جارتنا البلهاء

كنتُ في التاسعة مِن عمري عندما جاءَت وفاء وزوجها للسّكن في المبنى، وأذكُرُ تمامًا إنطباعي آنذاك: الإندهاش أمام ذلك الكمّ مِن الجمال. فتلك المرأة كانت وكأنّها كاملة الأوصاف، الأمر الذي خضَّ سكّان المبنى وفرّقَهم إلى قسمَين: فريق الرجال وفريق النساء، والسّبب واضح تمامًا.

لَم أفهم طبعًا الغيرة التي سبَّبَتها وفاء في قلب الزوجات، لأنّني صرتُ مفتونة بمخلوقة شبيهة ببطلات القصص والأفلام، وتمنَّيتُ أن أشبهها عندما أكبر. لكن ما مِن أحد كامل في هذه الدنيا، لأنّ وفاء كانت غبيّة وبسيطة بقدر جمالها، الأمر الذي أعطى لجاراتها أملاً بالتفوّق عليها، ولو مِن ناحية الذكاء والحنكة.

أمّا بالنسبة لِزوج وفاء، فهو كان قبيحًا مِن كلّ النواحي، وتساءَلَ الجميع كيف تلاقى هذان الإثنان وقرّرا العَيش سويًّا.

أذكُرُ تمامًا أحاديث نساء المبنى حول وفاء وكل ما يتعلّق بها، بسبب الجلسات التي كانت تُنظّمُها والدتي في البيت والتي كانت تهدفُ إلى تحطيم صورة منافستهنّ أمام الأزواج، لتستمرّ الحياة بشيء مِن الهدوء والطمأنينة. سألتُ أمّي لماذا تكره وفاء إلى هذه الدرجة، فقالَت لي مُبتسمة: "ستفهمين ذلك عندما تكبرين وتتزوّجين... وحتى ذلك الحين، عليكِ الإبتعاد عنها قدر المُستطاع، فنساء مثلها لا تأتي منهنّ سوى المتاعب."

لكنّني لم أكن أنوي أبدًا الإلتزام بأوامر والدتي، خاصّة بعدما شعرتُ بوحدة وفاء في بيتها وخارجه. فالجدير بالذكر أنّها أبدَت، في المرّات القليلة التي صادَفتُها، إهتمامًا خاصًّا بي، فهي هنّأتني على جمالي، الأمر الذي لَم يفعله أحد قبلها. فأنا كنتُ في تلك الفترة، فتاة ذات ملامح عاديّة جدًّا. ومنذ تلك اللحظة، أصبحتُ مِن المُعجبين بوفاء ومُستعدّة للوقوف إلى جانبها بوجه باقي النساء.

مع مرور الوقت، أي بعد أشهر قليلة على قدوم وفاء، بدأتُ أزورُها خفيةً، مُتحجّجةً بالذهاب إلى صديقتي للدّرس معها. كانت تلك فكرتي، لأنّ وفاء كانت قد قالَت لي في إحدى المرّات: "يا لَيت لدَيّ إبنة في سنّكِ... لَجلستُ معها أقصُّ عليها أسرار جمالي وأعطيها النصائح لتصبح فاتنة". لِذا دقَيتُ بابها في أحد الأيّام، وجلَسنا سويًّا نأكلُ الحلويّات وأستمعُ إلى نصائحها. كنتُ أنوي فعلاً أن أصبح كوفاء، أي أجمل فتاة في العالم، لكن بنسبة ذكاء أكبر.

 


إختراع الحجج لأمّي لَم يكن صعبًا عليّ، فلطالما كانت مُخيّلتي خصبة، الأمر الذي حملَني على الكذب باستمرار، ليس بدافع الغشّ بل لأنّني كنتُ قادرة على ذلك. وصار كلّ مَن يعرفُني ينعتُني بالكاذبة، الأمر الذي دفعَني إلى إتقان الكذب كي لا يُفتضح أمري. أي أنّني دخلتُ دوّامة سبّبَت لي متاعب كثيرة.

كنتُ ألتقي بوفاء يوميًّا ما عدا يوم الإثنَين، أي حين كان زوجها يمكثُ في البيت طوال النهار. ذلك الشخص كان غليظًا للغاية، وعلِمتُ مِن صديقتي الجديدة أنّه كان قاسيًا معها ولا يسمحُ لها بالإختلاط بأحد أو حتى الخروج مِن دونه. لِذا كنتُ أتفاداه قدر المُستطاع، وآتي لوفاء بما تحتاجُه مِن الدكّان أو البقّال وأحترسُ طبعًا أن يراني أحدٌ، خاصّة مَن أسمَيتُه "الطاغي".

في تلك الأثناء، صارَت وفاء محطّ سخرية نساء المبنى، بعدما تأكّدنَ مِن درجة غبائها الذي، حسب قولهنّ، غطّى على جمالها. فما نفع الجمال مِن دون دماغ؟ الرجال طبعًا كانوا مِن رأي آخر، وظلّوا يُدافعون عن الجارة قدر المستطاع، أي بتجنّب إغضاب زوجاتهم إلى درجة الخصام.

