تزوجني لأهتم بإبنه

إعتقدتُ فعلاً أنّني قادرة على استيعاب تامر، إبن زوجي، لِذا قبلتُ أن أعيشَ مع ذلك الصبيّ البالغ مِن العمر سبع سنوات. فرِحَ وائل كثيرًا لأنّ المرأة التي أحبَّها ستكون أيضًا أمًّا لإبنه بعدما فقَدَ زوجته السابقة قبل سنة، وأنا افتخَرتُ بأن ألعَبَ دورًا يُعطيني فضلاً عند الله والناس.

لكنّ تامر لَم يكن سهلاً بل بالعكس، وندِمتُ كثيرًا لاحقًا على دخول ما أسمَيتُها "معركة يوميّة" بدأَت مع زواجي ولَم تنتهِ حتى اليوم. كان وائل قد قال لي إنّه أخرَجَ إبنه مِن المدرسة عند وفاة أمّه، لأنّ المسكين شعَرَ بضياعٍ أثّرَ على درسه وعلى علاقته برفاقه، واستعانَ بمدرِّسة خاصّة تأتي إلى البيت لتعلّمه ما قد ينقصه وتُحضّره للعودة يومًا إلى المدرسة. وكانت تأتي أيضًا مُربيّة لتبقى مع تامر حتى موعد عودة أبيه مِن العمل.

حين بدأتُ حياتي الزوجيّة مع وائل، لاحظتُ طبعاً طبع تامر الصّعب، لكنّني إمرأة مُثقّقة وأعلمُ أنّ موت أمّه قد سبّبَ له الإرتباك والحزن والشعور بالفقدان. لِذا زدتُ حنانًا تجاهه وأحَطتُه باهتمام خاص. أثنى زوجي على جهودي وشكَرَني على قلبي الكبير، ففي آخر المطاف ذلك الصبيّ لَم يكن إبني.

إلا أنّ مُعاملتي لتامر لَم تأتِ بنتيجة، فكان الأمر وكأنّني لا أفعلُ شيئًا. قصدتُ طبيبًا نفسيًّا أعطاني إرشادات قيّمة، ووعدَني بأنّ كلّ شيء سيجري بسلاسة بعد وقت ليس بطويل.

في تلك الأثناء بقيَ زوجي مُنشغلاً بأعماله وشعرتُ بوحدة كبيرة. لِذا قرّرتُ إجراء مُحادثة مع وائل على انفراد. قلتُ له:

 

ـ حبيبي... تامر يزيدُ غضبًا يومًا بعد يوم ولا أدري ما عليّ فعله.

 

ـ إصبري قليلاً، سيتعوّد عليكِ.

 

ـ لستُ مُتأكّدة مِن أنّ غضبه موجّهًا إليّ بالذات فأنا أعاملُه بحنان... لو تراه وهو في غرفته يلعب، إنّه يكسرُ كلّ ما تقع يداه عليه ويصرخُ لوحده. وحين أُقاطعُه ينظرُ إليّ بشرٍّ يُخيفُني إلى أقصى درجة. علينا عرضه على طبيب.

 

ـ إبني بخير، فهو ليس مريضًا. ربما عليكِ إعطاؤه وقتًا أكثر.

 

ـ وعمَلي؟

 

ـ أتركيه وسأعوّضُ عليكِ فأنا قادرٌ على ذلك. إفعلي ذلك مِن أجلي حبيبتي... مِن أجلنا. أنا مُتأكّد مِن أنّنا سنكون عائلة سعيدة بعد وقت قصير، ثقي بي. شيء آخر كنتُ أودّ التكلّم معكِ بشأنه... لو نؤجّل مسألة الإنجاب قليلاً لأنّ الوقت غير مُناسب، ألستِ مِن رأيي يا حبيبتي؟

 

ـ أنتَ على حقّ.

 


لَم أجد سببًا لعدَم تصديق وائل، فتركتُ عملاً كنتُ أحبُّه لأكرّس نفسي لِتامر، ووضعتُ جانبًا فكرة الإنجاب مُقتنعةً بأنّ مجيء طفل جديد قد يُخرب كلّ ما أحاولُ فعله.

قضاء نهار بكامله مع ولد صعب بدأ يتحوّل إلى كابوس. فكان تامر يبدأ بالصراخ والتكسير منذ لحظة ما يفتحُ عَينَيه. ولَم يكن يهدأ مع المُدرِّسة التي كانت محتارة دائمًا معه. أمّا بالنسبة للمربيّة، فكان وائل قد استغنى عن خدماتها، لأنّني صرتُ موجودة في البيت طوال اليوم.

