جارتنا الفضوليّة

كان الناس يُلقبّون سهام جارتنا بِـ "العقربة" لأنّها كانت تبخُّ سمّها على كلّ مَن حولها... ولَم يكونوا مُخطئين. فتلك المرأة عمِلَت جهدها للتنكيل بحياة أهل المبنى والحَيّ بأسره. والذي حالَ دون إيقافها، هو أنّها كانت على حقّ بمُعظم الذي كانت تقولُه. ففي كلّ بيت هناك أسرار وهي كشفَتها كلّها. كيف توصّلَت إلى ذلك؟ بالعمل الدّؤوب خلال سنوات طويلة. فسهام لَم تفصَح عن حقيقتها في البدء، بل دخلَت حميميّة الناس شيئًا فشيئًا، مُتظاهرة بأنّها صديقة وفيّة تقدّمُ مُساعدتها لمَن هو بحاجة إليها. وهكذا جمَعَت ما يلزمُها مِن معلومات لتضرب ضرباتها الموجعة والقاضية.

دعوني قبل كلّ شيء أحكي لكم عن سهام: هي إمرأة في العقد السادس مِن عمرها، وتسكنُ لوحدها مع أمّها العجوز بعدما ماتَ أبوها وتزوَّجَ باقي أخوَتها، وعمِلَت لسنوات طويلة كمسؤولة تأنيب وانضباط في مدرسة رسميّة حيث، كما أتصوّرُ، مارسَت سياسة الرّعب قدر ما شاءَت لتتقاعد أخيرًا وتُريحُ التلامذة مِن شرّها. هي لَم تتزوّج يومًا، وحسب ما عرفتُ مِن والدتي وباقي سكّان الحَي، لَم يدقّ قلبها لأيّ رجل، بل بقيَت "مُحافظةً على شرفها واستقامتها" بإصرار. لَم نرَ أيًّا مِن أخوَتها منذ سنوات عديدة، وكأنّهم فعلوا جهدهم للإبتعاد عنها، فلا بدّ أنّها أزعجتهم في حياتهم أيضًا، واكتفوا بإرسال لها ولأمّها المال عن بُعد. لَم تكن سهام قبيحة المظهر، بل كانت ملامحها مُتناسقة وقوامها جميلاً وملابسها أنيقة، الأمر الذي جذَبَ، ولو في البدء، الناس لها مُستبعدين أن تكون روحها بغاية القباحة. فغالبًا ما نظنّ أنّ الشرّيرين هم قبيحون وشكلهم مُقزّز.

كنتُ في ذلك الوقت في الثالثة والعشرين مِن عمري، وانهَيتُ لتوّي دراستي الجامعيّة، وكانت حياتي هادئة وعاديّة للغاية. فكلّ الذي كان يهمُّني كان أن أحصل على شهادتي وأبدأ بالعمل لأشعر ببعض مِن الإستقلاليّة وبأنّني عضو فعّال في المُجتمع. لَم تكن تهمُّني الأقاويل التي سمعتُها عن ومِن جاراتنا، ولَم أكن أكرهُها كباقي السكّان بل أتفاداها كما أملَت علي أمّي. إلا أنّ سهام كانت، وبغرابة، تكنّ لي مودّة خاصّة، فكلّما التقَينا صدفة في المصعد أو على السّلالم، كانت تبتسمُ لي وتسألُني عن أحوالي، وكنتُ أجيبُها بلطافة مِن دون أن أُعطيها تفاصيل دقيقة عن حياتي.

إلا أنّ سهام كانت تعرفُ كلّ شيء عنّي. فلكثرة تمرّسها، لَم تعُد بحاجة إلى الحصول على المعلومات مِن الشخص نفسه، بل مِن مراقبتها له والإستماع إلى ما يدورُ مِن أحاديث خلف أبواب الناس. وهكذا علِمَت بعلاقتي الحديثة مع شاب إختارَه قلبي.

