بحثتُ عن الزوجة المثاليّة لكن...

كبِرتُ في عائلة يسودُ بين أفرادها الحبّ والاحترام، وأذكرُ كيف كان أبي يُدلّع أمّي ويُعطيها ما يلزمُها مِن حنان ومال وراحة. وهي بالمقابل قامَت بدورها كزوجة وربّة بيت على أكمل وجه، وجعلَته يشعرُ حقًّا بأنّه الرجل المسؤول عن العائلة. أي أنّني شاهدتُ وعايشتُ كيف يكون الزواج المثاليّ، وبالطبع تمنَّيتُ أن أجد الزوجة التي ستكون نصفي الثاني. لكنّ حظّي لَم يكن مثل حظّ أبي، وكل اللواتي عبَرنَ في حياتي كنّ تركضنَ وراء مركزي ومالي ولَم تحاولنَ إعطائي شيئًا بالمقابل. وصلتُ إلى سنّ الأربعين ولا أزال عازبًا ومُتعطّشًا إلى العَيش كما ربيتُ، أي في مناخ سليم مليء بالحب. هل أنّ جيل والدَيّ كان أكثر محبّة وتفاهمًا، أم أنّ هما كانا مِن القلائل المبارَكين؟

وباتَ أمامي خيارَين: إمّا أن أبقى عازبًا حتى آخر أيّامي أو أن أغيّر أسلوبي بالبحث عن إمرأة حياتي. فقد كنتُ حتى ذلك الحين أنتقي الفتيات والسيّدات مِن داخل طبقتي الإجتماعيّة الراقية والمُتعلّمة، ولكن رأيتُ أنّ الوقت حان لأنظر في أماكن أخرى، أي بين عامّة الشّعب.

لِذا اتّبعت خطّة كنتُ قد رأيتُها في أحد الأفلام، وهي أن أدّعي أنّني مواطن عاديّ جدًّا. ورحتُ أشتري ثيابًا عاديّة وسيّارة عاديّة، وتخلّيتُ عن شرب السيجار الفاخر وخلَعتُ ساعتي الثمينة. وصَلَ الأمر بي لأستأجر شقّة صغيرة في حيّ شعبيّ، فهكذا لطالما كنتُ، أهتمّ بالتفاصيل الصغيرة في أيّ مشروع أقومُ به، الأمر الذي ساهَمَ إلى حدّ كبير بنجاحي العمليّ.

عندما أصبحتُ جاهزًا، صِرتُ أرتاد الأماكن العامّة، أي المقاهي والمُتنزهات، وأجلسُ هناك بعد عملي وفي نهاية الأسبوع، على أمل أن أجد الفتاة أو السيّدة التي ستحبُّني لشخصي وليس لحسابي المصرفيّ.

تطلّبَ الأمر أسابيع طويلة، وخلتُ أنّ لا جدوى مِن الذي أفعلُه وكدتُ أستسلم... حين وجدتُها أخيرًا.

كانت رُبى إمرأة في الثلاثين مِن عمرها وجميلة جدًّا. والذي لفتَني فيها، هو أنّها لم تكن تضع المساحيق ولا تلتفت مِن حولها وكأنّها تقول للناس: "أنظروا إلى جمالي"، بل كانت تجلسُ على مقعد المُتنزّه مع صبيّ في الرابعة مِن عمره وتقرأ في كتابها بينما هو يلعبُ بهدوء.

وبعد أن درستُها جيّدًا، قرّرتُ أخيرًا أن أتكلّم معها. كان قلبي يدقّ بسرعة لكثرة حماستي وخوفي مِن أن تكون هذه الجميلة متزوّجة. لَم أكن أمانع أن تكون مُطلّقة أو أرملة ولدَيها ولد، بل كان همّي الوحيد نقاوة قلبها وشخصّيتها.

حين اقتربتُ منها وعرّفتُها بنفسي، إبتسمَت رُبى لي ورأيتُ أسنانها البيضاء الجميلة وكأنّها صفّ مِن اللؤلؤ. إحمّر وجهي عندما سألَتني ما الذي أريدُه منها، فأجبتُها بصعوبة: "أودّ التعرّف إليكِ، إن لَم يكن مِن مانع". ضحِكَت ربُى لارتباكي وأجابَت: "لا مانع لدَي، هذا إن كان قصدك شريفًا، وإلا أرجوكَ ألا تضيّع مِن وقتكَ ووقتي". جلستُ بجانبها على المقعد وسألتُها عن الولد، وعلِمتُ منها أنّه ليس إبنها بل إبن الناس الذين تعمل لدَيهم كمربّية. تكلّمنا عن الأولاد عامّة، وشعرتُ أنّ لدَيها حبًّا كبيرًا لهم فارتاحَ قلبي، إذ كنتُ أنوي تكوين عائلة كبيرة.