لكنّ أختي الصغرى كانت تُراقبني مِن غير علمي، واكتشفَت علاقتي بجارتنا الحسناء، فبدأت تبتزُّني مقابل بعض الحلوى أو مشاوير بصحبتي. كان الأمر ولاديًّا، لكنّني خفتُ أن تعرف أمّي أنّني لَم أنصَع لأوامرها. لَم تُخبر أختي والدتي، بل بعض أولاد المبنى والحَي، واحترتُ في أمري وكدتُ أتوقّف عن زيارة وفاء، إلا أنّها، وبعد أن علِمَت بما يجري، طلبَت منّي جَلب أصدقائي الصغار معي إلى بيتها. فرحتُ للأمر، فقد كان مِن الواضح أنّ صديقتي تحبّ الأولاد، ربمّا لأنّها لَم تنجب بعد. شكّلتُ فريقًا مِن الأولاد الأوفياء والذين يعرفون كيف يحفظون الأسرار، وأقسموا لي علنًا بأنّهم سيكونون مِن أشد المُدافعين عن وفاء، فهي كانت إنسانة معزولة تمامًا وضحيّة تهجّمات نساء المبنى. وهكذا صرنا نجتمع عند وفاء، ونأكلُ الطيّبات ونشربُ العصائر وهي تروي لنا القصص. وعند الحاجة، كنّا نجلبُ لها ما تحتاجُه. كنّا طبعًا نكذب جميعًا على أهلنا، فكلّ ما كثُرَ الكاذبون، كلّما كانت الكذبة متينة.

وسُرعان ما صارَت الشلّة تُساعدُ وفاء بترتيب وتنظيف شقّتها بسبب عدَم تركيزها على واجباتها، الأمر الذي يأتي بنتائج سلبيّة على شكل مسكنها ويجلبُ لها صراخ زوجها. هي لَم تطلب منّا أن نفعل شيئًا، بل تمنَّت عاليًا مرّات عديدة لو تنام وتستيقظ لتجد البيت مُرتّبًا ونظّيفًا. وفي تلك الفترة بالذات، كان علينا طرح سؤال بديهيّ على أنفسنا: مَن كان الغبيّ والبسيط فعلاً؟

تلك الحالة كانت ستستمرّ إلى ما لا نهاية، لو لَم أقرّر زيارة وفاء إستثنائيًّا يوم الأثنَين بسبب ما سمعتُ أمّي تقولُه للجارات في إحدى جلساتهنّ. فقد كانت تلك النساء تُخطّطنَ للإيقاع بها بأسرع وقت، وكان عليّ تنبيهها على الفور. لِذا، صعدتُ السلالم على مهل كي لا يراني أحد، وقرعتُ بابها بشكل خفيف للغاية على أمل أن تفتح لي مِن دون علم زوجها، لكنّها لَم تفعل. قرّرتُ الإنتظار وجلستُ على السلالم وراء حائط يمنعُ أيًّا كان مِن رؤيتي. كان لدَيّ مُتّسَع مِن الوقت بعد أن قلتُ لوالدتي إنّني ذاهبة إلى صديقتي لتشرح لي درسًا في اللغة.

وبعد حوالي السّاعة، سمعتُ الباب يُفتح، ومدَدتُ رأسي لأرى إن كان الزوج يُغادر المنزل لأتمكّن مِن الدخول بعد رحيله. إلا أنّني رأيتُ أحد الجيران وهو رجل متزوّج يُعانقُ عند الباب وفاء ويهمسُ لها بحنان: "كَم أنتِ رائعة... إلى اللقاء يا حبيبتي." ومع أنّني كنتُ لا أزال صغيرة، فهمتُ أنّ ما يحدُث بين هذَين الإثنَين لَم يكن سليمًا. وفضّلتُ العودة إلى البيت لأفكّر بالذي رأيتُه. في اليوم التالي، قصدتُ وفاء وسألتُها كيف كان نهارها بالأمس، فقالَت لي إنّها مكثَت في البيت كالعادة مع زوجها طوال النهار، بالرّغم مِن أنّها رجَته لو يأخذُها في نزهة. وبدأت المرأة بالبكاء والتحسّر على نفسها.

لكن ما حاجتها لتكذب عليّ؟ كنتُ سأعرفُ الجواب بعد أسبوع، أي يوم الإثنَين التالي.

 


إختبأت في المكان نفسه، وطال انتظاري لدرجة أنّني كدتُ أستسلمُ حين فُتِحَ الباب وخرَجَ رجل مِن شقّة وفاء. لَم يكن نفسه الذي رأيتُه قبل أسبوع، إلا أنّه كان أيضًا مِن سكّان المبنى. وكما فعَلَ الذي سبَقَه، عانقَها وقال لها أشياءً جميلة للغاية. وفهمتُ حينها أنّ صديقتي تستقبلُ رجال المبنى وأنّ مخاوف الجارات كانت في محلّها.