 


كان سميح موظفًا كبيرًا في شركة تأمين، والتقَينا صدفة. لَم يُزعجني أنّه كان متزوّجًا سابقًا وأنّ له طفلاً في الثانية مِن عمره. فبعد أن اختلَف مع زوجته، فضَّلَت هذه الأخيرة ترك ولدهما له لتبدأ حياة جديدة مع شخص آخر. صحيح أنّ والدَيَّ في البدء خالفا قراري بالإرتباط بسميح، إلا أنّهما قبِلا به بعدما دعاهما إلى تناول العشاء في مطعم جميل. هناك، تبادلنا جميعًا الأحاديث، وهو طمأن أهلي بأنّه سيهتمُّ بي ويُحبُّني كثيرًا.

كيف علِمَت سهام بكلّ تفاصيل حياتي؟ لستُ أدري، إلا أنّها انتظرَتني في أحد الأيّام عند أسفل المبنى لتقول لي:

 

ـ إعتقدتُكِ صبيّة ذكيّة... كنتُ مُخطئة على ما يبدو.

 

ـ لَم أفهم قصدكِ يا آنسة سهام.

 

ـ هذا الشاب... ما اسمه... آه، سميح...

 

ـ تعرفين سميح؟!؟

 

ـ لا، بل أعرفُ عنه الكثير. وهو لا يُناسبُكِ.

 

ـ أعذريني على ما سأقولُه لكِ، إلا أنّ هذا ليس مِن شأنكِ.

 

ـ بلى، فأنتِ عزيزة عليّ... تُذكّريني بنفسي عندما كنتُ بسنّكِ.

 

ـ هذا شرف لي لكن...

 

ـ دعيني أكمل! هذا الشاب له أسرار كثيرة... فهو كان متزوّجًا.

 

ـ أعلمُ ذلك، لا تُتعبي نفسكِ، وله ولدٌ.

 

ـ صحيح، أهذا كلّ ما أخبركِ به؟

 

ـ أجل ولستُ بحاجة إلى معرفة المزيد. الآن دعيني أمرّ، فلدَيّ ما هو أهمّ مِن الإستماع إلى ثرثرتكِ.

 

ـ لن أدعكِ تقَعين في فخّه.

 

كلام جارتنا أغضبَني، وبقيتُ مُشنّجة طوال اليوم إلى حين عدتُ إلى البيت وأخبرتُ والدتي بالذي حصل. حاولَت أمّي أن تهدّئ مِن استيائي، ووعدَتني بأنّها ستطلبُ مِن سهام أن تدَعَني وشأني. لكنّ تلك المرأة لَم تكن مِن اللواتي تتراجعن عن أذيّة الناس.

لَم أتأثّر بكلام سهام ولَم تتغيّر مشاعري نحو سميح، بل العكس صرتُ مُتمسّكة به أكثر، ولَم أطلعُه على اتّهامات تلك المرأة الشرّيرة لأجنّبُه عناء تبرير نفسه. فحبيبي كان قد عانى الكثير مع زوجته السابقة ولا يلزمُه المزيد مِن المُعاناة.

وبعد أيّام قليلة، عادَت سهام تنتظرُني عند مدخل المبنى لتقول لي:

 

ـ كان لدَيّ خطيب.

 

ـ أنتِ؟

 

ـ أجل، أنا. وكنتُ أحبُّه كثيرًا إلى أن اكتشفتُ حقيقته، ويا ليت أحدهم قال لي أن أحترس منه. لِذا...

 

ـ لِذا تريدين إصلاح ما حصل لكِ بتنبيهي مِن سميح، أليس كذلك؟

 

ـ أجل.

 


ـ لكنّ سميح ليس خطيبكِ وأنا لستُ أنتِ. أشكركِ على اهتمامكِ، لكن أرجوكِ أن تكفّي عن إزعاجي. دعيني أستمتع بحياتي العاطفيّة! فلقد نكّدتِ حياة العديد مِن الناس مِن حولكِ.

 

ـ وهل أخطأتُ بما قلتُه عنهم ولو مرّة؟ أنا قادرة على رؤية الشرّ أينما كان، ربمّا لأنّني ذقتُ مرارته. وخطيبكِ هو شرّير، صدّقيني. خُذي، هذا رقم هاتف زوجته السابقة.

