذلك، خاصّة أنّ كان لدَينا فرحًا علينا حضوره في منطقة بعيدة، وكِدنا أن نلغي ذهابنا إليه بسبب المسافة التي كانت ستُجبرُنا على العودة متأخّرَين جدًّا. طلبتُ مِن سهام أن تجيء بأبيها لأتأكّد مِن أنّ تلك الصبيّة تقول الحقيقة، فبذلك السنّ، تختلق الفتيات أحيانًا قصصًا مِن دون معرفة ذويهنّ، ولَم أكن أريدُ تحمّل المسؤوليّة.

 


زارَنا الأب للمرّة الثانية، وجلَسَ معنا، وأكَّدَ قصّة السفر وشكرَنا على استضافتنا لابنته حتى يعود. وما استقطبَ انتباهي هو أنّ بلاكي لَم ينبَح على الرجل كما فعَلَ حين رآه منذ أشهر وقت المقابلة، وكما يفعلُ حين يرى غرباء، بل جاء إليه ليحصل على مداعبة. لَم أقل شيئًا لكنّني لَم أرتَح للأمر. فبلاكي كان كلبي وربَّيتُه بنفسي منذ وُلِدَ وأعرفُه تمام المعرفة. خفتُ أن أُثير الموضوع أمام طارق وأن أسمع تعليقاته المُزعجة، فحفظتُ الأمر لنفسي، لكنّني قرّرتُ طبعًا التفكير بالأمر لإيجاد تفسير منطقيّ له.

وبما أنّ ذلك الرّجل صارَ بالنسبة لي مُشتبهًا به، باتَت إبنته هي الأخرى محطّ شكوكي، ولَم أعدُ أحتملُها. ندِمتُ لأنّني قبلتُ أن تبقى معنا حتى لو كان ذلك لبضع أيّام، وبدأتُ أنفُرُ منها ومِن أيّ شيء تقوله أو تفعله. ولاحَظَ زوحي طريقة تعاملي مع سهام، فسألَني عمّا يجري فأجبتُه بأنّني لا أحبّ وجود غرباء في البيت، وأنّني سأبحثُ عن حلّ آخر فور عودة الأب. سخِرَ منّي طارق، طبعًا، لكنّني تعلّمتُ أن أثقَ بحاستي السادسة... وبكلبي الذي لَم يخذلني يومًا.

لِذا عندما جاء اليوم الذي كنّا قد قرّرنا أن نذهب فيه إلى ذلك الزفاف، إختلَقتُ قصّة مفادها أنّ أمّي وقعَت عن السلّم ووجَبَ عليّ الذهاب إليها. وطلبتُ مِن زوجي أن يذهب إلى الفرح مِن دوني، وألا يقول شيئًا أمام سهام كي لا تشعر بأنّ عليها الذهاب مكاني إلى أمّي مع الولد. فتلك الصبيّة كانت تعمل لدَينا وليس لدى أمّي. إقتنَعَ زوجي بقصّتي، واتّصَلَ بأمّي ليسأل عنها، بعدما كنتُ قد سبقتُه بإخبارها عن خطّتي. ضحِكَت والدتي لدى سماع ما أنوي فعله وقالَت لي:

 

ـ أعرفُكِ جيّدًا يا ابنتي، لِذا لن أسألكِ عمّا تخبّئينه لأنّكِ حتمًا على حقّ.

 

يا لَيت زوجي كان يثقُ بي كما تفعلُ أمّي!

تحضّرتُ كأنّني ذاهبة للفرح، ورافقتُ زوجي إلى السيّارة بعدما قبّلنا ولدنا وأعطَينا التعليمات اللازمة لسهام. وعندما وصلتُ إلى بيت أمّي، بدّلتُ ثيابي بأخرى كنتُ قد جلبتُها معي قبل يوم، وأخذتُ سيّارة أبي لأركنها قرب بيتي بانتظار حدث لم أكن أعرفُ ماهيّته.

كدتُ أغفو في السيّارة، وأعترفُ بأنّ الشكوك انتابَتني بشأن ما أفعلُه، وتوصّلتُ إلى أن أسأل نفسي إن كنتُ أحتاج إلى طبيب نفسيّ ليُشفيني مِن ظنّي بالناس والأحداث.