إحتَرتُ وتساءلت هل أخبرُ أمّي بالذي يجري وأتسبّب بطرد وفاء، أو أسكت لأنّ الأمر لَم يكن يعنيني؟ فضّلتُ السكوت كي لا أخسَرَ صداقة وفاء والجلسات المُسلّية التي كنّا نقضيها سويًّا، ولَم أقل شيئًا لباقي الشلّة إذ لَم أكن أضمن سكوتهم.

لكنّ كذب وفاء لي أبعَدَني عنها قليلاً، فكنتُ أريدُها كاملة وليس مثلي تختلقُ القصص وتُخبّئ الحقيقة، إلا أنّني بقيتُ أزوُرها... وبقيتُ أراقبُها كلّ يوم اثنَين. لماذا فعلتُ ذلك؟ ربمّا لأنّ شيئًا في داخلي قال لي إنّني سأكتشفُ أمرًا مهمًّا، وهو أنّ والدي زارَ هو الآخر جارته الحسناء. حصَلَ ذلك أمام عَينَيَّ، وشعرتُ بالإشمئزاز عندما رأيتُه يُقبّلُها بشغف. عندها ركضتُ إلى أمّي ضاربة عرض الحائط بصديقتي التي تسرقُ أزواج المبنى.

إستمعَت والدتي إليّ بتمعّن ومِن ثمّ قالَت لي: "أنتِ كاذبة، فلطالما كنتِ كاذبة وأنا لا أصدّقُكِ. إرحلي مِن هنا على الفور وإيّاكِ أن تُحاولي ذرّ الخلاف بيني وبين أبيكِ، فنحن مُتحابان جدًّا!"

ذهبتُ أبكي في غرفتي، فوسط أكاذيبي العديدة، كنتُ في تلك المرّة صادقة.

قطعتُ زياراتي لوفاء بعدما تسبّبَت هي بفسَخ صداقتنا، بمحاولة أخذ أبي مِن أمّي، الأمر الذي اعتبَرتُه خيانة عظمى. كذلك، منَعتُ الشلّة مِن الذهاب إليها بعدما قلتُ لهم إنّ جنًّا يسكنُ شقّتها. وهم كانوا صغارًا فصدّقوني بسهولة.

في عُزلتي، فكّرتُ كثيرًا بما جرى، وفهمتُ أنّ وفاء استعملَتنا بطريقة ذكيّة جدًّا أي فقط بالإيحاء لِجلب حاجاتها، وترتيب وتنظيف بيتها. فتلك المرأة لَم تكن غبيّة أبدًا بل أذكى مِن كلّ سكّان المبنى. هل كان زوجها على علم بما يحصلُ أثناء غيابه؟ لَم أعرف الجواب آنذاك لكن اليوم، وبعدما أصبحتُ إمرأة متزوّجة، أظنُّ أنّه كان يغيبُ عن قصد ليتركَ المجال لزوجته بغية كسب المال والهدايا مِن عشّاقها، لأنّ زيارتها لَم تكن طبعًا مجّانيّة.

وبعد أيّام معدودة مِن حديثي مع أمّي، تركَت وفاء وزوجها المبنى، ولَم أعرف بالأمر إلا حين استدعَتني أمّي إلى غرفتها وقالَت لي:

 

ـ لقد كنتِ على حقّ يا ابنتي. للحقيقة، صدّقتُكِ على الفور، فكنتُ أعلمُ أيّ صنف مِن النساء هي وفاء. وما حسبتِه غيرة، لَم يكن سوى يقين مِن أنّ رجالنا في خطر. لقد رحلَت الأفعى، ولن تعود بعد أن صعدتُ والنساء إليها وهدّدناها بسجنها. لكنّني أريدُ منكِ أمرَين: الأوّل هو أن تنسي ما رأيتِه، أي بما يخصّ أبيكِ، فهو رجل صالح ويُحبُّني بصدق. إلا أنّ المغريات كانت قويّة، ولقد سامحتُه وأريدُكِ ألا تعتقدي أنّ كلّ الرجال هكذا، فالحياة الزوجيّة هي معركة يوميّة علينا خوضها لنحافظ على محبوبنا. والأمر الثاني هو كذبكِ. لاشيء يُضاهي الحقيقة يا ابنتي، فلا تخافي أن تقوليها لأنّها ستزيدُكِ قوّةً وعزمًا، وتُكسبُكِ احترام الناس. عديني بذلك يا حبيبتي.

 

ـ أعدُكِ يا ماما.

 

ـ كنتِ شجاعة جدًّا لأنّكِ جئتِ إليّ بما اكتشفتِه، وأشكركِ على ذلك.

 

نسينا وفاء بسرعة، وعادَت الأمور إلى طبيعتها في المبنى. لزِمَ أمّي بعض الوقت لمسامحة أبي، إلا أنّها عادَت وأحبَّته كما في السابق وهو فعَلَ جهده ليمحو خطأه.

وأنا توقّفتُ عن الكذب طبعًا، وصرتُ أثقُ بحكمة والدتي وبتنا أعزّ الصديقات، أرافقُها أينما تذهب وأساعدُها، بعد أن فهمتُ أنّ ما نحسبُه كمالاً قد يكون مجرّد سراب يُعمينا عن واقع لا يمتُّ للكمال بصلة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button