 

ـ دعيني وشأني أيّتها الساحرة!!!

 

رمَيتُ الورقة التي تحمل ذلك الرقم بوجه سهام، وركضتُ خارج المبنى والدّمع يملأ عَينَي. وسبب غضبي كان أنّني بدأتُ رغمًا عنّي أشكّ بسميح. إلا أنّني أسرَعتُ بِطرد تلك الأفكار مِن رأسي، رافضة أن أصبح إحدى ضحايا سهام. وفي تلك المرّة، أخبرتُ سميح عن الذي يجري، خاصّة أنّ وقاحتها وصلَت إلى حدّ إيجاد رقم هاتف زوجته السابقة. بالطبع إستاءَ حبيبي إلى أقصى درجة، متسائلاً لماذا يتدخّل الناس في حياة غيرهم هكذا، وما كان دافع سهام بإيذائنا. ألا يحقّ لنا أن نكون سعيدَين؟ هدّأتُه ووعدتُه بأن أتفادى جارتنا قدر المُستطاع، إلى حين نتزوّج ونسكنُ بعيدًا عنها حيث لا يُمكنُها أن تطالنا.

لكن بعد يوم واحد على حديثي مع سميح، إنقطَعت أخباره. حاولتُ الإتصال به إلا أنّ خطّه كان مُقفلاً. ولو كنتُ أعلم مكان سكنه لقصدتُه على الفور، لكنّني لَم أزره يومًا. صِرتُ كالمجنونة أخاطبُ نفسي مِن كثرة الهمّ، فقد مرّ يومان ولَم يتّصل بي حبيبي، الأمر الذي لَم يحصل مِن قبل. ذهبتُ إلى الشركة التي يعملُ بها للسّؤال عنه، لكنّ دخول المبنى كان محظورًا لمَن ليس له موعد أو بطاقة دخول.

ندِمتُ كثيرًا على إخبار سميح بما قالَته لي سهام، فهو ظنّ حتمًا أنّني صدّقتُها وأريدُ معرفة ردّة فعله للتأكّد مِن صحّة تلك الأخبار. لكنّني لَم أفهَم لماذا لَم يُعاتبني، كنتُ سأتمكّنُ مِن تبرير نفسي وطمأنة باله.

وقرّرتُ على مضض أن أنتظر حتى يهدأ لنُكمل قصّة حبّنا.

طالَ انتظاري، وكدتُ أموت مِن الحزن حين دقّ بابنا ولد يحمل لي رسالة. إستغربتُ الأمر، ورجَوتُ أن تكون مِن حبيبي إلا أنّها كانت مِن جارتنا. سلّمَني الولد ورقة عليها، مرّة أخرى، رقم زوجة سميح السابقة. كانت والدتي واقفة بالقرب منّي واستفسرَت عن تلك الرسالة، فقلتُ لها مِمَّن هي وعلى ما تحتوي. فنصحَتني أمّي بالإتصال بذلك الرقم، مُضيفة: "صحيح أنّ سهام إنسانة معدومة الضمير، إلا أنّها دائمًا على حقّ."

رفضتُ قطعًا، فلَم أكن مُستعدّة لإغضاب سميح أكثر وأرى فرصة عودته لي تتبخّر. لِذا، أخذَت والدتي الورقة منّي وطلبَت بنفسها زوجة سميح السابقة وأدارَت مكبّر الصوت لأسمع الحديث. وهذا ما جرى بين المرأتَين:

 

ـ أنا والدة خطيبة زوجكِ السابق... أريدُ منكِ أن تُجيبي على سؤالي بمُنتهى الصراحة، فمصير إبنتي على المحكّ.

 

ـ ما الفائدة مِن ذلك؟ فلن تصدّقيني، وقد تقولين إنّني لا أريدُ أن يتزوّج سميح مجدّدًا مِن كثرة غيرتي عليه أو خوفًا على إبني.