 


أخبرتُ رُبى أنّني موظّف صغير في شركة محاسبة، وأنّني أبحثُ عن عروس تُعطيني الحب الذي ينقصُني، وهي قالَت إنّها فقدَت أملها بالناس لأنّهم باتوا لا يهتمّون سوى بالأمور المادّيّة. كان الأمر وكأنّنا وجدنا بعضنا أخيرًا! أعطَيتُها رقم جوّالي، وهي وعدَتني بأن تكلّمني في المساء. تركتُ المُتنزّه فرِحًا ومليئًا بالأمل، وأخذتُ أنتظرُ مُكالمة رُبى على أحرّ مِن الجمر.

وفَت رُبى بوعدها لي، وتكلّمنا عبر الهاتف طوال الليل وكأنّنا كنّا نُريدُ أن نروي لبعضنا كلّ شيء. أخبرَتني عن عائلتها وعملها وحبّها للناس، وأنا عن حاجتي للراحة العاطفيّة. إخترَعتُ قصّة خاصّة بي عن ماضٍ بسيط، فلَم أشأ أن أكذبَ عليها كثيرًا كي لا أخذلُها عندما تعرف الحقيقة عنّي.

إلتقينا مجدّدًا بعد يومَين، ثمّ مرارًا، وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدًا للغاية. وبعد شهرَين على هذا النحو، طلبتُ مِن رُبى أن تقبل بي زوجًا لها وهي وافقَت بسرور. أخذتُها حيث كنّا سنسكن، أي إلى الشقّة المستأجرة التي أعجبَتها بالرّغم مِن بساطتها، وذهبنا إلى محل المجوهرات حيث ابتَعتُ لها خاتمًا بسيطًا وضعتُه في إصبعها، وأنا أنظرُ إلى عَينَيها الواسعتَين المليئتَين بالفرح.

دبَّرَت رُبى لي زيارة لأهلها الذين يسكنون في قرية بعيدة عن العاصمة، وأعترفُ أنّني أحبَبتُ هؤلاء الناس الذين يعيشون مِن دون تعقيدات، الأمر الذي لَم أعرفه بحياتي. هناك، طلبتُ مِن والدَيها يَد ابنتهما، وهم وافقا وأوصياني بها وبإسعادها. خجلتُ مِن نفسي لكذبي عليهم هكذا، لكنّني كنتُ واثقًا مِن أنّهم سيُسامحوني عندما يعلمون أنّني ثريّ. فالمال يُنسي الناس الكثير مِن الآثام.

لَم يتسنّ لرُبى التعرّف إلى والدَيّ، لأنّهما كانا قد توفّيا، أو على أختي المُسافرة بعيدًا، أو على أصدقائي الذين ابتعدتُ عنهم مِن أجل سلامة سَير خطّتي، لكنّني وعدتُها بأنّها لن تندَم على الزواج مِن رجل وحيد. وحدَّدنا موعد الزفاف بعد ستّة أشهر، كي أتأكّد أكثر مِن اختياري.

وقبل الفرح بشهر وحد، إعترَفتُ لخطيبتي بالحقيقة. غضبَت رُبى منّي كثيرًا، وكادَ الأمر أن يُؤدّي إلى انفصالنا، فهي اعتبرَت أنّني شكَكتُ بنواياها وأنّني اعتبرتُها طامعة بي وبمالي، إلا أنّني عرفتُ أخيرًا كيف أقنُعها بصواب ما فعلتُه. وخافَت حبيبتي ألا تعرف كيف تعيش في مجتمع راقٍ، فوعدتُها بأن أساعدُها على ذلك.

تزوّجنا وعشنا أيّامًا جميلة للغاية مليئة بالحبّ والتفاهم. بالطبع لَم يفهم محيطي كيف اخترتُ إنسانة "لاتليقُ بي"، لكنّني أبقَيتُ أذنيَّ مقفلَتَين للتعليقات التي أحاطَت بي. فالكنز الذي وجدتُه برُبى كان أثمن مِن كلّ ما ومَن عرفتُه في حياتي.