 


وفجأة رأيتُ سيّارة أب سهام تتوقّف أمام بيتنا، وسهام تخرج لتلاقيه بصحبة "بلاكي" الذي بدأ يقفزُ مِن الفرح لدى رؤية الرجل. هكذا إذًا... كان كلبي مُعتادًا على رؤية والد سهام، أي أنّه كان يأتي مرارًا لزيارة إبنته خلال النهار. لكن لماذا أخفَت عنّا الحاضنة هذا الأمر الطبيعيّ؟

حصلتُ على الجواب حين قبّلَت سهام أباها بطريقة لا علاقة لها أبدًا بالأبوّة! كِدتُ أصرخُ مِن الدهشة والإشمئزاز، لكنّني أدركتُ أنّ ذلك الرجل ليس أباها بل عشيقها الأكبر سنًّا، وأنّ سبب عدَم معرفتنا بزياراته هو أنّ سهام كانت ولا تزال، تجيء بعشيقها إلى بيتنا وتفعل ما تفعله معه... أمام عَينَي إبننا! إنتابني غضب لا يُقاس، وأردتُ أن أترجّل مِن سيّارتي للصراخ بهما لكنّني قرّرتُ أن أترَيّث، فكنتُ لوحدي وهما إثنَان وكان الوقت متأخرًّا. إتصلتُ بزوجي طالبة منه العودة بسرعة بذريعة أنّ حالة أمّي قد ساءَت وأريدُ مرافقتها إلى المشفى. وقلتُ لطارق أن يُوافيني إلى بيتنا لأنّني أريدُ تغيير ملابسي والذهاب معه إلى المشفى.

كان الوقت يمرّ ببطء شديد وأنا في السيّارة أغلي مِن الإنتظار. مرَّت أكثر مِن ساعتَين ولَم أعُد أطيق عدم التّصرّف. لذا، نزلتُ مِن سيّارتي واقتربتُ ببطء مِن المنزل لأرى إن كنتُ أستطيع تمييز ما يجري في الداخل مِن خلال النوافذ المُضاءة.

وما رأيتُه صدَمَني إلى أقصى درجة: كانت سهام تحمل في يدَيها مجوهراتي والرّجل كلّ أغراضنا الثمينة، ويضعانها في حقيبة سفر. ولحظة عزما على الخروج، ركضتُ نحو السيّارة.

وفي هذا الوقت بالذات وصَلَ زوجي، فصَرَختُ له عن بُعد: "أنظر مَن عادَ مِن السفر!" إلتفَتَ زوجي بالرجل ورحَّبَ به وسألَه عن سفرته. في تلك الأثناء أسرَعتُ بانتشال الحقيبة مِن يد سهام قائلة: "وانظر يا حبيبي ما جلبَه لنا مِن هدايا! شكرًا جزيلاً!" ومِن ثمّ همستُ للسارقة: "مِن الأفضل لكما أن ترحلا على الفور، فلقد اتّصلتُ بالشرطة. هيّا، إن كنتِ لا تريدين أن تمضي وعشيقكِ سنوات طويلة في السّجن!"

أومَأت سهام إلى الرجل بأنّ عليهما الرحيل، إلا أنّه بقيَ مصرًّا على معرفة مصير الحقيبة. كنتُ خائفة جدًّا من أن يكون مسلّحًا، لكنّ سهام همسَت في أذنه أنّني أبلغتُ الشرطة بما يجري. وبسرعة، ركِبا السيّارة، واختفيا.

وقَفَ زوجي مكانه يُحاولُ استيعاب ما حصَل، وأنا صرختُ فجأة: "إبننا!" ودخلتُ البيت كالمجنونة لأجد ولدنا بخير.

عندها روَيتُ لطارق القصّة بأكملها. هو لَم ينسَ طبعًا توبيخي لأنّني لم أقل له شيئًا عن شكوكي، ولأنّني، على حدّ قوله، عرّضتُ الجميع للخطر. لكن ما كان عليّ أن أفعل؟ أن أذهب إلى الشرطة وأقول لهم إنّ كلبي لم ينبَح على أب سهام؟ في آخر المطاف، إعترَف زوجي بذكائي وحاسّتي السادسة، ووعدَني بأن يثق بي أكثر مِن الآن ولاحقًا. بالطبع لم أصدّقه، واكتفَيتُ بتهنئة نفسي على نباهتي. سُرَّت جدًّا أمّي حين قصَصتُ عليها مُغامرتي وافتخَرَت بابنتها التي، مرّة أخرى، كانت على حقّ.

أمّا بشأن سهام وعشيقها، فلَم نسمع عنهما مجدّدًا. زوجي أرادَ أن نذهب إلى القسم لنبلّغ عنهما، إلا أنّني رفضتُ ذلك، فهما كانا يعرفان كل شيء عنّا، وخفتُ أن ينتقما منّا ويتسبّبان بالأذيّة لإبننا. هل كانا معتادَين على سرقة بيوت الناس، أم أنّ الأمر بدأ بحاجتهما لإيجاد مكان يلتقيا فيه وخطَرَت لاحقًا ببالهما سرقتنا؟ لن أعرف الجواب يومًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button