 

ـ دعي لي الحكم على كلامكِ. هل يجدرُ بابنتي الزواج مِن سميح، نعم أم لا؟

 

ـ بالطبع لا! إسمعي سيّدتي، هذا الرجل عنيف وكان يُبرحُني ضربًا كلّما كان مزاجه سيّئًا، ولقد تحمّلتُ الإهانات والعنف لأكثر مِن سنة مُعتقدّةً أنّه سيصطلح، إلى أن طفَحَ كَيلي. طلبتُ الطلاق، لكنّ زوجي، وبعد أن وعدَني بإعطائي حضانة إبننا، غيّر رأيه واحتفظ به وهدّدني بأذيّته إن اقتربتُ منه. حاولتُ أخذ الولد منه بالطرق القانونيّة لكنّني فشلتُ، فهو إنسان خبيث وكاذب، وبدأ بإطلاق الإشاعات البشعة عنّي. وهكذا فضّلتُ الإنسحاب كي لا يربى إبني مُعتقدًا أنّني امرأة فاسدة. صدّقيني أرجوكِ! سميح هو الشرّ بحدّ ذاته.

 

ـ أشكرُكِ على صراحتكِ.

 

لَم أصدّق زوجة سميح السابقة، فمِن الواضح أنّها تخترعُ الأكاذيب عنه، وبقيتُ أنتظرُ منه أي اشارة تدلّ على أنّه سامحَني. لكنّه لَم يتّصل بي على الإطلاق، وشعرتُ أنّ قلبي ينزفُ مِن الحزن والندم.

وبعد حوالي الشهر على اختفاء سميح، وصلَني خبر زواجه مِن صديقة لي كانت تعرف عروسه، ورأَت صوَر زفافهما على صفحتها على الفيسبوك. كِدتُ أجنّ مِن الغضب واليأس عندما وصلَتني تلك الصوَر ورأيتُه سعيدًا مع تلك الفتاة. هل يُعقل أن يكون سميح قد نسيَني بهذه السرعة وقرّر الإرتباط بأخرى إلى الأبد؟

عندها أدركتُ أنّ حبيبي لَم يُحبّني كفاية، لكنّني لَم أصدّق الأقاويل التي أطلقَتها زوجته السابقة عنه. فإذا لَم يكن واثقًا مِن مشاعري نحوه، فهذا لا يعني أنّه الوحش الذي صوّرَته لنا.

لكن بعد حوالي السنة، أخبرَتني صديقتي أنّ زوجته الجديدة ترَكَته بسبب سوء معاملته لها، وهي كانت محظوظة لأنّها لَم تُنجب منه. عندها، إعترفتُ أخيرًا بسوء تقديري للتحذيرات التي وردَتني مِن أكثر مِن جهة.

رحتُ أدقّ باب سهام، وعندما فتحَت لي إستغربَت رؤيتي واقفة أمامها:

 

ـ لَم يدقّ أحد بابي مِنذ زمن طويل.

 

ـ ربمّا لأنّكِ لا تزفّي للناس سوى الأخبار البشعة.

 

ـ والصحيحة! أدخلي.

 

شربنا القهوة، وقدّمتُ لها اعتذاري لِعدَم تصديقها ثمّ سألتُها:

 

ـ لماذا أنتِ هكذا يا آنسة سهام؟ أعني لماذا لا تتركين الناس وشأنهم؟

 

ـ أتركهم وشأنهم؟ ماذا كان سيحصل لكِ لو تركتُكِ وشأنكِ؟

 

ـ أجل، لكن أعني أنّ هناك شائعات تطلقينَها ومِن شأنها أذيّة الناس.

 

ـ أنا لا أؤذي أحدًا، بل هم الذين يؤذون أنفسهم وغيرهم. لا تتعبي نفسكِ يا صغيرتي، فلَن أتغيّر، خاصّة في سنّي هذا. إهتمّي بنفسكِ يا صغيرتي... وابحثي عن رجل يستحقّكِ.

 

- وإنّ وجدتُ أحدًا جديدًا، هل ستتحرّين عنه كما فعلتِ مع سميح؟

 

ـ بالطبع! ها ها ها! وهل لديَّ سلوى أخرى؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button