لكنّ الناس لا تحبّ رؤية غيرها سعيدًا، فجاء إليّ أحد معارفي ليقول لي إنّ رُبى كانت مربيّة إبن صديق لنا، وإنّها كانت تعرفُ حتمًا مَن أكون. هل يُعقَل أن يكون على حقّ؟ لَم أسأل رُبى يومًا عن إسم أو عنوان مُستخدمَيها، ولو عرفتُ تلك المعلومات آنذاك، لكنتُ أنا أيضًا شككتُ بالأمر.

في المساء ذاته، سألتُ زوجتي إن كانت قد رأتني قبل لقائنا في المُتنزّه أو سمعَت باسمي. وهي، بعد أن استغرَبت الأمر، أجابَتني بالنفي. فالجدير بالذكر أنّني دُعيتُ قبل سنتَين إلى بيت مُستخدمَيها لقضاء سهرة ضمَّت شلّة مِن الأصدقاء، ولَم أرَ هناك رُبى أو الولد، بل فقط صاحبَي البيت. فسّرَت زوجتي الأمر بأنّها بقيَت في الغرفة مع الصبيّ طوال الوقت، واكّدَت لي أنّها لَم تخرج منها ولو مرّة واحدة.

وانتابَني الشكّ. هل يُعقل أنّ يكون كل ما فعلتُه سدىً وأنّ التي أحبَبتُها نفّذَت خطّة أفضل مِن خطّتي؟

قصدتُ مُستخدِم رُبى القديم الذي علِمَ طبعًا بزواجي منها وسألتُه عنها، أي كيف كانت حين كانت تعمل لدَيه وإن كانت تعرفُ أيّ شيء عنّي. سكَتَ الرجل ثمّ قال:

 

ـ وهل مِن منفعة الآن؟ فلقد تزوّجتما. يا لَيتكَ سألتني هذه الأسئلة قبل فوات الأوان.

 

ـ ماذا تقصد؟

 


ـ لا شيء... لا شيء.

 

لَم أحصل على أيّة معلومة مِن صديقي، فرحلتُ مشغول البال. ومنذ ذلك اليوم، ساءَت علاقتي برُبى. ليس بسببها، بل بسبب الشكّ الذي سكَنَني. باتَت زوجتي بمثابة العدوّ الذي تسلَّلَ إلى حياتي بطريقة خبيثة. لَم أقل لها شيئًا بالتحديد، بل صِرتُ أُسيء التعامل معها وبرُدَ حبّي لها إلى حدّ الصّقيع. وبعد أشهر قليلة، قرَّرَت رُبى أنّ مِن الأفضل لنا أن ننفصل. لَم أمانع وباشرتُ فورًا بمعاملات الطلاق. أعطَيتُها ما يكفي لتعيش بكرامة في تلك القرية مع أهلها، وأقفلتُ صفحة رُبى نهائيًّا راضخًا لمصيري، أي أنّني سأعيشُ وحدي لآخر أيّامي.

 

مرَّت حوالي الأربع سنوات، وأنا منكبٌّ على أعمالي كي أنسى خذلاني وشوقي لحنان رُبى. وقرَّرتُ السفر إلى أختي، فكان قد مضى وقت طويلاً مِن دون أن أراها. أمضَيتُ أسبوعَين جميلَين في الولايات المتحّدة، وحاولَت أختي إقناعي بالزواج مجدّدًا ومِن إحدى صديقاتها الرّاقيات. رفضتُ بتهذيب فإذ باختي تقول لي:

 

ـ ما بال صديقتي؟ ألَم تُعجِبكَ لأنّها ليست مربّية أطفال؟

 

ـ لا داعٍ لهذا الكلام يا أختي. لستُ محظوظًا في ما يخصّ النساء.

 

ـ هي ليست مسألة حظ يا أخي، بل دهاء منّي. وعليكَ شكري لأنّني خلّصتُكَ مِن هذه المرأة، فهي وأهلها لا يليقون بكَ أو بنا. إعتبرَتُ أنّكَ فقدتَ عقلكَ وكلّ ما فعلتُه هو إعادتكَ إلى صوابكَ.

 

ـ لَم أفهم. ماذا فعلتِ؟!؟

 

ـ عندما علِمتُ أنّ رُبى كانت تعمل لدى صديقكَ، خطَرَ ببالي أن نقول إنّها كانت تعلم مَن تكون.