تعلّمتُ صنع قوالب الحلوى الجميلة مِن أجل ذلك الصبيّ الغاضب دائمًا، راجيةً أنّ يُفرّحَ ذلك قلبه وأن يتقرّب منّي ولو قليلاً. إلا أنّه رمى في وجهي وعلى ملابسي قِطَع الحلوى ثمّ ضحِكَ عاليًا. إمتلأت عينايَ بالدموع ورحتُ أبكي في الغرفة.

الشيء الوحيد الذي كان يُبقي تامر هادئًا لفترة قصيرة، كانت ألعاب الفيديو، خاصّة العنيفة منها التي كانت تُساعده على تفريغ كلّ ما في قلبه، لكن سرعان ما كان يملّ منها ليعود إلى الصراخ والتكسير.

مضَت سنة على هذا النحو، فقدتُ خلالها فَرحتي وأمَلي بأن أعيش بسلام مع زوجي. ندِمتُ على ترك عملي الذي كان نافذتي الوحيدة إلى عالم سليم وهادئ، فقلتُ لزوجي:

 

ـ لَم أعد أتحمّل الوضع، علينا التصرّف.

 

ـ ماذا تعنين؟

 

ـ يجب عرض تامر على طبيب مُختصّ.

 

ـ إبني ليس مجنونًا! لقد خابَ ظنّي فيكِ، فلقد خلتُ أنّكِ إمرأة صبورة ومُحبّة! عندما تزوّجتِني كنتِ تعلمين أنّ لي إبنًا وعليكِ العَيش معه.

 

ـ صحيح ذلك لكنّ الولد مُضطرب!

 

ـ الا تُحبّيني؟

 

ـ بلى، وكثيراً

 

ـ إذًا عليكِ المحاولة... مِن أجلي.

 

ـ وماذا تفعل أنتَ مِن أجلي؟ تتركني طوال النهار مع ولد خارج عن السيطرة لتعود في المساء وتقضي أقلّ مِن ساعة معي، قبل أن تخلد للنوم وتجلس لدقائق قليلة مع تامر.

 

ـ عليّ العمل لأؤمّن لكِ حياة مُريحة. أم أنّكِ تُريدين أن أترك عملي لأجلس معكِ؟

 

ـ أُريدُ ولدًا.

 

ـ ليس الآن فلقد تكلّمنا بالموضوع واتّفقنا على أن ننتظر.

 

ـ ننتظرُ ماذا؟ أن يتحسّن تامر؟ وكيف له أن يتحسّن مِن دون مُعالجة؟

 

في تلك الليلة نمتُ باكية، لأنّني شعرتُ أنّ زواجي في خطر وقد أخسرُ وائل. لِذا قرّرتُ أن أصبر وأن أجِدَ طريقة لاستيعاب إبنه.

لكن في اليوم التالي رمى تامر إحدى ألعابه في وجهي، الأمر الذي استدعى ذهابي إلى المستشفى لتقطيب الجرح البالغ في أعلى حاجبي. ركضَ وائل إلى قسم الطوارئ وقال حين رآني:

 

- لقد أخفتِني بصراخكِ عبر الهاتف وأرى أنّ الأمر بسيط.

 

في تلك اللحظة أدركتُ أنّ زوجي لا يُحبّني وأنّه غير قادر على حبّ أحد سوى نفسه.

 

لَم يتغيّر شيء بعد عودتي مِن المشفى، سوى أنّني صرتُ أتفادى تامر قدر المُستطاع، وأجبرتُ زوجي على إعادة المُربيّة بحجّة أنّني أشعرُ بدوار دائم وأخافُ ألا أعود قادرة على إبقاء عين ساهرة على إبنه. قبِلَ وائل على مضض، وارتاحَ قلبي قليلاً خاصّة أنّني نويتُ إسترجاع عمَلي قريبًا وقضاء أطول فترة مُمكنة خارج البيت.

 


ورأيتُ كيف أنّ المُربيّة، شأنّها شأن المُدرّسة، كانت تُعاني بصمت مِن تامر. وعندما وجدتُ تلك المسكينة ذات يوم تبكي في الحمّام، أخذتُها بين ذراعيَّ وعرضتُ عليها فنجانًا مِن الشاي. وجلَسنا في المطبخ إلى حين هدأت قليلاً وقالَت لي:

 

ـ لَم أشأ العودة لكنّني فعلتُ ذلك مِن أجلكِ سيّدتي، فليس عليكِ تحمّل حالة تامر وأنتِ عروس. أنا والمدرّسة مُعتادتان على الوضع ونعرفُ كيف نتعامل مع ولد مريض.

 

ـ مريض؟ ماذا تعنين؟ إنّه غاضب لأنّ أمّه ماتَت.

 

ـ لا، فلقد كان مُضطربًا قبل موتها بسنوات. للحقيقة، أمّه كانت مريضة أيضًا لكن ليس بقدر إبنها.