 

ـ ماذا؟!؟ إتّفَقتم جميعًا عليّ؟

 

ـ ليس عليكَ، بل لأجلكَ. ما مِن أحد منّا كان مُمتنًا مِن اختياركَ، فكيف تجيء لنا بإنسانة عاديّة؟ أنسيتَ مَن نكون؟

 

ـ لم أجئ بها لأحد، بل لنفسي. ولَم أنسَ مَن أكون بل أنتِ ورفاقكِ نسيتم إنسانيّتكم. فأمثالكم هم السبب بتعاستي. سئمتُ مِن العَيش مِن أجل المظاهر والثروة، وأردتُ الحصول على بساطة رُبى وأهلها، لأنّهم يعرفون كيف يُحبّون، على عكسكم. ما دخلكم بحياتي؟ وكيف تدمّرون زواجي؟

 

ـ أنتَ أيضًا دمّرتُه، لَم يُجبركَ أحد على تصديق مجرّد أقاويل. لو كنتَ واثقًا مِن زوجتكَ، لضربتَ الحائط بخطّتنا. أنتَ مُذنب مثلنا، لا بل أكثر منا.

 

تركتُ الولايات المتّحدة مستاءً إلى أقصى درجة مِن أختي وأصدقائي ومِن نفسي. وأوّل شيء فعلتُه عند هبوط الطائرة في البلد، كان الذهاب إلى رُبى. لَم أكن آمل أن تُسامحني، بل على الأقل أن تسمع منّي ما حصل.

في البداية، لَم تكن رُبى تُريدُ مقابلتي، لكن أمام اصراري جلسَت معي في صالون بيت أهلها وهذا ما قلتُه لها:

 

ـ لا عذر لي أبدًا... خوفي مِن أن يتكرّر ما حصَلَ لي مع نساء أخريات أنساني أنّكِ لستِ مثل غيركِ. حكمتُ عليكِ مُسبقًا لأنّ الشكّ كان يسكنُ قلبي، ليس تجاهكِ بل تجاه النساء. وحين جاءَتني تلك المعلومات المغلوطة، تمسّكتُ بها وكأنّني بذلك أؤكّد ما كنتُ أخافُ منه. لقد أحبَبتِني بحقّ وأنا لا أستحقُّ هذا الكمّ مِن الحبّ. يا لَيتكِ تُسامحيني... ويا لَيتكِ تعودين إليّ، أعدُكِ..

 

ـ لا تُكمِل مِن فضلكَ، فوعودكَ بإسعادي كانت هشّة. كيف أعودُ إليكَ بعدما عاملتَني بقساوة وجفاف واعتبرتَني طمّاعة خبيثة؟ أين أذهب بكرامتي؟ لن أكذب عليكَ، فأنا لا أزال أحبُّكَ لكنّني لا أحبّ محيطكَ ولا حياتكَ الإجتماعيّة. أحبّ هذا المكان البسيط والهادئ حيث الناس على طبيعتهم يُساعدون بعضهم على تخطّي المِحَن. هذا هو مكاني الحقيقيّ.

 

ـ إذًا سآتي إليكِ وأعيشُ معكِ هنا.

 

ـ لن تقدر على ذلك.

 

ـ سنرى.

 

مضى على انتقالي إلى بلدة رُبى أكثر مِن عشر سنوات. تزوّجنا مِن جديد، وبنَينا بيتًا جميلاً في القرية. لدَينا ولدان وعائلتنا أشبه بالعائلة التي كبرتُ وسطها، لأنّ الحبّ هو رابطنا وحياتنا بسيطة وطبيعيّة. صحيح أنّ مالي يُساعدنا على العَيش باكتفاء، لكنّني لَم أعد أهتمّ سوى بعائلتي بعدما بعتُ شركتي وتقاعدتُ مُبكرًا. ساعدتُ أيضًا أهالي القرية بإقامة مركز طبيّ صغير، وتحسين بعض الأماكن. ومع أنّني الذي جلَبَ لهم المال اللازم، فإنّهم يعتبروني واحدًا منهم.

لا أزورُ العاصمة سوى مرّة كلّ ستّة أشهر، وأعودُ بسرعة إلى ملاذي، أي زوجتي وولدَيّ وأهالي تلك البقعة الجميلة التي أنوي العَيش فيها حتى آخر أيّامي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button