 

ـ لكنّ زوجي قال لي...

 

ـ أعلم ما قالَه لكِ يا سيّدتي، فهو أوصانا بعدَم البَوح لكِ بحقيقة حالة تامر. إنّ الولد يُعاني مِن الذهان، أي إضطراب نفسيّ حاد ورثه على الأرجح مِن المرحومة.

 

ـ يا إلهي... وهل مِن علاج لحالته؟

 

ـ لقد أعطَيناه علاجًا لَم ينجح معه، فوصَفَ لنا الطبيب أقراصًا أخرى.

 

ـ يأخذُ تامر أقراصًا؟ كيف ومتى؟

 

ـ تُعطيه المُدرّسة أقراص الصباح وأنا الباقي.

 

- لكن كيف تلّقى تامر أقراصه عندما تركتِ بيتنا؟

 

ـ أظنّ أنّ السيّد وائل هو مَن اهتمّ بالأمر.

 

ـ سرّيًّا... أنا لا أصدّق ما يحصل. أشكرُكِ على صراحتكِ وما هو أهمّ على محبّتكِ لي.

 

رحتُ إلى غرفتي لأفكّر بما اكتشفتُه لتوّي وبكيفيّة التعامل مع الوضع. إنتظرتُ أن يعود وائل مِن عمله لأتكلّم معه:

 

ـ أعرفُ الحقيقة... أعرفُ كلّ شيء عن وضع تامر الحقيقيّ. أنتَ لَم تقل لي إنّ ابنكَ مريض نفسيّ ويتلقّى علاجًا.

 

ـ وما الدّاعي لذلك؟

 

ـ ما الدّاعي؟ لقد كذبتَ عليّ وغشَشتني! أوهمتَني بأنّ ابنكَ مُضطرب بسبب موت أمّه، ونسيتَ أن تقول لي إنّها كانت أيضًا مريضة! لقد قضيتُ سنة بكاملها أحاولُ إيجاد طريقة لاستمالة تامر لي وتهدئته، وتركتُ عملي وأرجأتُ مسألة الإنجاب مِن أجله! وأنتَ لا ترى أيّة مُشكلة بكلّ ذلك؟ وماذا عن أذيّته لي؟ أنظر إلى جبيني!

 

ـ إن كنتِ تُحبّيني...

 

ـ إن كنتَ أنتَ تُحبُّني فعلاً لمَا أقحمتَني في هكذا مسألة! أنتَ لَم تُساندني حتى بل أدَرتَ ظهركَ وأكملتَ حياتكَ وكأنّ شيئًا لا يحصل! إعتبَرتَني إحدى العاملات لدَيكَ. أنتَ رجل أنانيّ وغشّاش! لَم تُعطِني فرصة الخيار حتى!

 

ـ ماذا تنوين فعله؟

 

ـ الرّحيل طبعًا.

 

ـ أنتِ الأنانيّة!

 

ـ لا، بل أريدُ استرجاع حياتي. أنا لستُ أخصّائيّة نفسيّة بل إنسانة أرادَت أن تعيش سعيدة مع رجل أحلامها. لقد استغلَّيتَني لترتاح، مُسبّبًا لي القلق والتعب والخوف. لو أطلَعتَني على حالة إبنكَ الحقيقيّة وقبِلتُ بها، لكان مِن حقّكَ نَعتي الآن بالأنانيّة ومُحاسبتي. الوداع.

 

حاولتُ تقبيل تامر قبل رحيلي إلا أنّه ركلَني وخدَشَني. أسفتُ على ذلك المخلوق الصغير الذي لَم يطلب أن يرثَ الجنون، لكنّني لَم أعد قادرة على مُساعدته.

علِمتُ لاحقًا مِن المُربيّة التي بقيتُ على اتّصال معها بأنّ العلاج الجديد لَم ينجح مع تامر، وأنّه أدخِلَ المشفى للمزيد مِن الفحوصات. لكن أكثر ما أحزنَني هو أنّ وائل ما لبِثَ أن عقَدَ خطوبته على إحداهنّ ليُلقي الحمل عليها. هل يا تُرى أخبرَها بحقيقة وضع تامر أم أنّه أوقعها في فخّه كما فعَلَ معي؟ ليكن الله بِعونها!

بالنسبة لي، فلقد وجدتُ الطمأنينة والهدوء في أحضان زوج مُحبّ وأنا اليوم حامل. أفكّرُ باستمرار بتامر، وأدعو له بالشفاء مع أنّ حالته صعبة للغاية، وقد يضطّر إلى أخذ علاج مدى حياته التي ستتّسمُ بالعنف والغضب والأذى لنفسه ولغيره.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button